Friday 13 January 2017

ليس كمثلِهِ شخصٌ...!




محمد صادق الحسيني



إنه رجل الفصول الأربعة في إيران، رجل الثورة والدولة والحرب والسلام…!

وصاحب مقولة إيران نقطة تقاطع التاريخ، والرقم الصعب في معادلة صنع القرار في الجغرافيا السياسية الإيرانية…!

إنه رجل الدين الأكثر جدلاً في تاريخ الثورة الإسلامية الإيرانية…!

إنه رجل التوازنات بين رجال الطبقة الدينية ورجال الطبقة السياسية…!

إنه رجل الثورة الذي كاد أن يبتعد عنها من أجل بناء الدولة المعاصرة، لكنه لم يغادر مربّعاتها الأساس…!

إنه رجل الدولة الحازم والذي كاد أن يتحمّل تصدّعاتها الداخلية من أجل حماية شعبه من التصادم والانشقاق…!

إنه رجل دولة ولاية الفقيه الذي دافع عنها حتى الموت، لكنه كاد أن يختلف مع قيادتها حتى الموت حفاظاً على ما ظنه أشرف من الموت…!

تتلاطم عندي المشاعر الآن، وأنا أكتب عن صديق يختصر لي المسافات كلها، صديق ظلّ دوماً كالطود الشامخ في تاريخ إيران والرمز الثائر الذي ظلت بصمته قوية في كلّ صغيرة وكبيرة في مطبخ صناعة القرار…

ليس كأيّ تلميذ من تلاميذ الحوزة الدينية الإيرانية، وليس كأيّ رجل من رجالات الثورة، وليس أيضاً كأيّ رجل من رجال الطبقة السياسية التي حكمت الدولة الإيرانية المعاصرة، وليس كأيّ زعيم من زعماء المنطقة والعالم…

لا هو برجل الدين التقليدي المنقطع عن طبقة الأفندية، ولا هو بالأفندي المنفصل عن جسم المؤسسة الدينية، ليس رجل المؤسسة الدينية بالضبط الذي تحبسه المقولات أو الضوابط المشهورة والمتعارف عليها، كما غالبية أقرانه الذين عمل معهم كالشهيد بهشتي مثلاً رغم تقارب شخصيتيهما، ولا ذلك المثقف المتصادم مع المؤسسة الدينية التقليدية ولو في بعض سياقاتها، كما هو الدكتور علي شريعتي الذي أحبَّه وغرف من معينه…

هو الابن الروحي للإمام الخميني الراحل وعقله المنفصل في سنوات الثورة والتحدّي الأولى، لكنه أيضاً الجريء والشجاع في إظهار رأيه المتفاوت والمتمايز عن قائده والصادم لكثيرين من زملائه وهو يطرح عليه قبول القرار 598 القاضي بوقف الحرب المفروضة من جانب العراق، حتى لو اضطر الأمر أن يأخذ الموضوع على عاتقه الشخصي، وأن يتجرّع هو كأس السمّ بدلاً من القائد، بل وحتى لو تطلّب الأمر إعدامه، من أجل أن تبقى الثورة، كما عرض، بسخاء قلّ نظيره…!

ثائر يخبّئ رصاصات اغتيال أخطر رجالات الشاه تحت عباءته عن أعين السافاك ليوصلها لأبناء الكفاح المسلح من رفاق النضال ليهزّوا عرش الطاغوت أيام حكم الاستبداد والقهر الشاهنشاهي.

لكنّه هو نفسه الذي يشفع لأحد نواب البرلمان في الدورة الأولى بعد سقوط الطاغية، وتفكّك أجهزة أمنه الوحشية ومنها امبراطورية منصور قدر في لبنان، بأنه أخذ والدة هذا الرمز الخطير بالقول: والله لو طلب مني هذا الطلب لفعلته، إذ كيف أخذل امرأة عجوز لا تفكر إلا في أداء وظيفتها الدينية…!؟

في عز الاجتياح والغزو «الإسرائيلي» للبنان، وبينما الدنيا مقلوبة رأساً على عقب، وأحرار لبنان وبقية السيف من أبناء الإمام المغيّب السيد موسى الصدر في حيص بيص يبحثون عن سبيل نجاة مقابل ضبابية قاتلة في الجسم اللبناني التقليدي والسيد أبو هشام حسين الموسوي يبحث عمّن يستقبله في طهران ليشرح ملابسات الحيرة والارتباك، لم يكن لتلك المهمة إلا هو صاحب الهمة وعقدة الاتصال الحميمة ليسمع منا على عجل، ومن ثم يدخل على الإمام القائد في خلوة ليعود إلينا سريعاً معلناً قرار زعيم الثورة والدولة أن اذهبوا فوراً إلى سفير دولتنا وممثلي الشخصي في الشام السيد محتشمي ولتنطلق المقاومة، ونحن لكم بمثابة الأنصار…!

إنه رجل فلسطين أيضاً الذي لطالما فتح أبوابه وقلبه لموفدي قائد الثورة الفلسطينية آنذاك أبو عمار، في وقت أغلقتها بعض دوائر الديبلوماسية الإيرانية، فكان الكاسر للعُرف والبروتوكول…

إنه الرجل الذي فك الغاز تآمر العالم على الثورة، فجازف مرة في استقبال رمز من رموز الاستكبار الأميركي العدو، لعله يستطيع النيل من جبروت وعنجهية الشيطان الأكبر، فيجرّه الى وحل تناقضات عالم الاستخبارات، فيطيح بعدد من كبار جنرالات إدارة الشرّ المطلق يوم استقبل رجل الأمن القوي في إدارة البيت الأبيض … ، فيما اختتم هذه اللعبة المعقدة بتحمّل المسؤولية شخصياً باستقبال موفد ياسر عرفات حاملاً رسالة من الرجل الأول الذي أشعل الحرب ضدّ بلاده وشعبه – صدام حسين – يطلب فيها الصلح أو ما سُمّي وقتها بالسلام، رغم كلّ تعقيدات مطبخ صناعة القرار الإيراني من جهة، وثقل وقع المهمة وتداعياتها على قلوب العامة والخاصة في بلد لم يبق فيه بيت إلا وناله من شظايا الحرب العدوانية المشؤومة…

إنه الرجل الذي كاد أن يطيح بالإدارة الأميركية أكثر من مرة من خلال فتح أبواب الحوارات معها على قواعد ظاهرها مغرٍ لكنّ عمقها ثابت لا يتزحزح قيد أنملة عن معايير الثورة والدولة الوطنية والدينية…

إنه الرجل الذي كاد يفكّ ألغاز قضية الإمام المغيّب لولا تآمر العالم الخفي ودهاليز الاستخبارات الدولية…!

إنه الرجل الذي كاد أن يفك عقدة مجلس التعاون الخليجي ودولة الإمارات العربية المتحدة في موضوع الخلاف على جزر أبو موسى والطمبين الإيرانية، لولا تراجع الأخيرة أكثر من مرة وخذلان كبيرتهم السعودية…!

إنه الرجل الذي عرض بحضوري على الملك عبد الله تشكيل لجان تخصصية علمائية وثقافية نخبوية وأمنية واقتصادية لإبقاء جسور الحوار السعودي الإيراني قائمة على أسس علنية، لولا ممثل إدارة بوش لدى العائلة السعودية الأمير بندر بن سلطان الذي كان يخطط مبكراً لإثارة الفتنة السنية الشيعية خدمة لمخطط أراد للمنطقة ما أراد من حروب المئة عام، والتي كانت أوجها الحرب المفتوحة على سورية…!

إنه الرجل الذي لم يترك صغيرة وكبيرة من اقتراحات او افكار يمكن ان تعزز من الوحدة الوطنية إلا وكان لها أذناً صاغية، لأنه كان يعشق فضيلة الاستماع حتى لأشدّ مخالفيه الذين طالما أخذتهم له والتقاهم بكلّ كرم وارتياح، رغم قسوة تعاملهم معه من كلا الجناحين، لا سيما اليسار الديني…!

إنه الرجل الذي وإنْ اختلف في أواخر حياته في قراءته أو تقديره للموقفين الداخلي والخارجي مع الإمام السيد القائد رفيق دربه لنصف قرن من الزمان، إلا أنه لطالما أسرّ لي في أكثر من مناسبة ومنها فتنة العام 2009، بأنه مهما حصل أو سيحصل وأينما تذهب الأمور ومهما اشتدّت العواصف وتلاطمت الأحداث فإنني – أيّ هو – لن أترك هذا القائد الذي لا بديل له ولا نظير، وحده يواجه الطوفان، وكما تقول في اقتراحك – ايّ اقتراحي – لن أترك إيران طعمة للغرب ليقسمها أو ينال منها، وكما هو تعبيرك – ايّ تعبيري- فإنّ إيران لن تقبل القسمة على اثنين، نعم سأظلّ حريصاً على وحدتها الوطنية، فهي الرأسمال الذي لا ينضب ولن أفرط به يوماً…!

وهكذا ظلّ لآخر نفس فيه، رغم قراءته المتفاوتة احياناً حول سبل علاج الحرب الكونية على سورية أو سبل معالجة قضية فتنة العام 2009 مع رفيق دربه الحميم وقائده وقائدنا آية الله العظمى السيد علي الخامنئي، وهو الذي قال عنه يوماً: بالنسبة لي لن يستطيع أحد أن يكون مثل هاشمي رفسنجاني…

فعلاً أستطيع القول:

ليس كمثله شخص وهبه الله لإيران قبل 82 عاماً وخسرته إيران بالأمس، كلّ إيران….

لذلك كان الشارع الإيراني بتلاوينه وتضاريسه وتجاعيده كلها حاضراً في وداعه الأخير…

خسرناك وخسرَك العالم أيضاً، أيها الرمز والقامة الشامخة في تاريخ إيران، ولكن نقول لك، كما قالت زوجتك الكريمة، وهي تحضّر الفطور لها ولك كعادتها، صباح أمس، إلى أن تذكّرت بأنك غادرتها فعلاً، وأنك الآن في أوج احتفاليتك الملكوتية فكتبت:

«نَمْ قرير العين أيّها الرجل الكبير…

فأنتَ تسللتَ الى الملكوت الأعلى في لحظة قيامة احتفالية أرادها الله لك في هذه اللحظة…».

إنه أكبر هاشمي بهرماني، نسبة إلى مسقط رأسه بهرمان التابعة لرفسنجان.

هيهات أن يأتي الزمان بمثله…

إن الزمانَ بمثلِه… لَبخيلٌ…!

(Visited 109 times, 109 visits today)

Related Videos





River to Sea Uprooted Palestinian   
The views expressed in this article are the sole responsibility of the author and do not necessarily reflect those of the Blog!

No comments: