من الواضح أن الأطراف المعنية بالقضية الفلسطينية خارج سياق قوى المقاومة لا تزال تستميت من أجل الحيلولة دون اندلاع انتفاضة جديدة، كل طرف لأسبابه الخاصة.
هناك ابتداءً الطرف الإسرائيلي الذي يتمتع منذ حرب غزة بهدوء استثنائي ومستوى من الأمن والأمان لم يتمتع به منذ اندلاع انتفاضة الأقصى نهاية سبتمبر/أيلول من عام 2000، الأمر الذي أتاح له تجاوز الأزمة الاقتصادية العالمية على نحو يبدو الأفضل، ليس بين دول المنطقة فحسب، وإنما بين دول العالم أيضا.
هو معني أيضا باستمرار هذه الحالة من الهدوء، ليس فقط للسبب المشار إليه، أعني الأمن والأمان، بل لاعتقاده أنه يمضي حثيثا في اتجاه تكريس البرنامج الذي يحظى بإجماع استثنائي في الأوساط السياسية والأمنية، والذي يتمثل في برنامج "السلام الاقتصادي" بحسب تعبير نتنياهو، والدولة المؤقتة بحسب تعبير الأطراف الأخرى، من دون فقدان الأمل في فرض حل نهائي على السلطة يحاكي وثيقة جنيف وملحقها الأمني، الذي يكرّس عمليا دولة كانتونات تحت الإبط الإسرائيلي تريحه من عبء إدارة السكان من دون أن تهدد أمنه قيد أنملة، في ذات الوقت الذي تسمح له بالإبقاء على الأجزاء الرئيسة من القدس، بما فيها تلك التي يعتقد أن الهيكل "الحلم" يرقد تحتها.
" الهدوء القائم حاليا يبدو أكثر من ضروري لإسرائيل لمواجهة الخطر الذي يحظى بالأولوية في هذه المرحلة ممثلا في المشروع النووي الإيراني، حيث إن اندلاع انتفاضة جديدة سيعطل اللعبة، وقد يقلبها لصالح الطرف الإيراني " |
ليس هذا فحسب، فالهدوء القائم حاليا يبدو أكثر من ضرورة أيضا لمواجهة الخطر الذي يحظى بالأولوية في هذه المرحلة ممثلا في المشروع النووي الإيراني، حيث يعلم الجميع أن اندلاع انتفاضة جديدة سيعطل اللعبة، وقد يقلبها لصالح الطرف الإيراني.
بالنسبة للطرف الأميركي يمكن القول إن أية هواجس إسرائيلية هي أولوية بالنسبة إليه، لكن ما يضاف إلى ذلك هو إدراك إدارة أوباما لحقيقة أن انتفاضة جديدة في الأراضي المحتلة ستعني إشعال أفكار العنف، بلونيها المشروع والمتطرف في سائر المنطقة، في حين يعيش الجيش الأميركي مأزقا كبيرا في أفغانستان وبدرجة أقل في العراق القابل للانفجار، بينما تظهر على السطح ملامح نقاط ساخنة جديدة في دول "فاشلة" مثل اليمن والصومال.
في هذا السياق، وردا على قرار إسرائيلي بإنشاء 1600 مسكن جديد في مستوطنة في القدس، لم يتردد نائب الرئيس الأميركي بايدن، رغم كونه صهيونيا وإن لم يكن يهوديا كما ذهب إليه هو غير مرة، لم يتردد في القول لمحاوريه الإسرائيليين أثناء زيارته لتل أبيب "ما تفعلونه هنا يمس بأمن جنودنا الذين يقاتلون في العراق، وفي أفغانستان وباكستان. هذا يعرضنا للخطر ويعرض سلام المنطقة للخطر"، بينما أقرّ قائد القيادة المركزية الأميركية الجنرال ديفد بتريوس أمام أعضاء في مجلس الشيوخ بأن التوترات الحالية بين إسرائيل والفلسطينيين لها تأثير بالغ على القوات الأميركية العاملة في العالم الإسلامي، مؤكدا أن جيش بلاده يراقب تلك التطورات عن كثب. وهو ذات الموقف الذي يتبناه "البنتاغون"، والذي دفع أوباما إلى قدر من الجرأة على نتنياهو تبدت أثناء زيارته الأخيرة لواشنطن.
لم يكن بوسع نتنياهو أن يتجاهل هذه الحقيقة، فكان أن ركز عليها في كلمته أمام "الإيباك"، حيث قال بحسب صحيفة هآرتس "كراهية الإسلام المتطرف للغرب لا تنبع من أعمال إسرائيل، بل هو يكره إسرائيل بسبب الغرب. الإسلام المتطرف يرى إسرائيل موقعا متقدما للحرية. أن تقاتل إسرائيل أعداءها فإنها تقاتل أعداء أميركا".
في هذا السياق يعلم الجميع أن انتفاضة الأراضي الفلسطينية المحتلة هي التي أشعلت فتيل العنف في المنطقة، ونشرت ثقافة المقاومة، وكم من مرة قال أسامة بن لادن للأميركيين "إنكم لن تعيشوا الأمن والأمان إذا لم نعشه واقعا في فلسطين"، كما أكد أن هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول كانت ردا على ما كان يجري في فلسطين، بصرف النظر عن رأي البعض في دقة التوصيف.
لم يعد بوسع أحد إنكار هذه الحقيقة المتمثلة في مركزية القضية الفلسطينية في الوعي الجمعي للأمة العربية والإسلامية، وأنها هي وحدها التي يمكنها إشعال المنطقة برمتها وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه خلال السنوات الثلاث الأولى من الألفية الجديدة (سنوات انتفاضة الأقصى الأكثر سخونة)، والتي قال خلالها 59% من الأوروبيين -وليس المسلمين- إن الدولة العبرية هي الدولة الأخطر على السلام العالمي تليها مباشرة، وبنفس الدرجة الولايات المتحدة.
إذا جئنا للطرف الأوروبي، فهو معني أيضا باستمرار الهدوء في الأراضي المحتلة، وبالطبع لأن العنف يعني تهديدا جديا لمصالحه، فضلا عن تورط عدد لا بأس به من دوله في مستنقع أفغانستان التي سيغدو الحديث عن حل سياسي لمعضلتها مستحيلا إلى حد كبير، مع العلم بأن دوامة العنف ستطالها أيضا تبعا لتحالفها مع الولايات المتحدة، وما جرى في مدريد ولندن قبل سنوات شاهد على ذلك.
يحيلنا ذلك إلى الحديث عن الطرف العربي في المعادلة، وهو هنا معني، وتحديدا محور الاعتدال، بعدم اندلاع انتفاضة جديدة، ليس فقط لأنه معني بتفرغ الولايات المتحدة لمعالجة الطموحات الإيرانية، بل أيضا بسبب خوفه من تأثير تلك الانتفاضة على أوضاعه الداخلية، لا أعني مصر التي يعيش نظامها أولوية التوريث، والتي ستغدو صعبة في حال اندلاع الانتفاضة، بل أيضا الدول الأخرى التي ستكون مضطرة لمجاراة تلك الانتفاضة ودعمها خوفا من شعوبها، في حين لن تكتفي قطاعات من تلك الشعوب بالدعم التقليدي هذه المرة، بل قد تبادر إلى القيام بعمليات ضد أهداف أجنبية، بمبادرات فردية، أو عبر مجموعات صغيرة.
يبقى الطرف الفلسطيني، ممثلا في السلطة في رام الله، وهي سلطة تسابق بدورها الزمن من أجل الحيلولة دون اندلاع الانتفاضة، وتبعث برسائل عديدة للأطراف المعنية تحذر من هذا الاحتمال الذي لن يكون بوسعها منعه إلى ما لا نهاية في حال استمر التعنت الإسرائيلي، مع العلم بأن الفئة الحاكمة في تلك السلطة لا تؤمن، أو بعضها في أقل تقدير، بخيار الانتفاضة، بل تراه تهديدا لما تسميه "المشروع الوطني"، من دون أن ننسى أن مصالح جزء كبير من تلك الفئة قد باتت مرتبطة بالتصور الجديد لسلطة تحت الاحتلال، سواء تطورت إلى دولة منقوصة السيادة، أم بقيت في حدود ما يشبه الدولة، لأن السيادة بحسب هؤلاء ليست ضرورية تماما.
هنا يأتي السؤال حول إمكانية نجاح هذه الجهود في تحقيق هدفها، وبالطبع عبر الإبقاء على حالة المراوحة الراهنة من خلال عملية تفاوض تستمر من دون أفق زمني، في حين يجري تحسين شروط حياة الناس في الضفة من خلال "حوافز" إسرائيلية تتمثل في تخفيف الحواجز أو الإفراج عن بعض المعتقلين، مع تحسين الوضع الاقتصادي، إلى جانب نقل الصلاحيات الأمنية للسلطة في مدن جديدة.
مشكلة هذا المسار أنه يقايض الكرامة والتحرير بتحسين شروط الحياة، أي أنه يشبه في جوهره مشروع روابط القرى في السبعينيات الذي رفضه الفلسطينيون بإباء، مما يعني أن الوضع الجديد لن يكون مقبولا بالنسبة لقطاعات عريضة من الشعب الفلسطيني، لكن الذي لا يقل أهمية في السياق هو أن أي تحسين في شروط الحياة لن يمس سوى قطاعات محدودة، في حين سيبقى القطاع الأكبر رهن المعاناة، من الاحتلال، أو من فساد السلطة وعصاها الأمنية الثقيلة.
الأهم من ذلك هو أن وضع الاحتلال لا يسمح بالكثير من التحسين في ظل وجود الجدار من جهة، ومن جهة أخرى في ظل الإصرار على تفريغ القدس من سكانها، والمضي في برنامج تهويدها، بما في ذلك الاعتداء على المقدسات، وهذه جميعا قنابل متفجرة تحت سرير الهدوء القائم. ولنتذكر هنا أننا إزاء حكومة يمينية متطرفة مسكونة بالأحلام التوراتية، ويبدو أنها ترى أن زمن الهيكل والسيطرة الكاملة على القدس قد اقترب، بدليل التشدد المفرط من طرف نتنياهو حيال تجميد (مجرد تجميد) الاستيطان في القدس، وبدليل الافتتاح المعلن لكنيس الخراب بجانب المسجد الأقصى، والإعلان عن مشاريع "كنس" جديدة.
سيقال هنا إن قوى المقاومة في وضع صعب في الضفة الغربية، ولن يكون بوسعها فعل الكثير في مواجهة برنامج الجنرال الأميركي "كيث دايتون" الذي يتحرك بقوة على الأرض ويحقق نجاحات كبيرة، وقد يكون ذلك صحيحا إلى حد ما، لكن ما ينساه هؤلاء هو أن الشارع العادي هو من فجّر انتفاضة الأقصى وليس الفصائل، ثم التحقت هذه الأخيرة بها ومنحتها الزخم المسلح والاستشهادي بعد مرحلة كانت تعيش فيها بؤسا استثنائيا بسبب قمع أوسلو وتنسيقه الأمني.
أما المقدمة الضرورية لتلك الانتفاضة فهي انقلاب حماس ومن معها وحولها من قوى المقاومة على خيار السلطة تحت الاحتلال وديمقراطيتها التي لا بد أن تخدم مشروع الاحتلال أيضا، ويتمثل ذلك في رفض مشروع المصالحة على قاعدة تكريس واقع تلك السلطة وطرح مشروع مقابل عنوانه إدارة بالتوافق لقطاع غزة بوصفه منطقة محررة أو شبه محررة، مع إعلان انتفاضة شاملة حتى دحر الاحتلال من دون قيد أو شرط حتى حدود الرابع من يونيو/حزيران، وذلك حتى لا يلتزم الشعب بأي تعهد يفرط في أي شيء من حقوقه، وهو ما سيكون بالطبع مقدمة للتحرير الشامل.
من الصعب الجزم بالمدى الذي ستستغرقه حالة المراوحة القائمة، لكن الأكيد هو أن الانتفاضة الجديدة ستندلع، سواءً تم ذلك بعد شهر أو شهرين، أو عام أو عامين أو أكثر. وعندها ستكون انتفاضة مختلفة، لا تساهم في ضرب الاحتلال فقط، بل ستكون مقدمة لحركة تغيير في المنطقة أيضا، وبالطبع بعدما ضاقت الشعوب ذرعا بهذه الأنظمة التي تتسم ببؤس سياساتها الداخلية من فساد وقمع، كما تتسم بالتراجع المزري أمام الإملاءات الخارجية أيضا.
إن مشاهد الموت والدمار في الأراضي المحتلة، معطوفة على عودة المقاومة، ومن ضمنها العمليات الاستشهادية لن تكون محصورة الأثر في تلك الرقعة من العالم العربي، وإنما ستمتد هذه المرة، لتهدد عددا لا بأس به من الدول العربية القريبة من الولايات المتحدة والغرب.
No comments:
Post a Comment