درعا كما بدت أمس مدينة أشباح (حسين ملا - أ ب)
سوريا الجديدة، سوريا القلقة، تقف اليوم أمام الاختبار المنتظر: هل يسير الشعب السوري على خطى التونسيين والمصريين والليبيين واليمنيين والبحرينيين أم لا؟ وفيما لا تزال الحركة الشعبية الواسعة محصورة بمدينة درعا، فإنّ الذهاب إليها، والعودة منها ليس سهلاً
غسان سعود
درعا|
فشلت كل المحاولات، من محطة شارل حلو في بيروت، حتى محطة السومرية قرب دمشق، لحثّ السائق على الكلام والإفصاح عن رأيه. الصمت بات شعار سائقنا نفسه الذي يصعب عادةً إسكاته ما دام محرك سيارته يعمل. قبل نقطة المصنع الحدودية، اللافتات تثير الضحك؛ بينما تُشغل الشعوب العربية نفسها بالثورات، يشغل اللبنانيون أنفسهم بسجالاتهم الداخلية السخيفة أحياناً. على الحدود اللبنانية، الأمور طبيعية.
أمّا على البوابة السورية، في جديدة يابوس، فكل شيء مختلف: يسأل العسكري السوري زوار بلاده عن سبب زيارتهم، ويدقّق في مكان إقامتهم، بينما يخضع الأجانب غير اللبنانيين إلى ما يشبه التحقيق التفصيلي في أسباب زيارتهم. ولاحقاً، يصرّ العنصر الأمني على إخراج حتى الثياب من الحقائب، وتفتيش الجيوب. لعلّ العابر يحاول تفادي الكاميرات التي تصادَر هذه الأيام خوفاً من أن تمسّ «الأمن القومي السوري».
دمشق أقلّ زحمة من العادة. سائق التاكسي، بائع الخطوط الخلوية، صاحب المطعم أو الموظف في الفندق، يكرّرون الكلام نفسه عن بقاء ما يحصل في درعا في درعا. هنا تُحمَّل القوى الأمنية مسؤولية ما حصل. وهناك من يحمّل المسؤولية لبعض أهالي درعا الذين تجاوزوا الخطوط الحمراء. معظم من يتبرّع بالكلام يحاول إبعاد القيادة السورية عن الواجهة، وهي التي تُختصر بشخص الرئيس بشار الأسد.
قبل التلفُّظ بكلمة «درعا»، سيكمل سائقو سيارات الأجرة سيرهم. عادةً، لا تتجاوز تكلفة الانتقال من دمشق إلى درعا عشرين دولاراً. أما اليوم، فيطلب أحد السائقين مئتي دولار، ويشترط إنزال راكبه عند أول حاجز للجيش. ثم يقضي ساعة ونصف الساعة، وهي مسافة الرحلة، متحدِّثاً عن خشيته على حياته، وتفضيله الأمن على أي شيء آخر: «في مصر، كان الناس يموتون جوعاً. أما هنا، فالدولة تدعم الخبز والمازوت والمواد الغذائية الأساسية، وتوفر التعليم والطبابة للجميع». ويتساءل الرجل: «في أي دولة في العالم تستطيع شراء ثلاثة أرغفة خبز بخمس ليرات سورية؟ هل هناك دولة أخرى تتحمّل على نفقتها الخاصة كل مصاريف علاج الأمراض المستعصية، غير سوريا؟».
تحيط السهول بالطريق من دمشق إلى درعا. خَضار لا يعكّره إلا بعض قطعان الماشية، وتلال مسكونة بالمنازل. هنا مصدر البطاطا والبندورة والعنب السوري. أهل درعا إما مزارعون أو تجار دجاج أو مغتربون في الخليج. لا سيارات على الأوتوستراد باتجاه درعا إلا العسكرية منها، بينما تعجّ الطريق المعاكسة بالشاحنات المحمّلة بالعمال النازحين. وفي المشهد، تنحني الأشجار على جانبي الطريق كأنها تعبد دمشق. وبين شجرة وأخرى، شعارات موقعة باسم «جماهير محافظة درعا». يعاهد هؤلاء «الجماهير» الرئيس بافتدائه مرة بالدم، ومرة بالروح، ومرات بالاثنين معاً. أسماء البلدات لافتة: مكة الحطب، وردات، الشيخ مسكين، شيخ سعد وخربة غزالة. الأخيرة، لا التي قبلها، هي بلدة اللواء رستم غزالة، وهي تحاذي مباشرة مدينة درعا.
يصلّي السائق على النبي حين يسمع نصيحة أحد الشبان بعدم الاقتراب من درعا، مؤكداً قراءته في أحد الكتب أن الرسول سمّى هذه المنطقة حوران لأنها سبب حيرته. تكاد تكون مدينة درعا، التي لا يتجاوز عدد سكانها العشرين ألفاً، وبحكم مجاورتها لريف محافظة درعا، أقرب إلى البلدة الكبيرة منها إلى المدينة. تجاور جبل الدروز من جهة، والجولان من جهة أخرى، والأردن طبعاً. ووفق المتداول في سوريا، فإنّ أبرز المسؤولين في النظام السوري، المنتمين إلى الطائفة السنية، يأتون من درعا، من رئيس الوزراء السابق محمود الزعبي، إلى نائب وزير الخارجية فيصل المقداد، والأمين العام المساعد في حزب البعث سليمان القداح، وصولاً إلى نائب رئيس الجمهورية فاروق الشرع.
بعد نحو عشر دقائق، يراجع خلالها الضابط على الحاجز عند مدخل مدينة درعا أربعة من مرؤوسيه، يسمح بدخول السيارة. بعد الحاجز مباشرة، هناك بعض الآثار لعنف يوم أول من أمس: زجاج مكسور ومبنى محروق. يشي حجم المنازل وحداثة السيارات براحة أهالي المدينة مادياً. في مدينة درعا الرياضية، صورة عملاقة للثلاثي الأسد (حافظ وبشار وباسل). ومن الجدران إلى النقابات إلى الجمعيات والتعاونيات إلى السيارات: صور الرئيس بشار الأسد في كل مكان. وحدها الصورة سلمت من احتراق مخفر الشرطة والمحكمة، كأنّ المتظاهرين أرادوا بالمصادفة تلك، إيصال رسالة.
المدينة التي شيّعت أمس بعض شهدائها، كانت ظهراً خالية كلياً. كأنها مهجورة منذ أكثر من مئة عام: المحال مغلقة، لا أناس على الشرفات، ولا سيارات في الطرقات. لا أحد سوى عناصر من الجيش والاستخبارات. المسافة التي تفصل بينهم لا تتجاوز حجم الرشاشات التي يحملونها.
حظر تجوال غير معلَن
إنّه حظر تجوال غير معلَن. البحث عن رواية لما حصل ويحصل منذ أيام هنا، ليس بالأمر السهل. لكن، بعد سماع الكثير، يمكن ربط التقاطعات: بدأت المشكلة حين أمر مسؤول أمن محافظة درعا باعتقال تسعة أطفال من عشيرة بايزيد، بسبب كتابتهم على جدران مدرستهم «الشعب يريد إسقاط النظام». لاحقاً، بدأ بعض أقرباء الأطفال الموقوفين بالضغط لإطلاق سراحهم. ومع تشدّد المسؤول الأمني، ازداد التضامن الشعبي مع أقرباء الأطفال. وتحوّلت الساحة المقابلة لمركز الاعتقال، إلى ما يشبه ساحة اعتصام. لكن، رغبةً من أهالي المدينة بعدم تطور الأمور بطريقة سلبية، قصدوا محافظ درعا لإدخاله وسيطاً بينهم وبين المسؤول الأمني. إلّا أنّ المحافظ أساء استقبال هؤلاء، وأسمعهم عبارات أسوأ من تلك التي ردّدها المسؤول الأمني أمام بعضهم. الأمر الذي أعطى إسلاميي المدينة مبرراً لتفعيل الغضب الشعبي أكثر. مع العلم أنّ الكثير من أبناء درعا عادوا من الخليج، حيث يعمل معظمهم، بثقافة سلفية (من دون أن يعني ذلك أن المتظاهرين في درعا ينتمون إلى تنظيم القاعدة كما يشيع البعض).
اللافت هو أن الاحتجاج تطوّر في اليوم التالي بطريقة غريبة؛ فقد ابتعدت مجموعة من الشباب عن الاعتصام الأساسي أمام مقر الحاكم الأمني، وأحرقت غرفتين فقط في المحكمة التي تضم أكثر من عشرين غرفة. وصدف أنّ واحدة من الغرفتين اللتين أحرقتا، تضم سجلات الأحكام الصادرة بحق المهرِّبين (من الأردن إلى سوريا، والعكس).
هنا وقعت أول مواجهة بالرصاص الحي بين المتظاهرين والأمن السوري، وسقط بعض الضحايا. لكنّ حرص القيادة السورية على عدم تكرار الأخطاء التي حصلت في مصر وتونس وليبيا، دفع بها إلى إيفاد اللواء رستم غزالة، بوصفه ابن المنطقة، حاملاً مجموعة تنازلات أهمها الموافقة على تبنّي المطالب الإنمائية الضرورية في نظر أبناء المنطقة، ولا سيما حفر الآبار الأرتوازية، وتنحية كل من مسؤول الأمن في درعا ومحافظها.
ويرى البعض أن النظام كان، بطريقة غير مباشرة، يمتحن نفسه وشعبه. فالحل الأمني أثبت في التجارب العربية السابقة فشله، تماماً كما الحل التنازلي، حيث كانت الجماهير تأخذ التنازل لتطالب بآخر. وهذا ما حصل، فما كاد المفاوضون يكتشفون حجم التنازل الذي يحمله غزالي، حتى كان المقربون منهم يجتمعون، متوجّهين صوب الجامع العمري في المدينة، وهاتفين «الشعب يريد إسقاط النظام». حينها حصلت المواجهة الدموية الكبرى، التي شيّعت درعا صباح أمس مجموعة من ضحاياها، وسط تراوح التقديرات بشأن عدد الضحايا بين 10، كما ذكرت السلطات السورية، و37 كما نقلت وكالة «فرانس برس» عن مسؤول في أحد مستشفيات درعا، و200 كما نقلت بعض وسائل الإعلام عن معارضين.
هنا الاحتقان كبير. تتشنّج ملامح الوجوه حين يسمع الأهالي المسؤولين السوريين يتحدثون عن عصابات ومخربين واستخبارات أردنية. وتزداد الوجوه انشداداً حين يسمعون آخرين يقولون إن عناصر من حزب الله، متنكرين بثياب الجيش السوري، أطلقوا الرصاص على أبنائهم. وفي ظل عزل المنطقة هاتفياً وإلكترونياً، يبحث الأهالي عن وسيلة لاجتماعهم بعيداً عن عناصر الأمن وأنصار حزب البعث، لوضع خطة تقرر مصيرهم: القبول بتحقيق السلطات السورية لمطالبهم، أو تحمُّل تبعات حملهم الثورة السورية على أكتافهم والذهاب فيها حتى النهاية.
نقاط قوّة وضعف
وبحسب أحد أبناء المدينة، فإن نقطة القوة الأساسية في يدهم، هي خشية النظام السوري من التحركات الشعبية، واستعداده لدفع أي ثمن يطلَب منه، في مقابل ابتعاد الشعب عن الشارع.
أما نقاط الضعف فكثيرة:
أولاها، انضواء الفعاليات الأساسيين في المدينة، في صفوف حزب البعث، ونيلهم مكتسبات يخشون عليها من أي ثورة.
ثانيتها، عدم حصول تفاعل شعبي (أقلّه حتى مساء أمس) مع ما يحصل في درعا، يسمح بالرهان على قيام ثورة في سوريا تشبه تلك التي قامت في تونس من سيدي بو زيد، وفي مصر من القاهرة.
الثالثة، لجوء أهالي درعا سريعاً إلى العنف، وإحراق المحكمة، الأمر الذي يخيف السوريين من أن يكونوا ليبيا ثانية، لا تونس ثالثة.
تصل القوى الأمنية السورية متأخرة: حماية الأمن القومي السوري تمنع دخول الصحافيين إلى درعا. فور العودة إلى الطريق الدولية التي تصل درعا بدمشق، يستعيد قلب السائق دقاته الطبيعية؛ يضع الأغاني، ويصدح مع علي الديك.
صلاة الجمعة، اليوم، ستحدّد وجهة سير تحرك الشعب السوري. ما حصل في درعا يفيد في تحديد الفوارق الأولية بين ما يحصل في سوريا وما حصل في دول أخرى: في سوريا، لا أحد يطالب بإصلاح وتغيير على مستوى الخطاب السياسي. الإسلاميون السوريون، من «إخوان» أو «جماعة»، ينأون بأنفسهم حتى الآن عن الحراك، مقدرين تمتين النظام تحالفه مع تركيا، واحتضانه حركة «حماس».
الشباب السوري، وخلافاً للشباب المصري والتونسي والبحريني، لا يجد نفسه معنياً حتى اليوم بإسقاط النظام. هذا ما تظهره ندرة التحركات الشبابية حتى الآن. حتى أن جزءاً كبيراً من هذا الشباب يجد في الأسد رئيساً يشبهه ويحاكيه.
على مستوى الفساد، تتركز الأنظار والاتهامات على شخص واحد، يُقال في دمشق إن سبب الانتفاضة في درعا كانت نيته فتح معمل لتصنيع حلاوة «الراحة» هناك، محاولاً مصادرة الصناعة الغذائية الوحيدة في درعا، بعد مصادرته لكل الصناعات في سوريا. هنا، سيكون على النظام إثبات جديته في مكافحة الفساد، لأن رأس أحد رجال الأعمال سيوفر الكثير من الرؤوس.
الأنفاس في سوريا محبوسة. النظام الذي يراعي بدقة شديدة خطواته منذ انتقلت عدوى الثورة من تونس إلى مصر، تعثّر في درعا، لكنه بالتأكيد لم يسقط بعد.
فشلت كل المحاولات، من محطة شارل حلو في بيروت، حتى محطة السومرية قرب دمشق، لحثّ السائق على الكلام والإفصاح عن رأيه. الصمت بات شعار سائقنا نفسه الذي يصعب عادةً إسكاته ما دام محرك سيارته يعمل. قبل نقطة المصنع الحدودية، اللافتات تثير الضحك؛ بينما تُشغل الشعوب العربية نفسها بالثورات، يشغل اللبنانيون أنفسهم بسجالاتهم الداخلية السخيفة أحياناً. على الحدود اللبنانية، الأمور طبيعية.
أمّا على البوابة السورية، في جديدة يابوس، فكل شيء مختلف: يسأل العسكري السوري زوار بلاده عن سبب زيارتهم، ويدقّق في مكان إقامتهم، بينما يخضع الأجانب غير اللبنانيين إلى ما يشبه التحقيق التفصيلي في أسباب زيارتهم. ولاحقاً، يصرّ العنصر الأمني على إخراج حتى الثياب من الحقائب، وتفتيش الجيوب. لعلّ العابر يحاول تفادي الكاميرات التي تصادَر هذه الأيام خوفاً من أن تمسّ «الأمن القومي السوري».
دمشق أقلّ زحمة من العادة. سائق التاكسي، بائع الخطوط الخلوية، صاحب المطعم أو الموظف في الفندق، يكرّرون الكلام نفسه عن بقاء ما يحصل في درعا في درعا. هنا تُحمَّل القوى الأمنية مسؤولية ما حصل. وهناك من يحمّل المسؤولية لبعض أهالي درعا الذين تجاوزوا الخطوط الحمراء. معظم من يتبرّع بالكلام يحاول إبعاد القيادة السورية عن الواجهة، وهي التي تُختصر بشخص الرئيس بشار الأسد.
قبل التلفُّظ بكلمة «درعا»، سيكمل سائقو سيارات الأجرة سيرهم. عادةً، لا تتجاوز تكلفة الانتقال من دمشق إلى درعا عشرين دولاراً. أما اليوم، فيطلب أحد السائقين مئتي دولار، ويشترط إنزال راكبه عند أول حاجز للجيش. ثم يقضي ساعة ونصف الساعة، وهي مسافة الرحلة، متحدِّثاً عن خشيته على حياته، وتفضيله الأمن على أي شيء آخر: «في مصر، كان الناس يموتون جوعاً. أما هنا، فالدولة تدعم الخبز والمازوت والمواد الغذائية الأساسية، وتوفر التعليم والطبابة للجميع». ويتساءل الرجل: «في أي دولة في العالم تستطيع شراء ثلاثة أرغفة خبز بخمس ليرات سورية؟ هل هناك دولة أخرى تتحمّل على نفقتها الخاصة كل مصاريف علاج الأمراض المستعصية، غير سوريا؟».
تحيط السهول بالطريق من دمشق إلى درعا. خَضار لا يعكّره إلا بعض قطعان الماشية، وتلال مسكونة بالمنازل. هنا مصدر البطاطا والبندورة والعنب السوري. أهل درعا إما مزارعون أو تجار دجاج أو مغتربون في الخليج. لا سيارات على الأوتوستراد باتجاه درعا إلا العسكرية منها، بينما تعجّ الطريق المعاكسة بالشاحنات المحمّلة بالعمال النازحين. وفي المشهد، تنحني الأشجار على جانبي الطريق كأنها تعبد دمشق. وبين شجرة وأخرى، شعارات موقعة باسم «جماهير محافظة درعا». يعاهد هؤلاء «الجماهير» الرئيس بافتدائه مرة بالدم، ومرة بالروح، ومرات بالاثنين معاً. أسماء البلدات لافتة: مكة الحطب، وردات، الشيخ مسكين، شيخ سعد وخربة غزالة. الأخيرة، لا التي قبلها، هي بلدة اللواء رستم غزالة، وهي تحاذي مباشرة مدينة درعا.
يصلّي السائق على النبي حين يسمع نصيحة أحد الشبان بعدم الاقتراب من درعا، مؤكداً قراءته في أحد الكتب أن الرسول سمّى هذه المنطقة حوران لأنها سبب حيرته. تكاد تكون مدينة درعا، التي لا يتجاوز عدد سكانها العشرين ألفاً، وبحكم مجاورتها لريف محافظة درعا، أقرب إلى البلدة الكبيرة منها إلى المدينة. تجاور جبل الدروز من جهة، والجولان من جهة أخرى، والأردن طبعاً. ووفق المتداول في سوريا، فإنّ أبرز المسؤولين في النظام السوري، المنتمين إلى الطائفة السنية، يأتون من درعا، من رئيس الوزراء السابق محمود الزعبي، إلى نائب وزير الخارجية فيصل المقداد، والأمين العام المساعد في حزب البعث سليمان القداح، وصولاً إلى نائب رئيس الجمهورية فاروق الشرع.
بعد نحو عشر دقائق، يراجع خلالها الضابط على الحاجز عند مدخل مدينة درعا أربعة من مرؤوسيه، يسمح بدخول السيارة. بعد الحاجز مباشرة، هناك بعض الآثار لعنف يوم أول من أمس: زجاج مكسور ومبنى محروق. يشي حجم المنازل وحداثة السيارات براحة أهالي المدينة مادياً. في مدينة درعا الرياضية، صورة عملاقة للثلاثي الأسد (حافظ وبشار وباسل). ومن الجدران إلى النقابات إلى الجمعيات والتعاونيات إلى السيارات: صور الرئيس بشار الأسد في كل مكان. وحدها الصورة سلمت من احتراق مخفر الشرطة والمحكمة، كأنّ المتظاهرين أرادوا بالمصادفة تلك، إيصال رسالة.
المدينة التي شيّعت أمس بعض شهدائها، كانت ظهراً خالية كلياً. كأنها مهجورة منذ أكثر من مئة عام: المحال مغلقة، لا أناس على الشرفات، ولا سيارات في الطرقات. لا أحد سوى عناصر من الجيش والاستخبارات. المسافة التي تفصل بينهم لا تتجاوز حجم الرشاشات التي يحملونها.
حظر تجوال غير معلَن
إنّه حظر تجوال غير معلَن. البحث عن رواية لما حصل ويحصل منذ أيام هنا، ليس بالأمر السهل. لكن، بعد سماع الكثير، يمكن ربط التقاطعات: بدأت المشكلة حين أمر مسؤول أمن محافظة درعا باعتقال تسعة أطفال من عشيرة بايزيد، بسبب كتابتهم على جدران مدرستهم «الشعب يريد إسقاط النظام». لاحقاً، بدأ بعض أقرباء الأطفال الموقوفين بالضغط لإطلاق سراحهم. ومع تشدّد المسؤول الأمني، ازداد التضامن الشعبي مع أقرباء الأطفال. وتحوّلت الساحة المقابلة لمركز الاعتقال، إلى ما يشبه ساحة اعتصام. لكن، رغبةً من أهالي المدينة بعدم تطور الأمور بطريقة سلبية، قصدوا محافظ درعا لإدخاله وسيطاً بينهم وبين المسؤول الأمني. إلّا أنّ المحافظ أساء استقبال هؤلاء، وأسمعهم عبارات أسوأ من تلك التي ردّدها المسؤول الأمني أمام بعضهم. الأمر الذي أعطى إسلاميي المدينة مبرراً لتفعيل الغضب الشعبي أكثر. مع العلم أنّ الكثير من أبناء درعا عادوا من الخليج، حيث يعمل معظمهم، بثقافة سلفية (من دون أن يعني ذلك أن المتظاهرين في درعا ينتمون إلى تنظيم القاعدة كما يشيع البعض).
اللافت هو أن الاحتجاج تطوّر في اليوم التالي بطريقة غريبة؛ فقد ابتعدت مجموعة من الشباب عن الاعتصام الأساسي أمام مقر الحاكم الأمني، وأحرقت غرفتين فقط في المحكمة التي تضم أكثر من عشرين غرفة. وصدف أنّ واحدة من الغرفتين اللتين أحرقتا، تضم سجلات الأحكام الصادرة بحق المهرِّبين (من الأردن إلى سوريا، والعكس).
هنا وقعت أول مواجهة بالرصاص الحي بين المتظاهرين والأمن السوري، وسقط بعض الضحايا. لكنّ حرص القيادة السورية على عدم تكرار الأخطاء التي حصلت في مصر وتونس وليبيا، دفع بها إلى إيفاد اللواء رستم غزالة، بوصفه ابن المنطقة، حاملاً مجموعة تنازلات أهمها الموافقة على تبنّي المطالب الإنمائية الضرورية في نظر أبناء المنطقة، ولا سيما حفر الآبار الأرتوازية، وتنحية كل من مسؤول الأمن في درعا ومحافظها.
ويرى البعض أن النظام كان، بطريقة غير مباشرة، يمتحن نفسه وشعبه. فالحل الأمني أثبت في التجارب العربية السابقة فشله، تماماً كما الحل التنازلي، حيث كانت الجماهير تأخذ التنازل لتطالب بآخر. وهذا ما حصل، فما كاد المفاوضون يكتشفون حجم التنازل الذي يحمله غزالي، حتى كان المقربون منهم يجتمعون، متوجّهين صوب الجامع العمري في المدينة، وهاتفين «الشعب يريد إسقاط النظام». حينها حصلت المواجهة الدموية الكبرى، التي شيّعت درعا صباح أمس مجموعة من ضحاياها، وسط تراوح التقديرات بشأن عدد الضحايا بين 10، كما ذكرت السلطات السورية، و37 كما نقلت وكالة «فرانس برس» عن مسؤول في أحد مستشفيات درعا، و200 كما نقلت بعض وسائل الإعلام عن معارضين.
هنا الاحتقان كبير. تتشنّج ملامح الوجوه حين يسمع الأهالي المسؤولين السوريين يتحدثون عن عصابات ومخربين واستخبارات أردنية. وتزداد الوجوه انشداداً حين يسمعون آخرين يقولون إن عناصر من حزب الله، متنكرين بثياب الجيش السوري، أطلقوا الرصاص على أبنائهم. وفي ظل عزل المنطقة هاتفياً وإلكترونياً، يبحث الأهالي عن وسيلة لاجتماعهم بعيداً عن عناصر الأمن وأنصار حزب البعث، لوضع خطة تقرر مصيرهم: القبول بتحقيق السلطات السورية لمطالبهم، أو تحمُّل تبعات حملهم الثورة السورية على أكتافهم والذهاب فيها حتى النهاية.
نقاط قوّة وضعف
وبحسب أحد أبناء المدينة، فإن نقطة القوة الأساسية في يدهم، هي خشية النظام السوري من التحركات الشعبية، واستعداده لدفع أي ثمن يطلَب منه، في مقابل ابتعاد الشعب عن الشارع.
أما نقاط الضعف فكثيرة:
أولاها، انضواء الفعاليات الأساسيين في المدينة، في صفوف حزب البعث، ونيلهم مكتسبات يخشون عليها من أي ثورة.
ثانيتها، عدم حصول تفاعل شعبي (أقلّه حتى مساء أمس) مع ما يحصل في درعا، يسمح بالرهان على قيام ثورة في سوريا تشبه تلك التي قامت في تونس من سيدي بو زيد، وفي مصر من القاهرة.
الثالثة، لجوء أهالي درعا سريعاً إلى العنف، وإحراق المحكمة، الأمر الذي يخيف السوريين من أن يكونوا ليبيا ثانية، لا تونس ثالثة.
تصل القوى الأمنية السورية متأخرة: حماية الأمن القومي السوري تمنع دخول الصحافيين إلى درعا. فور العودة إلى الطريق الدولية التي تصل درعا بدمشق، يستعيد قلب السائق دقاته الطبيعية؛ يضع الأغاني، ويصدح مع علي الديك.
صلاة الجمعة، اليوم، ستحدّد وجهة سير تحرك الشعب السوري. ما حصل في درعا يفيد في تحديد الفوارق الأولية بين ما يحصل في سوريا وما حصل في دول أخرى: في سوريا، لا أحد يطالب بإصلاح وتغيير على مستوى الخطاب السياسي. الإسلاميون السوريون، من «إخوان» أو «جماعة»، ينأون بأنفسهم حتى الآن عن الحراك، مقدرين تمتين النظام تحالفه مع تركيا، واحتضانه حركة «حماس».
الشباب السوري، وخلافاً للشباب المصري والتونسي والبحريني، لا يجد نفسه معنياً حتى اليوم بإسقاط النظام. هذا ما تظهره ندرة التحركات الشبابية حتى الآن. حتى أن جزءاً كبيراً من هذا الشباب يجد في الأسد رئيساً يشبهه ويحاكيه.
على مستوى الفساد، تتركز الأنظار والاتهامات على شخص واحد، يُقال في دمشق إن سبب الانتفاضة في درعا كانت نيته فتح معمل لتصنيع حلاوة «الراحة» هناك، محاولاً مصادرة الصناعة الغذائية الوحيدة في درعا، بعد مصادرته لكل الصناعات في سوريا. هنا، سيكون على النظام إثبات جديته في مكافحة الفساد، لأن رأس أحد رجال الأعمال سيوفر الكثير من الرؤوس.
الأنفاس في سوريا محبوسة. النظام الذي يراعي بدقة شديدة خطواته منذ انتقلت عدوى الثورة من تونس إلى مصر، تعثّر في درعا، لكنه بالتأكيد لم يسقط بعد.
No comments:
Post a Comment