11/06/2021
العميد د. أمين محمد حطيط _
لم يشهد لبنان في تاريخه الحديث كمّاً من الأزمات يتوالد ويتفاقم بسرعة وعمق بالشكل الذي يشهده اليوم. وصحيح أنّ بنية النظام الاقتصادي اللبناني واهنة والإدارة اللبنانية فاسدة والتبعية قاتلة، لكن هذا ليس بجديد فنظام الاحتكار والوكالات الحصرية غير المبرّرة قديمة العهد ولم تقوَ حكومة أو مسؤول على الإطاحة بها، لا بل كان رأس المسؤول يتدحرج عندما كان يتجرّأ على طرحها (كما حصل مع وزير الصحة البيطار عندما فكر بمعالجة موضوع الدواء وضبطه بعيداً عن المحتكرين) أما الرشوة والنهب وكلّ وجوه الفساد المالي والإداري فهي متلازمة مع هذا النظام السياسي القائم على العشائرية والطائفية والمحاصصة الأنانية وسلطة الزعيم في الطائفة، ونختصر الأمر بالقول إنّ الواقع الرديء للبنان من حيث السياسة والإدارة والاقتصاد أمر غير مستجدّ، لا بل هو قديم قدم النظام اللبناني ولا ننسى أنّ أول رئيس جمهورية في لبنان أطيح به بتهمة الفساد. وهنا يطرح السؤال لماذا وصلنا اليوم إلى هذا الواقع المرير إذن رغم أنّ الأسباب الداخلية قديمة؟
قد نجد الردّ منطقياً بالقول إنها الشعرة التي قصمت ظهر البعير، أو إنها النقطة التي فاض بها الكأس، أو إنها اللحظة التي تفصل الموت عن الحياة، وإنّ الطريق الخاطئ الذي سلكه لبنان منذ تأسيسه عامة ومنذ العام 1992 خاصة كان لا بدّ من أن يؤدي به إلى ما هو عليه اليوم من بؤس وعوز وفقر بعد أن نهب المال وسخرت الدولة لمصلحة طبقة سياسية سارقة دخلت إلى الدولة ولا تملك ليرة واحدة ووصلت عبر السلطة إلى امتلاك مليارات الدولارات التي بلغت عند بعضهم 16 مليار دولار لم يجنها إلا نهباً وسرقة واغتصاباً من الدولة.
وعلى وجاهة هذا التبرير والتفسير، يبقى السؤال لماذا لم يتعرّض لبنان في ظلّ مراحل سبقت وكانت ظروفها أشدّ قسوة وتعقيداً، لماذا لم يتعرّض لربع ما هو عليه اليوم، إذ رغم حرب السنتين في العام 1975 لم تهدّد الودائع المصرفية بالتبخر ولم يتدهور سعر صرف الليرة، ورغم العدوان “الإسرائيلي” في العام 1982 وما تبعه من حروب خاصة كحرب الجبل وحرب إسقاط اتفاق 17 أيار لم تفقد المواد الغذائية والأدوية والمحروقات من السوق رغم ارتفاع أسعارها، وفي الحروب الداخلية ضمن الطوائف والمذاهب وتعاظم الخطر والمخاطر الأمنية في كلّ بيت في تلك الطائفة أو المذهب أو ذاك لم نشهد ما نراه اليوم من ذعر وخوف على حليب الأطفال ودواء المرضى و… و… إلخ…؟ فلماذا نحن الآن هنا إذن؟
أعود وأكرّر وأؤكد أنّ بنية الاقتصاد اللبناني الذي أقيم بشكل خاص بعد العام 1992 ليكون اقتصاداً ريعياً غير إنتاجي واقتصاد خدمات واهن تابع، معطوفة على فساد في الحكم والإدارة وكلّ شيء في الدولة التي يعمل فيها بقاعدة “الوظيفة العامة ملكية استثمار وليست خدمة ولا مسؤولية”، وان نجاح المسؤول في وظيفته يُقاس بمقدار ما يسرق وما ينهب من المال العام وأموال الناس لنفسه ولجماعته، وأنّ ذلك يشكل أسباباً كافية للوصول بنا إلى حيث نحن من كوارث جعلت الدولة وشعبها في سحيق الانهيار وخطر الزوال، لكن مقارنة ما نحن فيه مع ما سبق من مراحل وحالات سيئة بل أسوأ يثير السؤال هل الفساد الداخلي وطبيعة الاقتصاد اللبناني وحدهما هما سبب ما نحن فيه أم هناك عوامل أخرى.
في موقف جريء وبعد أن لمس الحقيقة لمس اليد، صرح رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب بأنّ “لبنان يتعرّض لحصار خارجي مطبق”، وهي حقيقة كان على المسؤول أن يواجهها منذ أن اعتمدت وهنا نذكر بأننا كنا من أوائل من نبّه إلى هذا الأمر وفصلناه في العام 2019 عندما جاء وزير خارجية أميركا وأطلق من بيروت خطة انهيار لبنان لإسقاط المقاومة التي أطلقنا عليها تسمية “خطة بومبيو” والتي قلنا مؤخراً إنها لا تزال سارية المفعول حتى الآن، وهي الخطة التي أُرسيت على حلقات خمس، تبدأ بالفراغ السياسي، ثم الانهيار المالي، ثم الانهيار الاقتصادي وصولاً إلى الانفجار الأمني، تمهيداً لعدوان “إسرائيلي” ينفذ اذا تمّ النجاح في الحلقات الأربع السابقة.
ولكن بدل المواجهة رأينا كيف أعان المسؤولون في لبنان وفي مختلف المواقع أميركا على تنفيذ خطتها، التي تسبّبت بالفراغ السياسي الذي يتخبّط به لبنان منذ أن استقال سعد الحريري بشكل فاجأ شركاءه في تشرين الأول 2019، ولا يزال هذا الفراغ قائماً حتى اليوم بعد أن حُمل حسان دياب على الاستقالة وتعثرت كلّ مساعي تشكيل الحكومة من 10 أشهر وهي لن تتشكل حتى تمتلك جرأة إسقاط القرار بالفراغ السياسي. أما الانهيار الاقتصادي مقروناً بالنقدي فقد نجح سياسيون وإداريون وموظفون وطبقة مصرفية واقتصادية ومالية مرتبطة بأميركا وتسير على الإيقاع والتوجيه الأميركي نجحوا في إحداثه بشكل يفوق ما توقعت أميركا نفسها، حيث إنهم وبكلّ وقاحة وخلافاً للأنظمة والقوانين والدستور وضعوا اليد على ودائع الناس في المصارف وتحكموا بها وحرموا أصحابها منها وألقوهم في دوائر العوز والضيق دون أن يرفّ لهم جفن.
وفاقم الأوضاع سوءاً ما أسمي العقوبات الأميركية على سورية وما جاء في قانون قيصر الأميركي بصددها، فنال لبنان من الحصار والعقاب أكثر ما تأثرت به سورية نفسها والسبب عائد لاختلاف طبيعة الاقتصاد في البلدين والأداء الرسمي لدى الحكومتين.
والنتيجة أنّ أزمة لبنان الاقتصادية والضيق النقدي والمالي الحالي عائد لفئتين من الأسباب فئة داخلية تتعلق بطبيعة الاقتصاد والفساد الداخلي في الدولة وعلى شتى الصعد، وخارجية وتتعلق بالحصار الاقتصادي لا بل الحرب والعدوان الاقتصادي الذي تشنّه أميركا مع أتباعها ضدّ لبنان وهو ما قصده رئيس الحكومة بالحصار المطبق على لبنان.
وبالتالي تكون المواجهة للخروج من الكارثة النازلة بلبنان اليوم عبر العمل على خطين، عمل داخلي ويركز على الإصلاح الذي يجب أن يكون شاملاً ويتناول كلّ الأسباب الداخلية ويستوجب حكومة وطنية حقيقية وليس مجلس إدارة يمارس عملية النهب التحاصصي، ومواجهة مع العدوان الخارجي، مواجهة قد تتردّد الدولة أو يتعذر توفر الشجاعة والجرأة لدى المسؤولين فيها لاتخاذ قرار المواجهة كما حصل في مسائل كثيرة سبقت، وهنا يكون على الشعب أن يظهر مقاومته للعدوان وكما انبرت أقلية شعبية في الماضي لتنظيم مقاومة ضدّ العدوان والاحتلال “الإسرائيلي” للجنوب ونجحت في فرض التحرير فإنّ الشعب اللبناني مدعو اليوم إلى ممارسة المقاومة الاقتصادية وهي حق مشروع للدفاع عن النفس من باب لقمة العيش، ومن هنا يجب أن يفهم موقف سيد المقاومة في لبنان أو بالأحرى سلسلة مواقفه التي بدأت بشعار لن نجوع ولن نركع، ووصلت في محطته الأخيرة إلى الإعلان عن الاستعداد لاستيراد المحروقات من إيران إنْ استمرّت الدولة في عجزها عن ذلك.
وهنا وعلى سبيل التذكير نقول انه في العام 1982 عجزت الدولة عن منع العدوان ومنع الاحتلال وقبله عجزت عن تطبيق القرار 425 وتحرير الشريط المحتلّ في الجنوب فانبرت المقاومة وحرّرت ممارسة لحق تكفله كلّ الشرائع والمواثيق الدولية، واليوم إذا استمرت الدولة في عجزها عن تأمين احتياجات العيش للمواطنين بسبب حصار يريد تركيع جمهور المقاومة، فليس من حق أحد أن ينتقد مبادرة لمنع الجوع والمرض.
وبهذا… وبكلّ تأكيد يكون السيد في مواقفه في المحطات المتسلسلة منذ سنتين تاريخ العمل بخطة بومبيو لانهيار لبنان، يكون السيد قد مارس المقاومة السياسية في رفضه للفراغ السياسي بدءاً من رفضه لاستقالة الحكومة وصولاً إلى رفضه حلّ مجلس النواب الحالي، ويكون مارس المقاومة المالية رفضاً للانهيار المالي ونهب ودائع الناس عبر إدارة أموالهم من خلال مؤسسة القرض الحسن التي يقصفها أعداء المقاومة بشتى النعوت والتهم الباطلة، والآن يمارس المقاومة الاقتصادية لتأمين حاجات المعيشة. انها المقاومة التي شعارها لأهلها “سنخدمكم بأشفار العيون”.