أحمد الشرقاوي
إنتهى مؤتمر جدة الأمريكي الإستعراضي، وانتهى مؤتمر باريس الفرنسي الفلكلوري، حيث جسد الأول مدخلا لتحالف مشبوه لتغطية عودة الأمريكي عسكريا إلى المنطقة، فيما مثل الثاني مناسبة لتسويق عودة الفرنسي إلى العراق بعد أن انسحبت شركاته حين رفض الرئيس ‘شيراك’ المشاركة في إحتلال بلاد الرافدين زمن ‘بوش’ الصغير عام 2003.
والمؤتمران، لا يعدوان أن يكونا حملة ماركتينغ سياسي لتسويق الوجه الإنساني للعدوان الأمريكي الجديد، والذي من ضمن أهدافه، إيقاف الإنتصارات التي حققتها إيران وحلفائها في العراق وسورية ولبنان ضد “داعش” وأخواتها بتنسيق مع الجرال قاسم سليماني الذي لا يزال ممسكا بالملف الأمني في العراق وسورية ولبنان وفلسطين.. بخلف الإشاعات السعودية التي روجت لإستبداله، وما حدث، هو أن الإمام خامنئي خفف عنه الثقل فأوكل الملف السياسي إلى المسؤول عن الأمن القومي الإيراني، السيد علي شمخاني.
وكون أمريكا أعلنت عزمها ضرب “داعش” في سورية أيضا، فهذا لا يعني أنها ستغامر بالإحتكاك بالجيش السوري، هذا خط أحمر تعرف أن تجاوزه سينقلب جحيما عليها وعلى أدواتها في المنطقة.. وحقيقة هذا التهديد، هو وضع معادلة جديدة بعد فضيحة غزة، مؤداها: “إذا فتحت سورية وحزب الله جبهة الجولان، فإن أمريكا ستنفذ تهديدها المبطن بإسقاط دمشق”.. وهذا ليس بالأمر الجديد، لأن المقاومة سبق وأن وضعت ذات المعادلة عندما هددت أمريكا بضرب سورية إبان التصعيد الكيماوي، فكانت رسالة محور المقاومة تقول، أن الرد سيكون في فلسطين المحتلة، وذهبت إيران بعيدا حد التهديد بإشعال المنطقة برمتها، لتلاقيها روسيا معلنة إستعدادها تفجير حرب عالمية ثالثة إذا ضربت سورية.
وبالتالي، علينا أن لا ننسى أن هذه الحرب الأمريكية المسعورة التي قررت إشعالها الإدارة الأمريكية الغبية اليوم ضد محور المقاومة حتى لو استمرت لأكثر من ثلاث سنوات، جاءت بالأساس، لتكون ردا قاسيا على النجاحات التي حققتها روسيا في أوكرانيا، ومحاولاتها الذكية لإختراق الساحة المصرية بإستمالة النظام الجديد لمعسكرها، مقابل تعاون سياسي وإقتصادي وعسكري يجعل من مصر قلعة حصينة بمعية سورية في وجه الأطلسي، ويعيد لها دورها العربي والإفريقي من البوابة الصحيحة (في إنتظار أن يحسم السيسي أمره). وبالتالي، فالمخطط الأمريكي الغبي يرمي في جوهره إلى حرمان موسكو من عمقها الجيوستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إقريقيا.
وبالنسبة لسورية، كثيرة هي السيناريوهات التي يطرحها المحللون كل من وجهة نظره أو وفق عقيدة الجهة التي يمثلها.. لكن في خضم الكم الهائل من الكتابات التي تطالعنا بها الصحف والمواقع الإلكترونية الدولية والعربية، وزحمة الأخبار وتسارعها على مدار الساعة، ينسى هؤلاء أنه ليس من السهل الخوض في سيناريوهات إفتراضية بناء على تهديد الرئيس الأمريكي بضرب سورية، أو إنطلاقا من هذا التصريح أو ذاك، لأن الأمور ليست كما تبدو، وليس كل ما يقال يمكن عمليا أن ينفذ، لأن هناك حدود لمنطق القوة.
ذلك، أن أمريكا نفسها لا تملك خطة واضحة للتعامل مع روسيا في أوكرانيا ومنطقة الشرق الأوسط غير إستراتيجية “إدارة التوحش” من الخلف والحروب بالوكالة، إعتقادا منها أن الإرهاب هو السلاح الفعال الذي بإمكانه إحداث إختراقات دراماتيكية وخلق وقائع معقدة على الأرض يصعب التعامل معها بالحل الأمني والعسكري دون توافق سياسي مع من يدعمون الإرهاب ويوظفونه خدمة لأهدافهم المشبوهة.
وهدف أمريكا من الحرب على الإرهاب في سورية، هو إستنزافها وممارسة المزيد من الضغوط التصعيدية عليها لتغيير موازين القوى على الأرض، وإجبار الرئيس ‘بشار الأسد’ على القبول بتسوية سياسية وفق الوصفة الأمريكية على الطريقة العراقية واللبنانية، أي تقسيم البلاد إلى أقاليم طائفية ومذهبية بحكم ذاتي موسع، ما يمهد لأقامة فدرالية باعتبارها البوابة المؤدية إلى الكونفدرالية أو الإنفصال. وبذلك تحقق أمريكا بالسياسة في العراق وسورية ولبنان ما لم تستطع تحقيقه بالعدوان، فتهيمن على القرار السياسي والأمني والعسكري والإقتصادي في منطقة الشرق الأوسط برمتها بعد أن تعزل إيران عن عمقها الجيوسياسي العربي.
إيران مدركة لحقيقة ما تخطط له واشنطن للمنطقة، وتعمل على إفشال أهدافها بأسلوبها المتميز، وها نحن نرى في العراق جيشا رديفا لا تستطيع واشنطن التحكم في عقيدته التي تسعى لتغييرها بالنسبة للجيش العراقي الذي تعتزم تدريبه وتسليحه للمرة الثانية، بعد أن كلفت العراقيين في الأولى 40 مليار دولار لإعداد جيش بلا عقيدة، فاسد، سرعان ما انهار أمام بضع آلاف من الدواعش في الموصل وغيرها. ناهيك عن عصائب أهل الحق وفيلق بدر والكتائب الشعبية المسلحة.. فهل تستطيع أمريكا سرقة إرادة شعب تحول في غالبيته إلى مقاومة؟..
وبالنسبة لسورية، على المراهنين على الوهم أن يدركوا، أن آخر قلاع الصمود العربية لن تسقط مهما تطلب الأمر وكلف من تضحيات، لأن الرئيس ‘بوتين’ سبق وأن وضع مصداقيته ودور ومستقبل بلده على المحك حين تعهد بخطاب رسمي جوابا على تساؤل الرئيس ‘بشار الأسد’ إبان أزمة الكيماوي جاء فيه: “إن السلاح الكيميائي هو سلاح رادع من اي هجوم معادي، فما هي الضمانات بأن لا تتعرض سورية لعدوان خارجي في حال قبلت بالتخلي عن هذا السلاح؟”.. فجاء الرد الروسي خطيا يقول: “لن يقع أي هجوم عليكم، وسندافع عن دمشق كما ندافع عن موسكو”. وذكرت مصادر موثوقة في حينه بأن الجانب الأمريكي والأطلسي قد تبلغا رسميا بهذا التعهد ووافقا عليه قبل الموافقة على تسليم هذا السلاح للأمم المتحدة.. وهذا القرار الروسي لا يمكن إعتباره إلتزاما مؤقتا يتعلق بالملف الكيميائي حصريا، إلا من قبل من يلجأون لسلاح التأويل لخداع الرأي العام.
كما وأن تحذير إيران الأخير بأن أمريكا ستندم إذا ضربت سورية، يحمل في طياته رسالة واضحة مفادها أن سورية خط أحمر بالنسبة لإيران ومحورها أيضا، وأن أية مغامرة في هذا الإتجاه ستقابل بما سيقلب الطاولة على الأمريكي والإسرائيلي بل والسعودي أيضا، حسب ما فهم من هذا التهديد.
ما من شك، أن أمريكا وحلفها الأطلسي يخوضون اليوم مغامرة غير محمودة العواقب، بدون رؤية، ولا تخطيط، ولا قدرة على تحقيق أوهامهم على الأرض، سواء في الشرق الأوسط أو آسيا، باستثناء إستراتيجية زرع الفوضى الخلاقة لتخريب الدول المستهدفة من الداخل، لكنهم لا يضمنون أن مثل هذه الإستراتيجية الخبيثة لا تنقلب ضدهم وضد أدواتهم في المنطقة.
آخر المعلومات التي كشفت عنها المخابرات الروسية، تتحدث عن خطة أمريكية – سعودية – صهيونية يقوم بالترويج لها سرا الوزير الصهيوني ‘ليبرمان’ في صربيا، لتحويل هذا البلد إلى معقل للتكفيريين في آسيا، بهدف إشعال منطقة القوقاز.. وقد جائت هذه الخطة التي كانت موسكو تتوقعها، كجواب على قرار توسيع منظمة ‘شانغهاي’ لتضم إيران والهند وباكستان، وتعزيز دورها الأمني في محاربة الإرهاب في آسيا بالإضافة إلى الجوانب الإقتصادية والتنسيق السياسي.
وبالتالي، نحن أمام مشروع حرب كونية بحجم كارثي، قدرت له أمريكا 3 سنوات ليكتمل في الشرق الأوسط بموازات تفجير الوضع في القوقاز لإغارق روسيا والصين في مستنقع الإرهاب وإبعادهم عن منطقة الشرق الأوسط التي يتم تفكيكها على نار حامية. في حين طالبت السعودية بأن تستمر الحرب على الإرهاب لـ 10 سنوات قادمة.. وواضح أن للسعودية هدفين من وراء هذا التقدير:
الأول، يتمثل في تخصيص أطول وقت ممكن لأمريكا حتى تحقق كامل أهداف المؤامرة على محور المقاومة، المستهدف الحقيقي بالعدوان الأطلسي وليس “داعش”، بما في ذلك عزل إيران وإنهاء نفوذها وتهديدها لإسرائيل.
والثاني، قمع وإجهاض أي إنتفاضة شعبية في بلدان الخليج، سواء بالمنطقة الشرقية، أو البحرين، بل وحتى في اليمن، وإعتبار كل تحرك إجتماعي يرفع مطالب حقوقية مشروعة في ظروف الحرب على الإرهاب، إرهابا يجب التصدي له وقمعه بالقوة العسكرية الغاشمة، وسيغض الغرب الطرف عن ذلك، لأنه هو أيضا في حرب مع الإرهاب.
وفي إطار هذه العناوين الرئيسة، ستعمل السعودية وحلفائها الإقليميين على المستوى السياسي، على إعادة إنتاج الأنظمة الديكتاتورية القديمة بنكهة ديمقراطية جديدة سماها ‘أوباما’ “الديمقراطية السنية”.. إذ لا مكان في المنطقة بعد اليوم لشيىء إسمه شيعة أو دروز أو مسيحيين أو غيرهم، لأنه وفق هذا المفهوم “الديمقراطي” الجديد، لا يمكن للشيعة أن يكونوا مسلمين، فقط العرب هم المسلمون، والمسلمون هم من أهل السنة والجماعة حصريا.. ولا نستبعد في زمن العهر السياسي والدجل المفاهيمي أن نسمع أمريكا والسعودية يتحدثون غدا عن “القومية السنية”، ما دامت “القومية العربية” لم تعد سلوكا، بل مجرد شعور لا مصداق له على أرض الواقع.
سوف لن ندخل هنا في منقاشة هذا الطرح الجديد الذي لا يعرف له علم الإجتماع السياسي نظرية تذكر، وينم عن جهل فظيع بالدين والتاريخ والواقع، ويكشف لنا كثيرا من سوء النية السياسية من وراء ذلك، يمكن وضعها في إطار “إستراتيجية الضد النوعي” التي طورها دهاقنة الفكر الإستراتيجي البريطاني، لتعكس جوهر سياسة ‘فرق تسد’ لميكيافيلي في نسختها المعدلة، بحيث يصبح عنوانها الجديد “إسلام ضد الإسلام” الذي تحول بقدرة قادر إلى “إرهاب ضد المقاومة”.
وهذا هو معنى “استراتيجية الضد النوعي” التي تفيد حرفيا، أن الحرب على الإسلام والمسلمين يجب أن تكون من قبل المسلمين أنفسهم، لتخريب الإسلام من القاعدة، وإدخال المسلمين في عقود من الظلام والصراعات الدموية، ليذبح المسلم المسلم تحت يافطة تكفير الشيعة والنصيرية وما إلى ذلك من خطابات الحقد والكراهية والفرقة، ضدا في دين الله وتعاليم شرعه.. إنهم بالمختصر المفيد، يريدون أن يطفئوا نور الله بتآمرهم، والله متم لنوره ولو كره المجرمون.
ما نتحدث عنه هنا، بدأت تجلياته تبرز واضحة حتى للمغفلين، ويكفي التذكير بعملية تهجير المسيحيين من العراق التي تمت سنة 2003 من قبل أمريكا نفسها، واليوم يستمر ذات المخطط بالوكالة عبر “داعش”، بدليل قيامها بتهجير عشرات بل مئات الآلاف من المسيحيين من الموصل، بالإضافة للإيزيديين وغيرهم، والآتي أعظم.. في عملية تطهير عرقية وطائفية ومذهبية تشبه تلك التي حدثت إبان الحروب الصليبية أو تلك التي ضاعت بسببها الأندلس.
خاص بانوراما الشرق الاوسط - نسمح باعادة النشر شرط ذكر المصدر تحت طائلة الملاحقة القانونية
يا أعـراب الزيــت سوريـة لـن تسقـط
المزيد ..
The views expressed in this article are the sole responsibility of the author and do not necessarily reflect those of the Blog!
No comments:
Post a Comment