بقلم نارام سرجون
لأول مرة أرى أن الحيرة حائرة .. وأرى المحللين على طرفي الحرب في سورية ينظرون الى هذا المخلوق الذي دخل عليهم فجأة واسمه "وقف الأعمال القتالية" كمن داهمهم زائر غامض تحت جنح الظلام بلا ملامح ولاهوية .. وهم لايعرفون ان كان ذكرا أم أنثى .. وأراهم يمدون أيديهم يتلمسونه ويبحثون عن علائم ذكورته أو علائم أنوثته .. بعضهم تحسس مخالبه وبعضهم رأى فيه دليلة التي خدعت شمشون لتتمكن من قص شعره الذي يمنحه القوة ..
وكعادتي عند كل مفصل من مفاصل الحرب على سورية لاأعبأ بما يكتبه الثوار لأنني اعتدت بعد أن أقرأه أن أرميه في سلة المهملات لأنه يندرج في اطار الأمنيات وخداع النفس قبل الخصم .. وكما توقعت فان بعضهم سارع على الفور للربط بين تصريحات المندوب الروسي في الأمم المتحدة فيتالي تشوركين - التي وصفت بأنها رسالة حادة للسوريين - وبين الاتفاق الروسي الاميريكي لوقف العمليات القتالية .. وعلى الفور جهز هذا البعض وليمة من السراب والأحلام الجميلة ودعا اليها الحالمين من المعارضين الذين اعتادوا أكل السراب والجراد والأحلام ثلاث مرات يوميا حتى تحولوا الى سراب من أشباه البشر تتبعهم أسراب من الجراد .. فعلى الفور استحال بوتين - وفق تحليلاتهم - الى رجل تخلى عن الأسد وصفعه .. ووصل الأمر بأحدهم أن درجة الحلم فاقت التصور وخرج بالبشارة بأن دور الأسد قد انتهى أخيرا من بعد طول انتظار واننا دخلنا في عهد مابعد الأسد وسقوط الرايخ !! وهكذا سقط الرايخ السوري في يوم وليلة .. وهذا يدل على أن هذا النوع من جهابذة المعارضة يشبهون من فقد قطعة نقود في شارع مظلم فخرج يبحث عنها في شارع مضيء لأن البحث هناك أسهل .. ويدل على أن من يكتب عن سقوط التاريخ السوري فانه يعتقد أن الكتابة هي فن من فنون طهي "المحاشي" .. أي املأ السطور بالكلام المحشو اللذيذ بالجوز والفستق والرز والمقارنات والاسقاطات المستحيلة وقدمه مع المخلل للقراء .. وبالصحة والهناء على قلوب المعارضين ..
حتى الآن رغم الحذر أو الترحيب لايعرف أحد كيف سيكون تنفيذ الاتفاق ولايعرف من الخاسر ومن الكاسب؟؟ وبسؤال من نوع مباشر يسأل البعض: من الذي خدع الآخر.. الروس أم الأميريكان؟؟ لأن هذا الاتفاق ينطوي حتما على خديعة أو ثغرة أو حصان طروادة .. وكل يبحث عن حصانه الخشبي وعن الثغرات ..
الوطنيون السوريون يتوجسون من أن يكون الاتفاق كابوسا لأنه سيعني أن عملية التحرير التي انطلقت بنجاح كبير سترغم على التوقف .. مما ينقذ المجموعات المسلحة من مصير محتوم ويعطيها الفرصة لكي تعيد تنظيم صفوفها وخطوطها الدفاعية ونوعية سلاحها والتواصل اللوجستي الذي تقطّع .. والحقيقة أن المعارضين كما بات واضحا مستميتون من أجل تحقيق الهدنة "الشاملة" ويرون فيها الخلاص بدليل أنهم يريدون أن يشمل هذا النعيم كل المجموعات والفصائل دون استثناء لأن حجم الضربات التي تعرض لها الجسم المسلح كان شديدا ومؤثرا للغاية .. ويدل الاصرار على الهدنة وشمولها جميع الفصائل أن الموقف العسكري للمعارضة صعب للغاية وأن معنوياتها في الحضيض وأنها تتوقع الأسوأ وتعرف يقينا أن صمودها في هذا المناخ العاصف بالسلاح الروسي وأعاصير السوخوي صار مهمة مستحيلة .. حبث تم تحييد التاو .. ويوفر التفوق الجوي الكاسح الذي يترافق مع تحرك بري مدروس وغزارة النيران كل الأسباب للانكسار العسكري للمعارضة الارهابية ..والحقيقة أنني لم أجد منذ بداية الحرب على سورية هذا التوق والاستماتة من قبل المعارضة على تحقيق هدنة تشمل الجميع .. ولايفسر ذلك الا بأن العملية العسكرية اقتربت من قصم ظهر المعارضة شمالا .. والمعارضون يرون أن التقاط الأنفاس سيكون فرصة لتضميد الجراح ونقل الدم والاسعافات وتدارك الثغرات .. خاصة أن المعارضة التي انتظرت سلمان وأردوغان وجدت أن الرجلين يتثاقلان ولاينفران رغم كل الدعوات الحثيثة والآمال العريضة في التحرك .. وهما يرميان بالمبررات تلو المبررات لتجنب التورط بالحرب ..
اذا عرفنا من الخاسر من أي اتفاق سنعرف من الذي خدع الآخر .. فهل تعيدنا الهدنة الى مرحلة خدعة مراقبي الجامعة العربية الذين أدخلوا في بداية الاحداث الى المدن السورية بحجة التحقق من ادعاءات النظام والمعارضة؟؟ ولكن وجود المراقبين في المدن في تلك المرحلة كانت لابعاد الأمن والجيش عن قلب الأحياء المتمردة للسماح لها للاستعداد لبناء الاستحكامات والتحصينات لاعلان التمرد العسكري المسلح بالعنف الأقصى كما حدث في داريا ودوما وحمص .. ورغم أن القيادة السورية كانت تدرك تلك الخدعة لكن في تلك المرحلة الصعبة كان من الصعب رفض التحدي كيلا يفهم جزء من الجمهور السوري الذي كان حائرا أن الدولة لديها أسرار لممارساتها تخشى كشفها .. وكانت المناورة الأفضل هي كسب الناس قبل أن تكسبهم الدعاية الشرسة ..
لكن التمعن في الاتفاق الحالي الذي يبدو ظاهره طوق نجاة للمسلحين الموالين لتركيا والسعودية ربما يكشف أنه طوق النجاة المفخخ لهم أيضا .. فالزمن ليس كذلك الزمن الذي كان من الممكن تمرير الخدع والحيل .. لأن الاتفاق سيعني أن المعارضة ليست كلها محمية بوقف الأعمال القتالية وأن الجيش سيتمكن الآن من تحييد مجموعة كبيرة من الفصائل المسلحة وهو يفتك بأشرس المسلحين الباقين .. فهذا الاتفاق ينسجم مع مبدأ تفكيك الجبهات وقضمها .. فنحن نواجه داعش والنصرة ومكونات أخرى مسلحة منها جيش الاسلام ونظائره .. وهؤلاء جميعا ينسقون معا في توقيت هجماتهم فعندما ينشغل الجيش مع داعش تطعنه النصرة شمالا وعندما يواجه النصرة تستغل داعش أن النصرة تشاغل الجيش فتضرب .. وفي عز معارك تدمر وادلب كان جيش الاسلام يحاول احداث اختراقات مهمة في العاصمة ..
ان استثناء جبهة النصرة في الاتفاق وبقاء مصطلح (مجموعات أخرى ارهابية) سيخلق الشرخ المطلوب الذي قد يتدفق منه الحل السياسي الذي تصنعه روسيا وسورية وايران .. لأن جبهة النصرة والمجموعات الأخرى ستواجه المعركة في ادلب وحلب وحيدة .. دون مساندة من أي فصيل مصنف أنه معتدل اذا تضمنه اتفاق الهدنة .. واذا قصم ظهر النصرة في الشمال فان جيش الفتح كله سيعاني من أنه جسم بلا عظام لأن النصرة هي العظم القاسي لجيش الفتح .. ودونها فان جيش الفتح سيكون رخوا .. ومن هنا فان هناك استماتة للدفاع عن جبهة النصرة من قبل جميع المعارضين التابعين لتركيا والسعودية .. وكأن مقتل المعارضة يكمن في مقتل جبهة النصرة .. ولذلك فان التفاعل في جبهة الشمال سيكون شديدا لأن الشقاق سيتفاعل بين النصرة وشقيقاتها .. فالنصرة ستكون أمام امتحان الولاء من قبل بقية الفصائل التي ستقبل بالنأي بالنفس عنها .. أو سترفض التزام الهدنة من دون النصرة .. وهذا سيعني أن هذه الفصائل ستعامل معاملة داعش والنصرة وهي التي ستملأ الفراغ الغامض المنضوي تحت عبارة (مجموعات ارهابية أخرى) .. وهناك من يترقب أداء ناريا هائلا للروس والسوريين في هذه المرحلة لجعل جبهة النصرة أثرا بعد عين حيث تستهدف .. وغياب النصرة سيفتح المجال أمام الحل السياسي لأن كتلة القوى الراديكالية ستضعف وستقبل بالحل السياسي دون تشنج لأن النصرة هي التي تقود عملية العناد والرفض معتمدة على تنسيق وتفويض سري له صفة الأوامر من تركيا والسعودية بالرفض..
واذا ماتخاذلت وانكفأت الفصائل الأخرى عن المعركة الى جانب النصرة فان ما قد يحدث هو أحد احتمالين:
1- أما ان تهاجر موجات المقاتلين من النصرة الى تلك الفصائل التي نأت بنفسها عنها تجنبا للابادة أو كنوع من التقية وتغيير الألوان مؤقتا تلبية لتوجيهات القيادة التركية التي ستفرغ جبهة النصرة من مقاتلبها وتجعلهم منتمين لأسماء أخرى بنقل ولاء مقاتليها ظاهريا الى فصائل معتدلة حتى تتغير الوقائع السياسية والميدانية .. وهذه خدعة محتملة من قبل الأتراك للحفاظ على النصرة بلباس جديد ..ولكن الخطر في هذا أن ذوبان النصرة في التنظيمات الأخرى "المعتدلة" سيجعل التنظيمات المضيفة تخوض بسرعة صراعا عقائديا مع الوافدين الذين سيحسون أنهم فقدوا القيادة وصاروا من الأتباع .. لأن الأمر هنا ليس مهاجرين وأنصارا بل صراع الخليفة مع الطامعين بالخلافة ..وهو مشروع تدمير ذاتي للطرفين ..
2- أو أن الهجرة بين المقاتلين ستكون معاكسة أي من الفصائل "المعتدلة" نحو النصرة كرد فعل على خيانة الداعمين للمعارضة لجبهة النصرة التي آزرتهم ومكنت حكم الله وصارت أكثر شرعية جهادية من الفصائل التي ستتهم أنها خانت الجهاد وانخرطت في كفر العمل السياسي الدنيوي والزندقة ..
ولكن في كلتا الحالتين فان هؤلاء المقاتلين المهاجرين الى أية جهة في الهدنة اما أنهم أخرجوا من المعركة نحو حالة اللاقتال او أنهم دخلوا منطقة الموت (المشروع والمبرر دوليا) التي حكم بها على النصرة .. وهذا يعني أن عملية التحرير ستستمر دون توقف وأن مطحنة الجيش ستسمع دون توقف وهي تسحق عظام المسلحين الذين لن يكون في مقدورهم استثمار هذا الوقت لبناء قوتهم واعادة التوازن كما يتوهمون .. فماذا ستساوي كل التنظيمات بعد نهاية داعش والنصرة؟؟
اذا خرجت الآن داعش والنصرة هما عماد القوة المحاربة ويشكلان ثلثيها تقريبا حيث منح الجيشان السوري والروسي تفويضا مطلقا بالقضاء عليهما .. فان هذا يعني أن بقية الفصائل المحاربة التي تقبل الهدنة - ومنها جيش الاسلام - ستكون وحيدة بعد فترة أمام قوة الجيش التي ستتفرغ له كليا بعد تحطيم القوة الضاربة لداعش والنصرة .. ويكون أمامه اما خيار التسوية أو معركة ضارية جدا لايقدر على الصمود فيها ..لأن كل جيش الاسلام لايساوي شيئا أمام أعصار الجيش الذي سيتكفل بابادته اذا انفرط عقد داعش والنصرة اللتين تشتتان جهد الجيش السوري وتمتصان ثلثي قوته شمالا وشرقا وتبعدانه عن الفتك بجيش الاسلام مما أطال عمره في دوما الى هذا اليوم ..
لذلك تبدو فائدة الهدنة للسوريين والروس كبيرة لأنها تعني باختصار تهئية الساحة لافراغها من القوى المسلحة القوية المعاندة .. وغياب القدرة على اللعب بالميدان سيليّن المواقف السياسية ويذيب الرؤوس الحامية المتشددة .. ويجعلها تميل لحلول سياسية منطقية عادلة في اطار حوار سوري سوري دون سيمفونيات عادل الجبير وصنجات رياض حجاب .. ماتفعله سورية وحلفاؤها ليس خدعة في الهدنة بل البحث عن تفاوض سياسي أو تهئية ظروفه من دون بقاء أسباب العناد والتشنج والمكابرة السعودية التركية ..أي بعد تجريدهما من القوة الارهابية تحت سقف محاربة الارهاب الدولية ..
الأتراك سيتنبهون الى المعضلة والمشكلة العويصة والتحدي في قبول الهدنة .. واذا قبلوا فانهم سيحاولون اللعب تحت الطاولة اما لاستثمار الهدنة لتعويض النقص في مقومات الصمود لدى المسلحين أو لتخريبها عندما يتبين أنها أكثر ضررا وقتلا من الحرب .. وخيار المناورة وكسب الوقت من قبل تركيا لسد ثغرات الصمود صعب التطبيق للغاية طالما بقي الطيران الروسي وأعمال الرصد والتنصت قائمة بفعالية وهي نشاطات غير مشمولة بالهدنة .. كما أن فقدان ورقة جبهة النصرة عبر تواصل ضربها سيجعل امداد تركيا للجسم المسلح غير ذي جدوى .. واذا تم تخريب الهدنة فان يعني أن الطرف السوري الروسي لن يلام في استخدام المزيد من القوة النارية الطاغية لاقتلاع المسلحين والاستيلاء على اورق تفاوض عزيزة على تركيا والسعودية ..
في الهدن اذن لاتبحثوا عن شمشون بل ابحثوا عن دليلة التي خدعت شمشون وقصت له شعره في "هدنة" .. وانتهى وقد أحرق الفلسطينيون عينيه وشغلوه في طحن الشعير ..
بعد الهدنة بفترة وجيزة ستأتينا الأخبار وسنرى من الذي لعب دور دليلة .. روسيا أم أميريكا؟؟ ومن الذي كان شمشون.. أبو محمد الجولاني أم محمد علوش؟؟ .. أم سلمان .... أم .... أردوغان؟؟ .. وقد قصت دليلة شعره أثناء الهدنة .. وربما شيئا آخر عزيزا عليه .. سلبه رجولته وفحولته .. وسيصير بعده "ثمثون الطيب" ..
The views expressed in this article are the sole responsibility of the author and do not necessarily reflect those of the Blog!
No comments:
Post a Comment