ناصر قنديل– لا يتناقش إثنان في العالم حول المكانة التي تحتلها أميركا في صناعة السياسة في العالم، ولا أيضاً في حجم أهمية منطقتنا في السياسة العالمية، وحجم تأثرها بالسياسات الأميركية، ومثلما يدعو للسخرية التوهّم بوصول رئيس أميركي صديق ومناصر لقضايا شعوبنا ويريد الخير لبلادنا، في ظلّ المكانة التي تحتلها «إسرائيل» في صناعة السياسة الأميركية والمساحة المشتركة التي تجتمع عبرها مواقف المتنافسين على الرئاسة الأميركية، وطالما بلادنا تحمل راية الاستقلال الوطني، وتختزن ثروات وميزات تجعلها تحت عين الأطماع الاستعمارية لأيّ حاكم غربي، سيكون أيضاً مثيراً للسخرية أن يخرج المحزونون على خسارة هيلاري كلينتون والذين طبّلوا وزمّروا لها على مدى شهور، وربطوا دعواتهم لصمود الجماعات المسلحة في سورية وإطالة أمد حرب اليمن، بالرهان على وصولها إلى البيت الأبيض، ويعظون ويحاضرون في الحديث عن عنصرية دونالد ترامب الفائز بالسباق إلى البيت الأبيض، ويستعيدون خطاباته الداعمة لـ «إسرائيل»، وكلّ عاقل في بلادنا يعرف أنّ التغيير في مستقبل قضايانا يصنع هنا عندنا، وليس بالرهانات على مَن يسكن البيت الأبيض، وأنهم جميعاً متساوون في العداء لحريتنا وقضيتنا فلسطين، لكن هذا لا يجب أن يعطّل عقولنا عن قراءة الظواهر ورصد التغييرات، واستخلاص المعاني، فهي شروط يحتاجها مَن يبحث عن الفاعلية لحروبه، ومقاومته، ليعرف مَن هو العدو وما هي استراتيجياته، وخططه وخلفياته، ويقيس مدى تأثير مقاومته وصموده في صناعة تأثير يذكر في تغيير سياسات مركز القرار في الحرب، وهل نجح في إيصال رسالة اليأس والتعب إلى شعبه ونخبه وصناع القرار عنده، ليصير فحص الانتخابات الأميركية ونتائجها شيئاً يشبه قراءة بلغة تلفزيون الواقع في تقرير بيكر ـ هاملتون بعد الفشل الأميركي في حربي العراق وأفغانستان، أو تقرير فينوغراد بعد الفشل «الإسرائيلي» بسحق المقاومة في حرب تموز 2006 على لبنان.
– جرت الانتخابات الرئاسية الأميركية كما سابقاتها، على إيقاع تحوّلات كبرى في العالم. فوصول بيل كلينتون عام 1992 كان بداية صناعة الحرب في أوروبا لوراثة سريعة لتفكك الاتحاد السوفياتي. وكانت حرب يوغوسلافيا وكان الدفع بتسريع ولادة الاتحاد الأوروبي كذراع سياسية اقتصادية ناعمة لاستيعاب دول أوروبا الشرقية الخارجة من تحت عباءة روسيا. ووصول جورج بوش الإبن كان التتمة الجمهورية لحروب الشرق، بعد الفوز بحروب أوروبا الخشنة والناعمة، ومن ضمنها الثورات الملوّنة التي حاصرت روسيا المنهكة. وجاءت حربا أفغانستان والعراق ترجمة للمروحة الجديدة للحرب الامبراطورية، وجاء الرئيس على قياسها، أما باراك أوباما فجاء على صهوة حصان الاعتراف الأميركي بفشل حروب الشرق الخشنة والرهان على الحرب الناعمة، وذراعها قدر من التفاهم مع إيران وآخر مع روسيا، لتمرير الذراع الثانية المتمثلة بخطف سورية من الجغرافيا السياسية للمحور الروسي الإيراني دون التورّط في حرب. والذراع الثانية أصابعها موزعة بين تزخيم مشحون بالدم والوعود والآمال للذاكرة العثمانية، واستنهاض للعصبية الإخوانية، عبر تثمير وتوظيف مكثفين لزواج مشاعر الغضب الشعبي وآلة الإعلام العملاقة من الجزيرة و«العربية التي جرى إعدادها وتجهيزها لهذا اليوم، واشتريت لها المصداقية على مدى سنوات لتصل إلى يوم ترفع فيه شعار الشعب يصنع ثورته، والشعب يريد إسقاط النظام، فيصل الإخوان إلى الحكم في مصر وتونس بانتظار سورية. هذا عدا عن المال المنفق بلا طائل في المخابرات والمؤامرات وصولاً إلى الحاج فايسبوك والسيد تويتر. والأصابع الأخرى لهذه الذراع هي استثمار وحشي لا يرحم لتنظيم القاعدة بكلّ مفرداته، للقتل وتعميم الموت، واللعب على حافة هاوية التقسيم والتفتيت وحروب الفتن، حتى تصرخ الشعوب وتنهك المقاومة وتسقط الأنظمة، وترتفع الراية البيضاء.
– في حصيلة ولايتَيْ باراك أوباما فشلت الحروب الناعمة، بسبب صمود سورية شعباً بوجه الفتن، وجيشاً بوجه الإرهاب والحرب، ورئيساً بوجه الترهيب والترغيب. ومع مسيرة الصمود السوري استنهضت قوى المقاومة ونهضت إيران وروسيا لمساندتها، منعاً للتغير المسموم للجغرافيا السياسية تحت عباءة الشعب يصنع ثورته ، وتداخلت المفاوضات بالمعارك، وجرى اختبار ألاعيب السياسة كلها، وبقي السؤال الأهمّ، بين معسكري الحرب في المنطقة، هل هُزمت أميركا؟ والهزيمة لم تعد فناء جيوش واستسلام الإمبراطور، كما في الحرب العالمية الثانية، بل تغيير الخيارات، ولجوء الشعوب عبر صناديق الاقتراع في ساحة صناعة قرار الحرب لإعلان تعبها ويأسها، وعزمها على الاهتمام أكثر بمعاشها، وسأمها من وعود معسولة بالمنّ والسلوى، وطلب المزيد من الصبر لأنّ الحرب تكاد تنتهي بنصر سيجلب عائدات يعمّ خيرها على الحكام والحلفاء والشعوب أيضاً.
– تعنينا الانتخابات الأميركية، بغير معيار مشوّه يريد الاطمئنان على وصول صديق للعرب لا ينقل السفارة الأميركية في فلسطين المحتلة إلى القدس، ولو زوّد إسرائيل بكلّ أدوات الموت والقتل والدمار، ومدّ أنابيب النفط الخليجي إلى موانئها. واليقين عند كلّ عاقل أنّ كلّ رئيس أميركي صديق لـ إسرائيل ضنينٌ بها، مسؤول عن حمايتها، ملتزم بتفوّقها العسكري. مقاربتنا للانتخابات الرئاسية الأميركية، هي تماماً بالعمق من منطلق الاهتمام السعودي والتركي ذاته، ولكن بعكس الاتجاه. فما كان يعني الرياض وأنقرة ليس وصول هيلاري كلينتون بصفتها مَن سيمنح للسعودية وتركيا مكانة أميركا، بل في اللحظة السياسية التي حملها سلوك إدارة أوباما منذ توقيع التفاهم على الملف النووي الإيراني وصولاً لتوقيع التفاهم الروسي الأميركي مع روسيا، صار وصول هيلاري كلينتون أملاً بمواصلة الحرب وإنكار الهزيمة، وصار فشلها تكريساً للفشل والهزيمة، والنتيجة يقرّرها الناخب الأميركي، الذي يعنينا قياس خياراته، وطبيعة ودرجة التفويض الذي سيمنحه لحاكم البيت الأبيض، بحصيلة صمود جيوشنا ومقاومتنا وقيادة مقاومتنا ومحورنا المقاوم، وبفارق جوهري بيننا وبين السعودية أنها موّلت حملة كلينتون وربطت مصير سياساتها بما ستحمله الانتخابات الرئاسية الأميركية، بينما لم ولن تكون قضيتنا أن نتبنّى وندافع عن وصول ترامب، وهو القلب الأسود العنصري، والحليف الموثوق لـ إسرائيل . كنا ولا زلنا معنيّين بمراقبة وتحليل مسار الصراع الرئاسي، باعتباره تعبيراً عن احترامنا لتضحيات شهدائنا بحماية ثوابتهم، لكن ببذل الجهد لمعرفة نتاج ما صنعته دماؤهم في تعبيد الطريق إلى النصر، فهل قال الأميركيون في صناديق الاقتراع هلمَّ إلى الحرب، أم تعبنا ونريد رئيساً يهتمّ بالداخل الأميركي؟
– الانتخابات الأميركية كما الاستفتاء البريطاني على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، تعبير عن تفكك آلات الحرب، وتعب شعوب الغرب، وميلها للانكفاء إلى دواخل بلادها، ورفع شعار الأمة العظيمة خير من الدولة العظمى ، ولو تبدّى التبدّل بكلّ فجاجة تشبه خطاب ترامب.
– أميركا الأكثر أميركية والأقل عالمية، كما بريطانيا الأكثر بريطانية والأقلّ عالمية، تناسباننا أكثر، مثلما هما علامتان على نتاج حروبنا ومقاومتنا وصمود أمتنا وشعوبنا وجيوشنا ومقاومتنا، مثلما أن تكون روسيا عالمية أكثر وروسية أقلّ علامة على فعل حقائق الصمود والثبات في إيصال رسالة أنّ هناك ما يستحقّ الرهان.
– لأنها أميركا سيعتاد الناس على عالم جديد مع أميركا بلا أنياب. سيتغيّر العالم كثيراً مع أميركا جديدة، تهتمّ بداخلها، أكثر مما تهتمّ لصناعة الحروب، وسيكون من حق الشعوب المضحّية أن تحتفل بعظيم إنجازها.
The views expressed in this article are the sole responsibility of the author and do not necessarily reflect those of the Blog!
No comments:
Post a Comment