بقلم نارام سرجون
عندما كنا نموت ونحن نحارب .. كان العالم يتحضر لدراسة موتنا كنموذج لهزيمة أنظمة لم يهزمها تقلب الأقدار حولها فهزمتها نظرية حروب الجيل الرابع .. وكان العالم أيضا يتحضر بالمقابل لدراسة النموذج العسكري الفريد والناجح لحروب الجيل الرابع التي لاتقهر والتي سحقت الامبراطورية السوفييتية ويوغوسلافيا وأوكرانيا وخمس جمهوريات عربية والحبل على الجرار ..
هذه الحروب التي تبدأ بصناعة مظاهرات بسيطة وبريئة في الشوارع وتنتهي بصناعة ثورات عارمة دموية تجرف كل ماعلى سطح الأرض من بنى وأبنية وابناء .. وينتصر فيها العدو بدم خصمه وماله وسلاحه .. فيما العدو يراقب من بعيد ويتقدم ليجني النصر ويدفن الجثث ..
ولكني أستطيع ن اقول لكم ايها السادة ان العالم اليوم توقف مليا أمام مشاريعه لدراسة نماذج حروب الجيل الرابع لان النموذج السوري قد جعل حروب الجيل الرابع بلا قيمة طالما أنها فشلت وتعرضت لهزيمة قاسية في النموذج السوري الفريد .. ان دراسة النظرية تبقى ذات معنى وفائدة طالما أنها تعمل بنجاح في كل مرة يتم تطبيقها وهو مبدأ يسمى علميا باعادة انتاج المنتج .. فاعادة انتاج المنتج في كل مرة تطبق فيها النظرية يعني ان النظرية صحيحة وبرهانها ثابت في تكرار انتاج المنتج كلما طبقت النظرية .. ولكن يكفي الفشل مرة واحدة في انتاج المتوقع من النظرية حتى تفقد النظرية مكانتها كنظرية وبدهية وتتحول الى فرضية ضعيفة ومثقوبة .. كما أن النظرية تتعطل وتتحول الى اصطفاف لغوي مسبوك مثل الشعر الجميل الذي يحرك القلوب ولكنه لا يدير محركا بخاريا واحدا .. فالنظريات كلها لاتحتمل الهزيمة الا مرة واحدة .. لتتحول الى خردة لغوية ..
ان ماهو اجدى بالدراسة اليوم في كليات العالم البحثية هو النموذج السوري الخلاق الذي حول نظرية حروب الجيل الرابع الى خردة لاتفيد دراستها بعد ان ثبت انها يمكن ان تفشل وتصبح فرصة للعدو ليعتليها وينطلق في هجوم معاكس .. ومناسبة هذا الكلام هو ماكتبه لي اليوم أحد اصدقائي الغربيين الذين يتابعون الشأن السياسي العام منذ سنوات عندما وصلته أنباء الاقتراب من مطار أبو الضهور بعد اجتياح عاصف لمقرات وقواعد الارهابيين في الريف الادلبي .. فقد أرسل يقول لي انه معجب الى حد الافتتان بالمعجزة السورية في الحرب وأنه سعيد أنه صار يلمس أن المناهج التدريسية في كليات العلوم السياسية في الغرب بدأت تحضر نفسها لدراسة الحرب السورية كنموذج فريد جدا تفرّد بانه كسر نظرية حروب الجيل الرابع القائمة على استخدام قوى محلية كبيرة عنيفة لتحطيم الخصوم على مبدأ قتل الخصم بسيفه .. وهي نظريات مرعبة ومربكة ووقف العالم أمامها حائرا وغير قادر على التعامل معها لأنها لم تهزم بعد ونجحت منذ حرب الجهاديين على السوفييت بدعم اميريكي ووصل الى الربيع العربي .. ولكن النموذج السوري كسر النظرية وحطمها .. وصارت بلا قيمة .. ولكن الاهتمام والقيمة صارا من نصيب الظاهرة السورية التي انتصرت على النظرية الشريرة لحروب الجيل الرابع ..
الأسئلة التي ستطرح كثيرة للغاية ولاحدود لها ولاضفاف .. فكيف انكمشت الدولة السورية في سيطرتها الجغرافية على الارياف واحتفظت بسيطرتها الديموغرافية على المدن الكبرى ثم انطلقت في توقيت حساس واستعادت الأرياف الواسعة؟ .. وكيف تعاملت بمرونة فائقة مع الضغط الديبلوماسي والسياسي والاعلامي الهائل الذي ليس له نظير وخاصة في عمليات التزوير والتشويه للحقائق الذي شاركت فيه منظمات الامم المتحدة والمنظمات التي يفترض أنها تملك حدودا أخلاقية مثل المنظمات الاسلامية العالمية الرسمية وغير الرسمية ومنظمات حقوق الانسان وغيرها؟؟ .. وكيف نسجت الدولة السورية تحالفات مفيدة دقيقة جدا وصاغت علاقات قديمة دولية مع ايران وروسيا ووظفتها في المعركة في الوقت المناسب كما تستخدم المدخرات المالية في لحظات الخسائر والافلاس؟؟ .. وكيف استفادت الدولة السورية من تراجع الخصم في حرب العراق ولبنان ووظفت هذا التراجع والهزيمة لاغراء قوى كبرى لاستكمال ضرب الخصم قبل أن يسترد قوته؟؟ وكيف توازنت اقتصاديا وواجهت أقسى حصار في التاريخ تمثل في اغلاق كل منافذها الحدودية باستثناء معبرين في لبنان كانا مثل معبر كرم ابو سالم في غزة .. وسدت ابان ذلك كل طرق التجارة والطيران حتى ان غزة كانت أكثر حرية من سورية المحاصرة ؟؟ .. وكيف تجنبت الحرب الاهلية رغم عملية ضخ الكراهية الديني المتواصل بين شقوق المجتمع ومفاصل الطوائف لتفكيكه يوميا عبر كل وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي؟؟ .. أما مايجدر بالاهتمام فهو كيفية تغيير ديناميكية الجيش وتوزيعه على مئات نقاط الاحتكاك ليتعامل مع أعداء مختلفين ولكل عدو طرقه ووسائله وأسلحة وتكتيك واستراتيجية قتال مختلفة تستوجب تدريب الجيش على كل أنماط القتال ليتناسب مع أداء وأسلوب كل عدو على حدة وأسلحته ومصادرها .. وكيف استفاد من الاحتضان الشعبي لقضيته لان الاحتضان الشعبي في مناطق أخرى خضعت للجيل الرابع للحروب لم يكن كافيا لان القوة الضاربة وعصفها كان عاتيا جدا أربك الاحتضان الشعبي وأبعده بالحرب النفسية والتشويش الاعلامي .. ومن الأسئلة الهامة هي مايتعلق بالخطوات السورية في الاستعانة بالامكانات الروسية بذكاء ودقة دون احراج الحلفاء او الاعتماد عليهم كليا .. فالاعتماد على القوة البرية الروسية لم يكن ممكنا لان هذا يعني خسائر بشرية للروس مما يجعل الموقف الروسي غير مستقر ومرتبطا بحجم الخسائر التي كلما ارتفعت سيحس بالقلق والحاجة للتوقف منعا لاستفزاز الرأي العام الروسي الحساس من ذكريات أفغانستان ..فقدم السوريون حلا مثاليا بالاعتماد على القوة الجوية الروسية بشكل اساسي مما فوت على الخصم فرصة تهديد التحالف بالحاق خسائر بالحليف الروسي .. وهذا التكتيك هو الاول من نوعه في الحروب الحديثة فالأمريكان والروس في الماضي تدخلا بالقوات البرية والجوية لصالح الحلفاء ولكن الخسائر البشرية المرتفعة جعلت هذا الخيار سلاحا مؤذيا وذا حدين .. وفي المدرسة السورية تم تقاسم المعركة مع الروس بحيث تكفل الجيش السوري بالبر وتحمل عبء المواجهة لانها أرضه .. فيما كان الوضع الروسي مرتاحا كثيرا لقلة خسائره ومحدوديتها مما فوت الفرصة على منتقديه في العالم وفي الداخل الروسي لركوب ذريعة الخسائر غير المبررة لمساندة حلفاء خارجيين .. وماكل هذه الاسئلة الا قطرة في المحيط من الأسئلة التي افرزها النصر السوري البديع ..
الحرب لم تنته بعد .. ولكن نظرية حروب الجيل الرابع انتهت .. وصارت خردة .. وبدأ ميلاد نظرية عالمية جديدة في الدفاع – ضد حروب متعددة الرؤوس- من المدرسة السورية سينكب عليها كل طلاب المعرفة لقراءتها ودراستها والتعلم منها في المجتمع والاقتصاد والسياسة والعسكرية .. وأنا لاأستبعد أن ياتي يوم في جامعات العالم التي تدرس العلوم السياسية أن يكون هناك مقرر أو مادة درسية اسمها .. النظرية السورية في الحروب غير التقليدية .. النظرية الكاملة في الدفاع ..
الى كل الذين ساهموا في تحطيم نظرية حروب الجيل الرابع من عسكريين ومدنيين ووطنيين وعمال وفلاحين وفقراء وطلاب .. وأطلقوا نظريتهم الدفاعية الفذة .. طوبى لكم .. ويكفيكم فخرا أن العالم الذي انتظر ان يكتب عن نموذكم المهزوم وجد نفسه ليس فقط مضطرا للكتابة عن النموذج الخلاق في الدفاع .. بل مضطرا ليدخل الى المدرسة السورية ليتعلم منها .. ويقرأ في الكتاب السوري .. الذي ألفه ملايين السوريين .. كتاب من تأليف الملايين جدير ان تقرأه الدنيا وأن تتعلم منه البشرية .. كل البشرية ..
( الجمعة 2018/01/12 SyriaNow)
The views expressed in this article are the sole responsibility of the author and do not necessarily reflect those of the Blog!
No comments:
Post a Comment