نارام سرجون
جعلتنا الانفعالات لانرى بين الدخان والغبار والحريق الذي اندلع في جسم الطائرة الاسرائيلية الا ثاراتنا من (الزمان والمكان المناسبين) .. وثاراتنا من صلف نتنياهو وجنرالاته الذين كانوا يتبخترون وهم يتنزهون بمناظيرهم على مرتفعات الجولان ليأكلوا تفاح الجولان وليراقبوا مشاهد المعارك بين الجيش السوري وجيش اسرائيل من المتصهينين الاسلاميين كما لو أنه فيلم من افلام الاثارة الحية ..
طبعا هي طائرة واحدة وفي المقاييس العسكرية فهي ليست ثقيلة بحجمها ولكن بمعناها .. وبرغم كل التحليلات المستفيضة عن معنى هذا السقوط في الهيبة الجوية الاسرائيلية وتجريد اسرائيل من رمحها الطويل .. لكن يجب النظر الى حادثة اسقاط الطائرة من زاوية أخرى .. وهي معناها بالنسبة لما يسمى الثورة السورية أو المعارضة السورية .. لأن هذه المواجهة هي التي أظهرت انعطافة الحسم لأول مرة في الحرب السورية وليس الطيران الروسي .. فالطيران الروسي غير مجرى الحرب تماما .. ولكنه لم يقم بعمل او فعل التهديد لأي قوة خارجية تعتبر مؤيدة للارهابيين وعمقا استراتيجيا لما يسمى الثورة السورية .. فهو رغم التحرش الواضح به لم يتحرش بتركيا ولا بالناتو ولا بالطيران الاميريكي وتجنب توسيع دائرة المواجهة وحصرها في المسلحين أو جيش الناتو الاسلامي .. وكان مهمته تتركز على عملية تجريد الاميريكيين والاتراك من الذراع العسكرية الاخطبوطية المتمثلة بالتنظيمات الاسلامية الارهابية والتي اعتقد الاميريكيون ان تنفيذ هذا الهدف الروسي صعب المنال ..
لكن استراتيجية الروس اعتمدت على قوة برية متفوقة في الجيش السوري وحلفائه .. فيما قام الطيران الروسي بعمليات في منتهى القوة لابادة القوة الرئيسية للتنظيمات الارهابية فأحال مئات المدرعات والسيارات والمصفحات والدبابات وسيارات النقل والامداد الى رماد وتمكن من تدمير منشآت مستودعات السلاح الضخمة .. وفي هذه الحملة الجوية الضخمة تعمّد القصف الجوي ابادة كتلة كبيرة جدا من العناصر البشرية المسلحة الارهابية التي استغرق تدريبها وتسليحها وتجميعها وادلجتها الى سنوات .. ولايمكن بسرعة تعويض هذه الخسائر البشرية بنفس السرعة واعادة تموضعها بعد تشتيتها لأن عملية الابادة والحراثة الروسية للأرض كانت أسرع من عملية التجنيد والتحشيد .. بل ان التجنيد تراجع والتحشيد الجهادي ترهل وحدثت هجرة معاكسة لسبب واضح وهو ان المجاهدين كبشر تجذبهم الانتصارات والمكاسب حيث كان يتم الترويج لانتصارات داعش والنصرة في كل وسال الاعلام ويدفع الحماس من سهولة انتصاراتهما على جيوش المنطقة كثيرا من الشباب المؤيدين المنفعلين الى الانخراط في العمل الجهادي والهجرة من آلاف الاميال للمساهمة في قطف النصر وكسب ثواب كبير مقابل خطر قليل من انتصارات متلاحقة سريعة .. ولكن مافعله الطيران الروسي من عملية ابادة هائلة لارتال المسلحين ومخازنهم وعناصرهم البشرية جعلت الثمن البشري باهظا جدا ونتبجة لذلك صار الحماس للانضمام الى الجيوش المهزومة الجهادية التي تحولت الى نعوش جماعية – ضعيفا جدا .. فالموت شبه حتمي والنصر شبه معدوم للشباب الوافدين .. ولاملائكة من السماء ولامايحزنون .. بل سوخوي وكاليبر واطنان من القنابل العملاقة ..
هذا التكتيك الروسي الذكي عمل فقط على مرحلة بتر الأذرع والأرجل الاميريكية من مشروع الحرب على سورية في تفاهم ليس فيه غموض مع الغرب .. حيث بدا ان التفاهم هو أن الغرب لا يمانع أن يحارب الروس الجهاديين في سورية فمن يدفع الثمن هم الجهاديون فقط دون أن يخسر الاميريكيون جنديا واحدا بسبب الحملة الروسية .. وكان هناك احتمال أن الأميريكيين الذين نجردهم من الأذرع الجهادية سيضطرون الى التخلي عن طموحاتهم وهم على طاولة المفاوضات بلا أذرع ولا أرجل .. لكن الاميريكيين أبقوا على الجسم السياسي للمعارضة سليما كغطاء يتحرك نحو أي مشروع بديل عن الحملة الجهادية فحركوا “قسد” البديلة عن الاسلاميين وتركوا الجسم السياسي مثل القشرة المجوفة التي بقيت بعد جفاف واضمحلال الشحم واللحم العسكري تحت القشرة السياسية المعروفة في وفود المعارضة المختلفة .. فالجسم السياسي للمعارضة الذي تشكل منذ بداية الحرب بقي على حاله حيث لم يتم المساس به لا بالتصفيات ولا بالاغتيالات ولافي حادث سيارة .. وطبعا لم يمت واحد منه في أرض المعركة لأن هؤلاء جميعا كانوا يقاتلون في الفنادق ويطيرون من قارة الى أخرى لتناول الشاي والولائم في مؤتمرات لاتنتهي .. وهذه القشرة السياسية تغدق عليها الأموال كمواد حافظة تحفظها من التبدد كما يحفظ الطعام المملح والمخزن في مواد حافظة ومخللة لوقت الحاجة .. وكانت القشرة المعارضة توعد على أن ضغوطا ما على الزعماء الغربيين من قبل اللوبيات الصهيونية – تحديدا – سترغمهم على عمل شيء لاظهار مزيد من الدعم للمعارضة السورية أو على الأقل كان هناك أمل في تغيير سياسة التسليح وتزويد الجسم الجهادي الباقي بأسلحة كاسرة للتوازن .. وظل العقل الذي يدير المعارضة يظن أن من يتلقى الضربات هو المعارضة وجنودها أما من يقف في الظلام وفي الخطوط الخلفية فان في منأى عن أي انتقام أو عقاب أو مواجهة مباشرة ..
الى أن حدثت مواجهة صاروخية مع الطيران الاسرائيلي وسقطت ف 16 .. وكانت هذه أول مواجهة مع القوة الرئيسية المنخرطة في المشروع وتنسق مع المعارضة السياسية والعسكرية وتحركها من خلف الكواليس .. وكان التحرك السوري أول مؤشر على أن تحولا كبيرا طرأ وأن قائد اوركسترا الثورة المايسترو الاسرائيلي هو الذي يجب أن يحمي نفسه بدل أن يحمي الثورة المسلحة للمشروع الجهادي .. فاسقاط الطائرة التركية في بداية الحرب لا يشبه اطلاقا حادثة الطائرة الاسرائيلية لأن تركيا كانت تعمل في مشروع اسرائيلي – أميريكي وتنتظر حصة فيه ترمى لها .. وهي لاتستطيع اتخاذ قرار الحرب دون غطاء اسرائيلي أو اميريكي واضح .. اما اساقط الطائرة الاسرائيلية فيعني ان أصحاب المشروع وصلت اليهم الحرب لأول مرة .. ومن الصواب أن ينكفئ ويترك حلفاءه لمصيرهم وقدرهم المحتوم في حفل الموت المقام لهم فيما بقي من أراض خاضعة للارهاب ..
بعد سبع سنوات صار واضحا أن هناك فريقا هزم في سورية وتحول الى قشرة سياسية “مخللة ومحفوظة بالمواد الحافظة” ستبقى الى امد طويل تستعمل في المفاوضات والابتزاز في الخارج .. وأن هناك فريقا انتصر هو من سيدير سورية لعقود قادمة بعد ان نجح في لعبة التحدي واستنزف بصبر كل امكانات الخصم قبل أن يوجه له الضربة القاضية .. ولكن الذي رسم الحد الفاصل بين هذين الفريقين وعرف بسببه من الذي انتصر كان الطائرة الاسرائيلية التي أسقطت .. وكان سقوط الطائرة الاسرائيلية هو أول مؤشرات الحسم في المعركة السورية الشاقة والطويلة وأول ضربة موجعة للمعارضة السورية ..
فتطور الاحداث كشف أن الثورة السورية مشروع اسرائيلي ينتمي الى سلسلة مشاريع اسرائيلية وحلقات متوالية لتصل الى الحلقة الاخيرة يوما ما وهي بناء اسرائيل من الفرات الى النيل .. بدأ المشروع في بدايات القرن الماضي وانتهى باقامة نواة الدولة اليهودية وأرض الميعاد على كامل التراب الفلسطيني .. ومع بداية القرن الحادي والعشرين بدأت عملية تحطيم الطوق حول تلك النواة اليهودية وتحضير الأرض من الفرات الى النيل لتحويلها الى أرض فارغة من السكان الفاعلين واحلال 18 مليون يهودي محلهم .. تحطيم الطوق تم على مرحلتين كبيرتين .. الأولى تتم فيها عملية تجريد المنطقة من الجيوش .. وبغياب الجيوش التي تحمي الأمن والسلم الاجتماعي يتم تهجير السكان او احداث خلل سكاني واجتماعي وحالة انعدام وزن ديموغرافي بالحروب الاهلية والارهاب والعنف والهجرات الكبرى والانزياحات السكانية لتخلّ بالثقل السكاني العربي بين الفرات والنيل وتمزيفه بين هويات جديدة متناحرة ..
الجيوش الرئيسية الثلاثة العراقي والسوري والمصري دخلت مرحلة التحييد في بداية القرن الحالي .. فالجيش المصري كان قد تم تحييده مؤقتا بربطه بسلاسل كامب ديفيد بانتظار انتهاء الجيشين العراقي والسوري ليوضع في مواجهة مباشرة مع الاسلاميين في مصر في حرب طاحنة شرسة .. والجيش العراقي تم تحييده بعد تعريضه لهزيمة منكرة على يد الغزاة الامريكيين .. وأما السوري فكان ينتظره مصير الجيش العراقي ولكن على يد الاسلاميين المتسلحين الذين تلقوا دعما لانظير له معنويا وسياسيا وعسكريا وتقنيا وديبلوماسيا من الغرب ..
وبرغم كل مؤشرات اختلال تنفيذ المشروع (مثل تراجع الضربة الاميريكية على سورية وتراجع تركيا عن التحرك شمالا لاقامة مناطق عازلة) .. فان العلامة الرئيسية التي تؤشر على أن المنطقة دخلت عصرا جديدا ايجابيا ضد مزاج الثورات التي كانت ستفرغ المنطقة وتخل بتوازنها كان باسقاط طائرة ف 16 الاسرائيلية .. لأن وصول المواجهة لأول مرة بشكل مباشر بين سورية واسرائيل الى حالة الصدام والتأهب للتصادم فانه كان يعني أن ثمة شيئا ما كبيرا قد تغير جدا ووصلت المواجهة لاول مرة الى أصحاب المشروع أنفسهم .. وأن خللا كبيرا في التوازن الذي ارساه هنري كيسنجر عام 1974 بعد حرب تشرين قد انتهى مفعوله .. رغم انه كان ثابتا وراسخا وغير قابل للكسر وخاصة مع غياب مصر .. فسورية لم تحارب من غير مصر لأنها تحتاج الى قوة تشاغل أو تهدد قوات اسرائيل في الجنوب .. كما أن كل الدعوات التي كانت توجه للقيادة السورية أن ترد على التحرشات الاسرائيلية لم تفلح في اخراج القيادة السورية عن موقف (الوقت والمكان المناسبان) حتى في أحلك الظروف وأكثرها احراجا منذ عقدين .. ومن بداية الاحداث في سورية كان الكثيرون بطالبون باتجاه اطلاق حرب على اسرائيل لارغامها على ايقاف مشروعها في حشد العرب والمسلمين والناتو معا ضد الجيش والشعب والقيادة في سورية .. ومع هذا كان هناك شيء ما كالسر الدفين والسلاح السري الذي تريد الحكومة السورية أن تمسكه كاليقين قبل التوصل الى قرار الحرب والمواجهة مع صاحبة الثورة السورية .. أي اسرائيل .. ولم يكن هذا السر في يدها بعد .. ورغم أن السلاح الموازن والاستراتيجي كان بيدها بما فيه السلاح الكيماوي فانها أحجمت عن خطوة المواجهة مع اسرائيل بانتظار معادلة سرية تريد الحصول عليها لانعلمها .. فالصواريخ المتنوعة والبعيدة والمتوسطة المديات وبعيارات مدمرة كانت لديها – ولاتزال – وبوفرة وأعداد هائلة بينها وبين حليفتها ايران فانها لم تفكر بالحرب لأنها كانت تنتظر “الزمن والمكان المناسبين” ..
وكاان الحد الفاصل بين هزيمة مايسمى بالثورة السورية وهزيمة الدولة في سورية هو شيء واحد فقط .. اسرائيل الأم الحقيقية للثورة السورية .. فانكفاء اسرائيل يعني أن الثورة السورية تعرضت لهزيمة على يد الجيش السوري والشعب السوري وصارت يتيمة .. وتطاول اسرائيل دون عقاب يعني استمرار الثورة السورية وفرص نجاحها ..
ولذلك فان وصول الصواريخ السورية الى جسد الطائرة الاسرائيلية له معنى كبير جدا وهو أن الدولة السورية التي كانت تنتظر أن تمسك بيدها مفتاحا من مفاتيح القوة قد حصلت على ماتريد (؟) .. وهي قادرة على الحرب والمواجهة وضرب أم الثورة السورية في اسرائيل .. وهذا يعني أن المظلة التي كانت تظلل الثورة السورية وقادرة على الزج بكل قوتها الصهيونية الضاغطة عالميا لمؤازرة الثوار السوريين صارت في وضع أنها عليها أن تحمي نفسها وانها يجب ان تعتني بنفسها قبل ان تعتني بالمعارضين ..
من كان يحمي المعارضين ويمنحهم القوة والأمل صار يحتاج من يحميه .. وصار من الواضح أنه سيراهم منذ اليوم يطحنون ولن يقدر على أن يهدد بأنه قادر على ايقاف جرفهم ومنع الحاق الهزيمة بهم ..
مهرجان الموت في سورية سينتهي عندما تنتهي حفلة الموت التي ستقام للتنظيمات الارهابية بعد أن تم حظر طيران سلاح الجو الاسرائيلي .. الذي سيدخل حقل الموت اذا رفع رأسه من جديد ..
River to Sea Uprooted Palestinian
The views expressed in this article are the sole responsibility of the author and do not necessarily reflect those of the Blog!
No comments:
Post a Comment