ديسمبر 27, 2018
العميد الركن د. أمين محمد حطيط
شكّل القرار الرئاسي الأميركي بالانسحاب من سورية صدمة في المشهد الإقليمي والدولي قاد البعض إلى الحيرة والبعض الآخر إلى الجمود في حين رآه المعسكر المدافع عن سورية قراراً منطقياً أملته مجريات الأحداث ونتائج المواجهة الجارية على الأرض السورية. ومهما يكن من أمر، فإن هذا القرار الذي اتخذه الرئيس الأميركي دونالد ترامب شكل محطة تحوّل مفصلية سترسم وتضبط على إيقاعها الكثير من المواقف والسلوكيات والاستراتيجيات المعتمدة أو التي ستعتمد من قبل الأطراف المشاركين في الصراع على الأرض السورية عدواناً او دفاعاً. فما خلفية القرار وما هي تداعياته وكيف ستتجه مسارات الصراع على الأرض السورية على ضوئه؟
في البدء ومن أجل استيعاب القرار بالشكل الذي يقتضيه الحال نرى أن من الضرورة التوقف عند الدوافع والخلفية التي أملت اتخاذ الرئيس الأميركي هذا القرار في ظل رفض من الدولة العميقة له. وهنا يمكن أن نتوقف عند أربعة أمور في هذا المجال: أولها حاجة شخصية يريد عبرها ترامب أن يثبت بأنه الرئيس وهو الرئيس القوي صاحب القرار والباقي من وزراء أو أقل رتبة منهم من الموظفين هم معاونون له لا يملكون سلطة القرار بل صلاحيات أبداء الرأي فقط. ويبقى القرار للرئيس وعليهم التنفيذ. فمن ارتضَ يَسِرْ بالقرار ومن رفض يستقِلْ، كما حصل مع وزير الدفاع ماتيس الذي دفعه قرار الرئيس للاستقالة فوراً.
أما الثاني فهو متصل أيضاً بشخصية ترامب وحرصه على تنفيذ ما وعد به في حملته الانتخابية ليثبت مصداقية تجعله مختلفاً عما سبقه من الرؤساء الذين تبقى وعودهم أوهاماً لا تتحقق ولا تنفّذ، وبالتالي نحن لا نرى القرار هذا مفاجئاً، حيث إن ترامب وعد بالانسحاب أثناء الحملة الانتخابية ثم قرر الانسحاب في الربع الأول من هذا العام وأجّل الانسحاب بعد أن تلقى الأموال الخليجية حيث طالبته السعودية والإمارات بالبقاء مقابل دفع التكاليف حتى تمنع انتصار الرئيس الأسد. والآن وقد استهلكت الأموال ولم يعد بالإمكان التمديد صدر قرار الانسحاب دون مراعاة مصالح أحد إلا المصالح الأميركية كما يراها ترامب.
أما الثالث فهو مرتبط بالعلاقة الأميركية التركية، ولهذا جاء قرار الانسحاب إثر مكالمة طويلة بين ترامب وأردغان انتهت بعبارة أطلقها ترامب قائلاً لأردغان سورية لك وأنا سأنسحب . وجوهر الموضوع أن عضوي الحلف الأطلسي أميركا وتركيا وصاحبي أكبر جيشين في الحلف، وجدا نفسيهما في حالة تناقض في الميدان السوري بسبب القضية الكردية. ففي حين ترى أميركا أن دعم الأكراد لإقامة الكيان الانفصالي الذي يقود إلى تفتيت سورية هو جوهر ما تبقى لها لتعمل به، ترى تركيا أن أي كيان انفصالي كردي يهدد أمنها القومي، ولذا أعلنت عن قرارها بغزو شمال شرق الفرات للإجهاز على من تسميهم الإرهابيين الأكراد الذين يقودهم حزب العمال الكردستاني وينظمهم تحت اسم قسد . فكان الحل أميركياً بالخروج وترك الأكراد للقرار التركي وحماية التحالف العضوي والبنيوي للطرفين التركي والأميركي في الناتو .
أما العنصر الرابع فهو برأينا العنصر الأساس الذي يظلل مجمل المشهد وهو الإخفاق الاستراتيجي الكبير الذي وقع فيه العدوان على سورية والمنطقة والذي بدأ يتشكل تراكمياً منذ أواخر العام 2015 وكانت مرحلته الأولى في حلب في العام 2016 التي تتالت بعدها انتصارات سورية وحلفائها إلى الحد الذي أفهم معسكر العدوان بأن عليه الإقرار بالهزيمة وأن عليه أن يتوقف ويسعى للخروج من الميدان. وعلى ضوء ذلك كان وعد ترامب ثم جاء قراره اليوم ليكون تأكيد انتصار سورية وهزيمة من اعتدى عليها.
بدافع مما ذكر اتخذ ترامب قراره، وفتح المجال أمام أسئلة كثيرة تطرح منها أولاً: هل ينفذ القرار فعلاً؟ وكيف ستكون التطورات ومواقف الأطراف في المواجهة على الأرض السورية إذا خرجت أميركا؟ فما هي سيناريوهات المواجهة وما هي النتائج المحتملة او الممكنة الحدوث؟
بالنسبة للتنفيذ لا شك في أن النزاع الداخلي في أميركا قائم على أشده بين الترامبية والدولة العميقة. الترامبية ذات النفس التجاري الواقعي المطوّر، والدولة العميقة التي تبنى مواقفها على أبعاد استراتيجية بعيدة قد تكون فيها ثغرات وصعوبات آنية، ولكن يتصوّر أصحابها ان الربح أكيد في الخاتمة، ربح من شأنه ان يضع أميركا على رأس العالم وقيادته. ونظراً لهذا الصراع فإن الدولة العميقة ترفض قرار الانسحاب لما له من تأثير سلبي على استراتيجية أميركا في الشرق الأوسط والعالم ولما له أيضاً من ضرر يلحق بالحلفاء خاصة إسرائيل ودول الخليج أضراراً تفوق برأيهم ما كان يمكن أن يحدثه الاتفاق النووي مع إيران لكل ذلك فإن مكونات الدولة العميقة خاصة في الخارجية والدفاع والأمن القومي قد يستفيدون من مهلة الـ 100 المحددة حداً أقصى لاكتمال الانسحاب قد يستفيدون منها لاختلاق ذريعة تجبر ترامب على تجميد قراره وتمديد البقاء في سورية.
أما عن السيناريوات في حال التنفيذ، فإننا نرى أنها ستكون واحداً مما يلي:
السناريو الأول: تعقلن الأكراد وتسليمهم بأن مشروعهم الانفصالي سقط وطموحهم بحكم ذاتي موسّع يُخفي انفصالاً مقنعاً ضمن ما يسمّى فيدرالية هو طموح عقيم. وهنا يكون من المنطقي أن يقوم الأكراد بوضع أنفسهم بتصرف الحكومة السورية باعتبارهم جزءاً لا يتجزأ من الدولة السورية الواحدة التي تقوم قواها المسلحة بالدفاع عنها. فإذا تم ذلك فإن الذريعة التركية الظاهرة أو المعلنة بأن المشروع الكردي الانفصالي هو الذي يدفع تركيا للغزو، تكون هذه الذريعة قد سحبت ولا يكون هناك أي سبب لتنفيذ تركيا تهديدها بالاجتياح. وسيكون في هذه الحالة على الدولة السورية وبالتنسيق مع الأكراد العائدين للدولة ممارسة سلطاتها وإرسال ما يلزم من قوى مسلحة لمعالجة أمر بضعة آلاف من إرهابيي داعش المتمركزين شرق الفرات والتوجّه أيضاً إلى التنف وتفكيك مخيم الركبان واجتثاث من تبقى من مسلحي مغاوير الثورة الذين أعدّتهم أميركا خدمة لاستراتيجيتها المنهارة.
السناريو الثاني: استمرار العمى الاستراتيجي الكردي مسيطراً على قادة الأكراد الذين يحرّكهم حزب العمال الكردستاني، والامتناع عن وضع أنفسهم بتصرف الحكومة السورية. في هذه الحالة ستكون منطقة شرق الفرات عرضة لعمليتين عسكريتين واحدة للتحرير واستعادة الأرض من الإرهاب وينفذها الجيش العربي السوري مع الحلفاء، وواحدة عدوانية تركية من الشمال تسعى لاحتلال أرض سورية بذريعة الدفاع عن الأمن القومي التركي في مواجهة الأكراد. مع ما يحتمل من مواجهة بين الجيش التركي الغازي والقوات السورية العاملة على التحرير. وهو احتمال ضعيف.
السناريو الثالث: تحرّك داعش في عمليات انتقامية متعددة الاتجاهات والأهداف والقيام بعمليات استباقية تمنع أو تؤخر الإجهاز عليها من الجيش العربي السوري في ظل انكفاء قسد واهتمامه بأمن جماعاته. وهنا يجب أن نتذكر بأن ترامب أوعز لقواته بالتوقف عن قصف داعش ما يعني إشارة لداعش بالعمل من غير مخاطر يشكلها طيران التحالف. وهنا سيكون على الجيش العربي السوري مواجهة ثلاثة أطراف هي داعش وقسد وتركيا. هذا إن لم تمتنع تركيا عن تنفيذ تهديدها وإن لم تتعقلن قسد.
أما ما يُقال عن ان الانسحاب الأميركي سيكون مقدمة لعدوان على إيران، وتهيئة لتنفيذ ترامب وعده لـ إسرائيل بتفكيك حزب الله، فإننا ورغم الشهوة الأميركية والإسرائيلية في تحقيق ذلك، فإننا لا نرى في المنظور من المشهد والمتوفر من المعطيات ما يجعل هذا الأمر احتمالاً جدياً قابلاً للتحقيق والنقاش.
أما عن الدلالات والتداعيات، فإننا نستطيع القول إن قرار الانسحاب هذا يشكل اعترافاً أميركياً بهزيمة المشروع العدواني ضد سورية وقناعة بعقم الاستمرار فيه مع تصوّر بأن الخروج من المركب الغارق يشكل الحل الأمثل. ما سيستتبع البدء بتفكيك التحالف الدولي الذي زعمت أميركا أنه ركب لمحاربة داعش. وتجميد العملية العسكرية التركية التي تستهدف شرق الفرات لمدة 100 يوم على الأقل. وهي المهلة التي حدّدها ترامب لتنفيذ قراره مع ترجيح إلغائها كلياً في حال تعقلن الأكراد ووضعوا أنفسهم بتصرف الدولة السورية التي ستعيد برأينا النظر. بجدول أولويات الجيش العربي السوري لتحرير ما تبقى من أرض سورية وتقدم شرق الفرات على منطقة إدلب.
أما على الصعيد السياسي والاستراتيجي فقد يكون هذا القرار بمثابة الإجهاز على مسار جنيف للحل السياسي وتراجع الدور الأميركي والأوروبي والخليجي في الحلّ، وتقدم مسار استانة وتقدّم القرار السوري الوطني المدعوم من روسيا وإيران، ما ستراه إسرائيل خسارة استراتيجية كبرى لها خاصة أن سورية ستستعيد كامل موقعها العربي والإقليمي والدولي – وقد بدأت وتعزّز معادلة الردع التي أرسيت في العام 2018.
أستاذ جامعي وباحث استراتيجي
مقالات مشابهة
- » الدفاعات الجوية السورية تثبت فعاليتها… وصاروخ حديث يربك «إسرائيل» ثلثان معطّلان للحكومة يتنافسان… على حساب حقوق «الثامن من آذار»
- » القومي : لبنان الرسمي مطالب بموقف واضح وصريح وباتخاذ الإجراءات اللازمة لوقف انتهاك الأجواء اللبنانية
- » دلالات الانسحاب الأميركي من شرق سورية
- » دفعة جديدة من النازحين تغادر إلى سورية بإشراف الأمن العام
The views expressed in this article are the sole responsibility of the author and do not necessarily reflect those of the Blog!
No comments:
Post a Comment