–
تملك جميع الأطراف خطاباً سياسياً تجاه الموقف من الحكومة، لا ترد فيه مفردة العلاقة بسورية، كمكوّن مؤثر في صياغة موقفها. فالكل بداعي ترفّع كاذب عما يسمّيه العوامل الإقليمية والنأي بالنفس عنها، يربط موقفه المعلن بخطاب يتحدّث عن الفساد ومحاور الفشل الحكومي، مدّعياً مرة أخرى ترفعاً كاذباً عن دوره فيه. والكل يتحدّث عن المحاصصة وبترفع كاذب يُنكر تاريخه فيها. والكل يتحدث عن المشاكل المالية والتقتصادية من خواء الخزينة والتصرف بأموال المودعين، إلى شكل التخاطب مع الخارج الذي يعد بالتمويل وشروطه بتأييدها أو معارضتها، والنقص المريع في الخدمات وخصوصاً الكهرباء، والبطالة وضعف الطبقات الفقيرة، ويتجاهل هذا الكل، خصوصاً مَن أمضى سنوات يرسم السياسات ويقر الموازنات ويقرّر التوجهات، ويشارك بقوة في التعيينات والصفقات، أن مسؤولية الحكومة الجديدة تنحصر في مدى قدرتها على لملمة شظايا كارثة صنعها الآخرون، خصوصاً عندما يتعلق الأمر برئيس الحكومة، وأن هؤلاء الآخرين، خصوصاً من كان منهم رئيساً للحكومة، آخر من يحق له المحاضرة في العفة، والحديث عن الترفع تجاه المال العام أو التصرف بروح المسؤولية تجاه كل ما يتصل بالشأن العام.
–
هذا الذي يصحّ في القوى المنتمية لفريق الرابع عشر من آذار لجهة تغييب العامل الحاسم في موقفها السلبي من الحكومة، يصحّ أيضاً في أغلب القوى المشاركة في الحكومة، لجهة أنها لم تقم بمراجعة حقيقية للسلوك الذي أفضى بلبنان إلى الكارثة، والذي شاركت بتحمل مسؤوليته خصوصاً بمشاركة قسم فاعل منها في السعي لتشكيل شريك المناصفة في لعبة المحاصصة، والاستعداد للتغاضي عن السياسات المالية البائسة المسؤولة عن الخراب المالي والاقتصادي إذا نال ما يريد من حصة في التعيينات والمكاسب التي يحققها الوجود في مؤسسات الدولة، باعتبار الدولة ومؤسساتها وخدماتها آلة صناعة الزعامة وترسيخها في نظام المحاصصة، وها هي تركيبة الحكومة الجديدة والشروط التي فرضت على كيفية ولادتها تحمل بصمة جينية تنتمي للمنهج ذاته الذي تمّت عبره صياغة المشاركة في حكومات سابقة، فتغيّر الشكل ولم يتغيّر الجوهر.
–
الذين يعارضون الحكومة ويخوضون من اليوم معركة إفشالها وهم يدركون أن هذا سعي لإفشال البلد، ينكرون أنهم يعلمون أن هناك مشروعاً لإيصال البلد إلى حافة الهاوية لابتزازه في قضاياه غير الاقتصادية والمالية بعنوانها السيادي، من ترسيم حدود النفط والغاز إلى إسقاط بعض من عناصر قوة المقاومة التي تشكل شريكاً مؤسساً في محور يخوض صراعاً ضارياً مع السياسة الأميركية في المنطقة، وأن معارضتهم للحكومة وشراستهم في مواجهتها، لا يعبّران عن حقائق لبنانيّة، بل هما صدى لقرار دوليّ إقليميّ بمواجهة الغالبية النيابية الواقفة وراء الحكومة، وفي قلبها المقاومة، وأن الخط الفاصل في الربح والخسارة بنظر الخارج المقرر معايير ومواقيت وشروط المواجهة، هو المسافة التي يجب النجاح في فرضها على علاقة الحكومة بسورية، كتعبير عن إلحاق الهزيمة بالمقاومة ومحورها وخيارها، تحت عنوان الضغط لجعل الرضا الخارجي على الحكومة معياراً لقدرتها على جلب الأموال.
–
الذين يقفون وراء الحكومة ويؤيدونها، لم يبذلوا مجهوداً جدياً لمراجعة تتيح فتح الباب أمام الحكومة وتتيح لرئيسها التأسيس لخيار جديد واضح، سواء في الانتقال من نظام المحاصصة إلى صيغة تضمن الانتقال نحو دولة المواطنة، والتعبير عن مفهوم الوحدة الوطنية بشكل الحكومة المترفعة عن حسابات الاستئثار الطائفي والتجسير بين القوى المؤمنة بوحدة لبنان لتشكل الحكومة جبهة سياسية وشعبية متماسكة حول برنامج انتقالي محوره قانون انتخابات نيابية خارج القيد الطائفي، وفق النظام النسبي ولبنان دائرة واحدة، وقاعدته الخروج من العقلية الطائفية إلى روح التفكير الوطني الجامع، وكذلك لم تظهر الوقائع المرافقة لصياغة البيان الوزاري روحاً جديدة في مناقشة الوضع الاقتصادي والمالي لجهة وضع برنامج إنقاذي واضح وحقيقي، قائم على مغادرة السياسات المالية الفاشلة نحو سياسات تبتعد عن الشروط الدولية التي تخدم مشاريع الاسترهان والإفقار، يظهر البيان الوزاري تأرجح الحكومة وتوازناتها بين خياري الأخذ بها ورفضها، وصولاً لضبابيّة الجواب على السؤال الأهم، ماذا لو بقي الحظر على تأمين السيولة المالية التي تطمح الحكومة للحصول عليها ويسعى خصومها لحرمانها منها. وهنا يكمن المفصل الحقيقي، حيث العلاقة مع سورية ليست انحيازاً لمحور إقليمي تشكل ركناً أساسياً فيه، بل التهرّب من موجبات هذه العلاقة هو التعبير عن الانتماء لمحور، حيث مراضاة هذا المحور تتمّ على حساب المصالح اللبنانية الحيوية التي تعبر عنها هذه العلاقة. وهذا هو السبب الخفيّ للتردّد من جهة بعض الحكومة، ولضغوط خصومها لمنع هذه العلاقة.
–
يعرف مؤيّدو الحكومة وخصومها أن سورية جسر عبور لبنان من الأزمة الاقتصادية والمالية، سواء عبر التبادل الحر بين البلدين بالعملات الوطنية، أو عبر التكامل بين البلدين في التخطيط الكهربائي والنفطي بالتشارك مع العراق، حيث الأنبوب الواصل من كركوك إلى طرابلس استثمار مشترك، والأهم عبر تجارة الترانزيت التي يحتاجها العراق عبر مرافئ لبنان، ويحتاجها لبنان، وتنعش سورية، وينقصها التنسيق السياسي والاقتصادي، ويعرف مؤيدو الحكومة وخصومها، أن تجرؤ الحكومة على خوض غمار هذا الخيار بشجاعة سيشكل خطوة هامة لحل قضية النازحين السوريين في لبنان، وسيمنح لبنان وسورية والعراق فرصة تشكيل سوق واحدة تتكامل مكوّناتها وتتبادل منتجاتها وخدماتها، فتنتعش مصارف لبنان بأموال العراقيين، ومثلها جامعات ومستشفيات لبنان، وفنادقه ومطاعمه، وتنهض قطاعات اقتصادية في العراق وسورية بمشاركة خبرات ورساميل لبنانية، ويتحقق الكثير الكثير للمثلث الذهبي في المنطقة الممنوع من التكامل بقوة القرار الأجنبي ويجري توظيف الخلافات السياسية الداخلية في لبنان لمنعه، وهو ما غاب عن البيان الوزاري لحكومة تعرف أن هذا الغياب لن يكسبها رضى المعترضين.
–
الحراك الذي بات بيئة تسيطر عليها الجماعات المنظمة وتغيب عنها الحشود، موزّع بين جماعات غاضبة من الوضع القائم تمثل أقلية في الحراك، وجماعات يسارية تشكل أقلية ثانية، وجماعات تمولها مشاريع دولية تنطلق من قضية النازحين السوريين، وترتبط هذه الجماعات بعنوان النزوح السوري ودمجه في المجتمع اللبناني قبل ارتباطها بالهموم اللبنانيّة كمحرك لصياغة مواقفها ومصدر لتمويلها. هذا الحراك يجمعه العداء العبثي للحكومة وبرنامجها، وفقاً لشعارات غامضة ورؤى لا تحمل البدائل الواقعية، ولا تبشر سوى بالفراغ والفوضى، لكنها عملياً تتحوّل كلها إلى كتل ضاغطة لفرض برنامج عمل على الحكومة له بند واحد، هو عدم الانخراط جدياً بعلاقة إيجابية مع سورية، يمكن أن يترتّب عليه حل لقضية النازحين، بقوة الموقع الحاسم للجماعات المموّلة دولياً في رسم مسار الحراك، وانضمام جماعات تنتمي للمعارضة السورية بتأمين العديد اللازم لملء ساحات الاعتصام والتظاهر.
–
في لحظة مفصليّة تتصادم فوق الأرض السورية معارك عديدة، تختصر بمشروعين، واحد هو مشروع نهوض الدولة السورية وآخر هو مشروع تقاسمها وتقسيمها، تتجسّد مصلحة لبنان الطامح للحفاظ على دولته ووحدته بالوقوف مع مشروع قيام الدولة ونهوضها في سورية، والتكامل معها، لكن الفوبيا السياسية التي نجح الطغيان الإعلامي المموّل من أصحاب مشروع تفتيت سورية وإسقاط فكرة الدولة فيها في تعميمه لبنانياً، بحيث صار الابتزاز الإعلامي والسياسي حاكماً لدرجة فرض التبرؤ الساذج من نيات السير بهذا التكامل مع سورية، تحت شعار تفادي الرصاص الطائش.
–
القوميون الذين سيحضرون جلسة اليوم ثم يقاطعون جلسة التصويت ويحجبون الثقة عن الحكومة، ليسوا دعاة فراغ ولا فوضى ولا عبثيّة سياسيّة، فهم مع وجود حكومة بكل تأكيد، ويسعون لتكون حكومة الرئيس حسان دياب قادرة على تخطّي نقاط الضعف التي رافقت ولادتها، وسيؤيدونها كلما أصابت السير في هذا الاتجاه، لكنهم معنيون بتوجيه رسالة لمؤيدي الحكومة ومعارضيها، مضمونها أن البلد يحتاج عقلية جديدة تغادر الخراب الذي ينعاه معارضو الحكومة، والذي لا يجرؤ على مغادرته أغلب مؤيديها، رسالة مضمونها أن ما يُسمّى بالتغيير الجذري لم يعد خياراً، على الصعيدين السياسي والاقتصادي، بل صار ضرورة وجودية وحياتية للوطن والكيان والدولة، وما جرى مع القوميين في مرحلة تشكيل الحكومة ليس شأناً يخصهم وحدهم ينطلقون منه في موقف حزبي انتقامي كما قد يظنّ البعض، بل هو تعبير عن طبيعة الذهنية التي يعتبر القوميون أنها ما يحتاج لإعادة نظر جذرية، وقد تسببت بالكثير من عناصر الخراب سابقاً وستبقى كذلك لاحقاً، ومحور التعبير في البيان الوزاري عن نتاج هذه العقلية، تلك اللغة المرتبكة والحذرة والغامضة في الحديث عن العلاقة بسورية، التي قام اتفاق الطائف والدستور من بعده، على اعتبار العلاقة المميّزة معها ركناً من أركان بناء الدولة الجديدة.
River to Sea Uprooted Palestinian
The views expressed in this article are the sole responsibility of the author and do not necessarily reflect those of the Blog!
No comments:
Post a Comment