برزت الولايات المتحدة الأميركية كإمبراطورية وقوة عالمية دخلت مرحلة السيطرة والسعي نحو الهيمنة على العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وتمثل ذلك بقوتها العسكرية التي بلغت ذروتها مع تفجير القنبلتين النوويتين الشهيرتين، وكان هذا الحدث بمثابة الإعلان عن ميلاد تلك الإمبراطورية وضرورة تنبّه دول العالم المؤثرة فيه تحديداً للانصياع لإرادتها دولياً، حيث كانت أول من صنع أسلحة الدمار الشامل، وأكثر دولة تمتلك انتشاراً للأساطيل الحربية في البحار والمحيطات، والقواعد العسكرية الثابتة في أرجاء المعمورة، بالإضافة إلى قوّتها الاقتصادية التي تجسّدت من خلال إنشاء صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، وفرضها للدولار كعملة دولية أولى غير قابلة للمنافسة ومهيمنة على التجارة الدولية والاقتصاد العالمي، كما أنشأت الأمم المتحدة مع الحلفاء، وأصبحت هذه المنظمة أداة لتنفيذ السياسات الأميركية بغطاء دولي.
تغوّلت الولايات المتحدة الأميركية أكثر بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وزوال القطبية الثنائية، فتصرّفت بغطرسة منفردة مع دول العالم، وحاولت أن تفرض على الجميع ثقافتها واسلوبها بنظام جديد يعتمد على العولمة، يتنكر للأديان ويهدّد الهوية الثقافية والوطنية لشعوب العالم الثالث بغزو فكري ثقافي اقتصادي.
ورغم مرور أكثر من مئة عام على خطاب الرئيس الأميركي «وودرو ويلسون» الذي ألقاه في العام 1916 بمناسبة بداية ولايته الرئاسية الثانية، حيث تنسب إليه مقولة إنّ «علم أميركا ليس علمها وحدها، بل هو علم الإنسانية جمعاء”، إلا أنّ هذه النبوءة لم تتحقق، لم يصبح علم الولايات المتحدة الأميركية علماً للإنسانية، بل أصبح علماً للشرّ وقتل الشعوب والغطرسة ونهب خيرات الدول، صار وجهاً قبيحاً للعنصرية والتمييز والتوحش.
وظلّ هاجس السياسة الأميركية في الحفاظ على تلك الإمبراطورية، وتوسيع الهيمنة والسيطرة الاقتصادية على العالم مع اعتبار أنّ كلاً من روسيا الاتحادية والصين يشكلان الخطر الأكبر على الأمن القومي الأميركي، واستمرّ النزاع والتصادم بين المعسكرين البارزين (الولايات المتحدة الأميركية – الليبرالية من جهة، وروسيا الاتحادية والصين – الاشتراكي من جهة أخرى)، وكانت السمة الأساسية لهذا النزاع هي المصالح الاقتصادية والسياسية والتنافس على النفوذ على مناطق واسعة من العالم في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وجنوب شرق آسيا وحتى أوروبا الشرقية، وضمن هذا النزاع يتموضع الصراع بين إيران والولايات المتحدة الأميركية على منابع النفط وتأمين طرق الملاحة وأمن الكيان الصهيوني أحد أهمّ مصالح الولايات المتحدة الأميركية الحيوية بالشرق الأوسط، دون تجاهل النهج الايديولوجي الذي يتبناه كليهما بخطابهما السياسي المعادي بالضرورة لبعضهما.
وصل هذا النزاع والصراع ذروته مع بداية هذا العام بتكسر العديد من أنياب ومخالب الولايات المتحدة الأميركية في أفغانستان والعراق بحروبها المباشرة، أو في سورية وإيران ولبنان عبر الحرب الناعمة والذكية، وعجزها مجدّداً من الدخول في أية حرب غير قادرة على تحمّل أكلافها باختلال ميزان القوى السياسية والاقتصادية والعسكرية لصالح روسيا والصين وإيران، وتفكك حلفها الذي ينوء تحت أزماته الاقتصادية والسياسية بدءاً من المملكة العربية السعودية الغارقة في المستنقع اليمني وصراعاتها داخل الأسرة الحاكمة، ومروراً بالكيان الصهيوني وأزماته الداخلية، وليس انتهاء بدول الاتحاد الأوروبي، وحرب أسعار النفط وجائحة كورونا التي أرست قواعد ركود وكساد اقتصادي عالمي، وعرّت مجموعة من الحقائق المستترة لدول الغرب النيوليبرالي الذي يرفع شعارات حقوق الإنسان والديمقراطية، وقد سبق ذلك الهروب الأميركي إلى الوراء على قاعدة الانعزالية والحمائية من خلال الانسحاب من العديد من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية كمنظمة التجارة العالمية، واتفاقية المناخ، والاتفاق النووي الإيراني، وتمويل حلف شمال الأطلسي لانتهاء دوره الوظيفي المطلوب، والتحوّل من الاقتصاد الافتراضي المعولم باتجاه الاقتصاد التقليدي الذي يعيد فرض الرسوم الجمركية على الواردات الأميركية، وكلّ ذلك وفقاً لشعار دونالد ترامب الانتخابي «أميركا أولا».
ومع الوصول إلى وباء كورونا وتفشيه في العالم بدأت الدول تفصح عن كينونتها وروائزها وحقيقة دورها وعقائدها بين النيوليبرالية الغربية المتوحشة التي فضلت المنطق المادي على المنطق الإنساني، وبين دول الشرق التي أولت أهمية للحياة والروح البشرية، بين شريعة الغاب الرأسمالية التي تبغي الربح دون اعتبارات إنسانية وتستمرّ في ممارسة سياسة الحصار والعقوبات والإرهاب ضدّ الدول التي تعارض سياستها وخاصة إيران وفنزويلا وكوبا لمنع وصول الخدمات الطبية التي تساعدها في مكافحة الوباء، وبين روح الشرق الإنسانية التي تمثلت بروسيا والصين وإيران التي قدّمت المساعدات والمعدات والخبرات الطبية لأكثر من 80 دولة في العالم للسيطرة على هذا الوباء ومكافحته دون النظر إلى اعتبارات مادية أو خلافات سياسية.
ـ فهل نحن بعد كورونا أمام عالم جيوسياسي جديد تسيطر عليه المفاهيم الروحانية والإنسانية والبعد القيمي الأخلاقي؟
ـ هل نحن أمام تفكك الاتحاد الأوروبي كما ظهر حاله خلال فترة مكافحة وباء كورونا؟ بالإضافة إلى تبعيته للقرار والهيمنة الأميركية…
ـ هل نحن أمام إفلاس العديد من الشركات الأميركية المالية والصناعية؟
ـ هل نحن أمام أفول الإمبراطورية الأميركية وانكفائها نحو تطبيق «شعار أميركا أولا»؟
تساؤلات برسم قادم الأيام بعد زمن كورونا…
The views expressed in this article are the sole responsibility of the author and do not necessarily reflect those of the Blog!
No comments:
Post a Comment