لم يكن مفاجئاً لنا ما جرى في جلسة مجلس النواب التي عُقدت في قصر اليونيسكو من تصرّفات أكدت ما نصف به النظام السياسي اللبناني، ولكن ما جرى قد يكون فاجأ البعض من حسني النية الذين ظنّوا أنّ حراك 17 تشرين الأول 2019 قد يكون فرض على الطبقة السياسية في لبنان تغييراً في السلوك ليس من أجل لبنان وشعبه بل من أجل استمرار سلطتها هي، لكن هذا الظنّ سقط في دائرة الخيبة السحيقة التي تؤلم بمقدار ما كان الأمل منعقداً على التغيير.
لقد نجح مجلس النواب في لبنان في جلسته الأخيرة في تأكيد السلطة والقوة لدولة الفساد العميقة التي تمسك بها طبقة سياسية متجذرة في ثنايا الدولة وخلاياها، طبقة فساد تضع يدها على كلّ شيء وتتحصّن بالطائفية والمناطقية والإقطاعية وتستغلّ جهل وعمى وعصبية الأتباع الذين يدافعون عن جلادهم وينسون آلامهم التي أحدثها هذا الجلاد، وطبعاً يتجاهلون آمالهم التي بخرتها نيران سلطة الجلاد ذاته.
لقد ظنّ البعض انّ تشكيل الحكومة الحالية التي خرج منها أو ابتعد او أبعد عنها جزء كبير من الطبقة السياسية الممتهنة للفساد والمستثمرة به، ظنّ هذا البعض انّ حراك 17 تشرين الأول الذي فرض هذه الحكومة سيتابع اندفاعته ويطيح بتلك الطبقة، لكن الظنّ كان في غير محله، وتبيّن أنّ ما حصل ليس أكثر من انحناءة بسيطة أقدمت عليها الطبقة السياسية لتمرّ العاصفة ولتعود فتشرئبّ بأعناقها بأقوى مما كانت عليه، وجاءت جلسة مجلس النواب بالأمس لتؤكد هذا الأمر، جلسة أرسلت رسائل لكلّ مراقب ومتابع أن لا تغيير في لبنان بل استمرار دولة الفساد العميقة بكلّ أركانها وأساليبها حيث بدا بكلّ وضوح:
1
ـ التناقض الكلي بين الطبقة السياسية المنشئة لدولة الفساد العميقة في لبنان، والحكومة التي جاءت ثمرة مباشرة للحراك الشعبي، حكومة ظهرت مستفردة إلا من قلة من المناصرين، وتأكد انّ هذه الطبقة غير جاهزة للتغيير او التصحيح، فهي تتصارع علانية وتتفق سراً على مصّ دم الشعب ونهب ثرواته وأنها ترفض أيّ مساءلة او محاسبة. تقوم بذلك متكئة على طائفيتها وقدرتها على التجييش الطائفي والحزبي والمناطقي الذي ينشئ حولها أحزمة أمان تمنع أيّ مسّ بها، ولم يكن صدفة أن يتلاقى المتخاصمون عبر الإعلام على تشكيل أكثرية في مجلس النواب تمنع إقرار قانون ملاحقة الوزراء أمام القضاء العدلي، فهؤلاء يريدون الاستمرار بالسرقة والنهب رغم ما آل إليه وضع الدولة، فهم مطمئنون إلى أموالهم في الخارج فإذا سقطت الدولة تسقط على رؤوس الفقراء أما هم فبمنأى عن أيّ ضرر.
2
ـ إصرار من قبل الطبقة السياسية الفاسدة على العمل بسياسة “جوّع كلبك يتبعك”. فهذه الطبقة تعلم انّ قيام الدولة العادلة التي تؤدّي إلى كلّ ذي حق حقه يعني إغلاق محميات نفوذ زعماء الطوائف وتهميش دورهم والانفتاح على فكرة الاستغناء عنهم، أما ربط المصلحة والإعانة والإعاشة بالزعيم، فهذا من شأنه أن يقوّيه ويمكّنه من الإمساك أكثر برقبة المحتاج، ولم يكن صدفة أن يمتنع مجلس نواب طبقة الفساد السياسي عن إقرار خطة التحفيز الاقتصادي والاجتماعي وإعانة الفقير التي تقدّمت بها الحكومة على عجل معتقدة أنّ اشتداد الحاجة والخطر يجيز لها تخطي بعض الشكليات الإدارية، لكن ظنّها سقط أمام سطوة وقدرة الطبقة السياسية التي أطاحت بسعي الحكومة لدعم الفقراء.
3
ـ رفض أيّ نوع جدّي او فعلي من أنواع المحاسبة للسياسيين، ما يعني الإصرار على سياسة النهب والمحاصصة. لقد تبيّن بكلّ وضوح انّ كلّ المواقف السياسية العلنية التي تدعو إلى محاربة الفساد واستعادة المال المنهوب ومعالجة مالية الدولة بما يعيد إليها الحياة، تبيّن أنّ معظم القائلين بهذا يصحّ عليهم وصف الآية الكريمة “كبر مقتا عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون”، نعم معظمهم يقول شيئاً ويفعل عكسه إذ لو كانوا صادقين لسارعوا الى إقرار مشاريع أو اقتراحات القوانين المتصلة بمحاربة الفساد واستعادة الأموال المنهوبة ولأرسلوا رسالة واضحة لمن هم في الوظيفة العامة والسلطة انّ زمن المحاسبة بدأ وانّ عليهم ان يتوقفوا عن النهب وأن يعيدوا المال المنهوب، لكنهم لم يفعلوا لأنهم مصرّون على النهب متشبّثين بكلّ سلوكيات الفساد.
4
ـ أما الفضيحة الأخرى فقد كانت في الموقف من قانون العفو العام، حيث غابت عند كثير من شرائح الطبقة السياسية مفاهيم الواقعية والعدالة والأمن الاجتماعي والسلامة العامة، لتتحكم بهم نزاعات الطائفية والمحسوبية، مفاهيم تهدم الوطن ولا تسمح ببنائه او التقدّم على طريق البناء. فجميعهم يعرف أنّ جزءاً من نزلاء السجون أمضى في سجنه أكثر من المدة التي يحتمل الحكم عليه بحبسه بها، وكذلك يعلمون انّ عدد الأشخاص الصادرة بحقهم مذكرات توقيف او جلب او إحضار يتجاوز عددهم 4 أضعاف قدرة السجون على الاستيعاب، وهي سجون تحتوي الآن اكثر من ضعفي طاقاتها، أضف إلى ذلك مسألة مخاطر الكورونا. رغم كلّ هذا تجد هؤلاء غير معنيين بكلّ تلك المخاطر، ويصرّون على السلوك الطائفي والنظرة اللاواقعية ما عطل إقرار قانون عفو عام.
هذا غيض من فيض ما اتضح في جلسة اليونيسكو النيابية، وكله فيه المرارة والألم ويستدعي السؤال هل من حلّ؟
قد يقول قائل إنّ الحلّ يكون بالإطاحة بهذه الطبقة السياسية عبر انتخابات مبكرة، وهنا نسارع إلى القول وهل من عاقل يظنّ انّ انتخابات تجري على أساس القانون المشوّه الحالي، هل يظنّ أنّ الانتخابات ستغيّر شيئاً؟ فالانتخابات إذا حصلت الآن ستعيد أكثر من 90% من النواب الحاليين مسلحين بشرعية شعبية جديدة كان الحراك الشعبي زعم أنه نزع عنها الشرعية.
أما نحن فإننا نرى ان لا حلّ مطلقاً مع النظام الطائفي الحالي مهما كانت الصيغ لتجميله، فمع الطائفية البغيضة سيبقى نظام المحاصصة والزبائنية وسيستمرّ استبعاد الأكفاء وسيستمر النهب باسم الطائفة، لذلك لن يكون حلّ إلا بدولة مدنية تخرج لبنان من نظام أمراء الطوائف وعتاة الإقطاع السياسي، ولكن السؤال الأهمّ كيف تقام هذه الدولة في ظلّ الاستشراء الطائفي والانهيار القائم؟ هنا نقول هل يكون المؤتمر الوطني التأسيسي الواسع هو المخرج؟ أعتقد…
وحتى يكون ذلك نرى انّ التمسك الآن بحكومة حسان دياب هو المسلك المتاح، ولذلك على هذه الحكومة ان تمضي قدماً دون ان تتوقف عند عرقلة من هنا او تهديد من هناك. فهذه الحكومة فرصة للبنان للتخفيف من بعض مآسيه حتى يقيّض له من يخرجه منها. ولتحاول أن تأتي بقانون انتخاب يخفف من غلواء الطائفية وتكون الانتخابات على أساسه مدخلاً إلى الدولة المدنية غير الطائفية التي نحلم بها.
*أستاذ جامعي وخبير استراتيجي.
مقالات متعلقة
مقالات متعلقة
- ماذا بعد سقوط النواب؟
- رياض سلامة: المعجزة الوهم
- سلامة لدياب: سأتفرج على الليرة تنهار!
- التيار الوطني وجنبلاط: الفتنة تلوح مجدداً
- من سوليدير الى مصرف لبنان: السـرقة واحدة
- “واشنطن بوست”: لبنان نجح في مواجهة “كورونا” رغم الفوضى السياسة والاقتصادية
The views expressed in this article are the sole responsibility of the author and do not necessarily reflect those of the Blog!
No comments:
Post a Comment