فيما يعاني العالم من وباء كورونا الخبيث وتداعياته الاقتصادية وثم السياسية والاجتماعية، وفيما نصف سكان المعمورة يعيشون أجواء الحصار دون عمل وإنتاج، وكثير منهم دون دخل ثابت أو متقطع، ترى الحكومات والدول نفسها حائرة ومضطرة لابتداع صيغ تزاوج بين دوران عجلة الحياة بمناحيها المتعدّدة وبين هذا الفايروس المعادي الذي لا تستطيع حتى أكثر الدول بوليسية اعتقاله.
بعض دول العالم بصدد اتخاذ قرار بتخفيف القيود على حركة المواطنين وتتجه نحو السماح بعودة الحياة إلى شيء من طبيعتها. في الولايات المتحدة يرى ترامب بأنّ إغلاق البلاد لفترة طويلة يلحق أضراراً فادحة، ويشير إلى انه سيتمّ فتح البلاد تدريجياً قبل نهاية نيسان الحالي، فيما ألمانيا تنوي فتح بعض المحال التجارية في الرابع من أيار ثم إعاده الحياة الدراسية في المدارس والجامعات. أما إيطاليا وهي الأكثر إصابة فإنها ستتخذ قرارها بإجراء تخفيف على قيود حركة مواطنيها في مطلع أيار المقبل. في مشرقنا اتخذت بعض الحكومات إجراءات مشابهة، هذا في حين أنّ منظمة الصحة العالمية WHO تصيح بأنّ أيّ تخفيف لإجراءات الإغلاق والعزل هو خطأ فادح، ولكن صراخها يذهب ويتلاشى في البرية أمام حيرة الحكومات وعجزها.
من تداعيات جائحة الوباء، جائحة لا تقلّ هولاً وخطراً لا بل تزيد في آثارها على العالم بأسره وهي الجائحة الاقتصادية وانهيار أسعار البترول انهياراً فاق الخيال ولم يخطر على بال بشر وأدّى إلى انهيارات حادة في مؤشرات الاقتصاد وأسواق المال بتسارع عجيب.
في عام 1973 واثر حرب تشرين الأول أوقفت الدول العربية تصدير النفط الأمر الذي أدّى في غضون أيام قليلة إلى ارتفاع ثمن برميل النفط من 3 دولارات إلى 13 دولاراً. هذه الدولارات العشرة أربكت العالم ونقلت دول البترودولار العربية من حالة إلى حالة، اذ ترافق صعود أسعار البترول مع تعاظم مداخيلها وبالتالي تعاظم دورها السياسي والاقتصادي، وبدأت تأخذ مكانة تنافس بها قلب العالم العربي القديم المتمثل في سورية والعراق ومصر، وفي بعض الأحيان استطاعت أن تملي على بعض من هذه الدول مواقف وتمارس نفوذها المستمدّ من مساعداتها المالية السخية والمشروطة بالطبع. بحساب بسيط استطاع منتجو النفط رفع أسعار برميل نفطهم بنسبة 400% (من 3 دولارات إلى 13 دولاراً) خلال أيام عام 1973، لكنهم احتاجوا بعد ذلك إلى قرابة النصف قرن ليصل سعر البرميل إلى حدود 70 دولاراً، ولكن تداعيات الجائحتين أعادته إلى ما دون الصفر، فالآبار من الصعب إغلاقها، ومخازن النفط امتلأت ولم تعد تستوعب المزيد، وإمكانيه إتلاف فائض البترول تختلف عن إتلاف المحاصيل الزراعية التي قد تتحوّل إلى أعلاف أو أسمدة أما مادة النفط فهي مدمّرة للبيئة… إنه عالم مجنون، عالم يسير بلا قوانين ضابطة، وما كان مهماً بالأمس أصبح اليوم عديم الأهمية، وما كان يستدعي حشد الجيوش والأساطيل والجنود من أجله في أيام ماضية أصبح القتال من أجل الخلاص منه والابتعاد عنه هو العمل.
حتى قبل أيام قليلة افترضت الولايات المتحدة الأميركية أنّ ما يهمّها في بلادنا هو مناطق شرق الفرات، حيث ثروات بترولية ضخمة، وكانت الولايات المتحدة تدعم حلفاءها وصنائعها وعملاءها هناك بشكل سخيّ وبما يجعلهم قادرين على مناجزة الدولتين السورية والعراقية، فما هي قيمة شرق الفرات اليوم؟ وهل لا زال لأولئك الصنائع أو الحلفاء أهمية طالما أنّ البترول لم يعد يساوي شيئاً لا بل تحوّل إلى عبء على مالكه وعلى منتجه والمستثمر في مجاله، دولاً كانت أم شركات نفطية وشركات زيت صخري؟
داعش والنصرة والأكراد ومن لفّ لفّهم من جماعات تكفيرية وإرهابية أو انفصالية والتي تلقت دعماً سياسياً واسعاً، بعضها أتاها الدعم من دول البترودولار وبعضها من تركيا ودولة بترودولارية إضافة للولايات المتحدة وشريكتها الإقليمية (إسرائيل)، لكن هؤلاء لم يعودوا في السنوات الأخيرة يحتاجون إلى الدعم المالي، وذلك بعد أن سيطروا على آبار النفط وسرقوا إنتاجها ووجدوا أسواقاً لبيعه، فهل تستطيع تلك الجماعات الاستمرار في حربها، وليس للنفط من يشتريه؟
حرب اليمن، وهي جزء من حروب السعودية على إيران وعلى ما يعتبرونه التمدّد الإيراني، هذه الحرب التي طحنت رحاها ما يزيد على نصف تريليون دولار ذهبت عبثاًً ولم تحقق سوى الهزائم والخيبات. فهل من الممكن للسعودية أن تستمرّ في تمويل حربها هذه، السعودية التي رفعت سقف إنتاجها وخفّضت الأسعار في الأسابيع الماضية بهدف ضرب اقتصاديات إيران وفنزويلا وروسيا، حق عليها القول: من حفر حفرة لأخيه وقع فيها، خاصة أنّ أزمة الوباء قد أوقفت السياحة الدينية من حجّ وعمرة والتي كانت مصدر الدخل الثاني للخزينة السعودية بعد النفط، ولا تزال إمكانيات استنهاض سعر برميل النفط في عالم الغيب وغير منظورة في القريب. فالشتاء قد ولى والصيف قد أقبل الأمر الذي يضعف الطلب، ومصانع كثيرة عبر العالم توقفت عن الإنتاج أو أنها تعمل بشكل جزئي، ووسائط النقل الجوية والبحرية والأرضية لا تكاد تبارح مطاراتها وموانئها ومواقفها.
في رام الله اعتقدت حكومة د. اشتية أنّ اتصالاتها بالأوروبيّين والعرب وبنك التمويل الإسلامي وسواهم من المانحين ستؤتي ثمارها، ولكن بعد هذا الانهيار في الاقتصاديات العالمية فلا يظنّن احد بأنّ دعماً سيأتي. فالداعمون قد أصبحوا يحتاجون إلى من يدعمهم وفاقد الشيء لا يعطيه، ولن يكون أمام الفلسطيني والأردني واللبناني سوى الصدق والصبر وربط الأحزمة إلى أقصى قدر ممكن، وربما انتظار جائحة ثالثة شبيهة بالتي أعقبت تهجير الكويت 1990-1991، وذلك بعودة أعداد ضخمة من المغتربين في الخليج من فلسطينيين وأردنيين ولبنانيين إلى بلادهم.
في تل أبيب أعلن مساء الاثنين عن التوافق بين «الليكود» و«أبيض – أزرق» على تشكيل حكومة واسعة، ويذهب البعض للقول إنّ ما دفع لهذا الاتفاق هو الجائحة الاقتصادية، والتي تصيب دولة الاحتلال الثرية وذات الاقتصاد القوي، والتي يمثل الغاز جزءاً من مداخيلها الراهنة والمستقبلية. مطلوب من الحكومة هناك تخفيف الأضرار وإدارة الأزمة والاستفادة من حالة الانشغال الدولي والمحلي بضمّ الأغوار وأراضي المستوطنات وشمال البحر الميت وبرية الخليل في تموز المقبل.
في الموروث الديني حديث نبوي يقول: من بات آمناً في سربه، معافى في بدنه، مالكاً قوت يومه، فكأنما ملك الدنيا وما فيها. ماذا يملك الإنسان الذي تفتك الكورونا في بدنه، ويحول الانهيار الاقتصادي بينه وبين قوت يومه، وتهدّد التداعيات الاجتماعية والأمنية التي ستلي ما تقدّم بأمنه…. لقد فقد العالم عقله…
*سياسي فلسطيني مقيم في جنين ـ فلسطين المحتلة.
River to Sea Uprooted Palestinian
The views expressed in this article are the sole responsibility of the author and do not necessarily reflect those of the Blog!
No comments:
Post a Comment