في زمن الانهيار والإفلاس الواقعي في لبنان خرج حاكم مصرف لبنان على اللبنانيين بمطالعة فضاضة ظنّ أنه يقدّم بها سند براءته مما آل اليه الوضع المالي في الدولة. وضعٌ تفاقمت فيه الخسائر وتهدّدت ودائع المودعين بالتبخر وفقدت السيولة أو خشي من فقدها في المصارف التي لجأت وبشكل غير قانوني إلى التقنين في الاستجابة لطلبات المودعين (أيّ مارست capital control وبشكل غير قانوني) واختلّ سعر صرف العملة الوطنية مقابل الدولار إلى الحدّ الذي بات للدولار فيه 4 أسعار صرف (رسميّ بين المصارف 1507، وواقعيّ لدى الصرافين تجاوز 4000 ليرة وسعر تحويل السحوبات من قبل المودع، 3200 وسعر تحويل الحوالات الواردة إلى الشركات المالية 3600 ليرة). فهل وفق الحاكم في مسعاه في التنصل من المسؤولية عن الكارثة وهل أقنع الخبراء وأرضى اللبنانيين؟
قد تكون الإيجابية المهمة لمطالعة رياض سلامة هي ما أعلنه للمودعين بأنّ أموالهم المودعة لدى المصارف موجودة وأنها تستعمل. ما يعني أن لا خوف عليها وهو التقى في ذلك مع تصريح سابق لرئيس الحكومة كان أشدّ وضوحاً وأشدّ صراحة ودقة وتحديداً عندما قال إنّ ودائع 98% من المودعين هي مضمونة وإنها لا تمسّ. وبالتالي حتى هذه المسحة الإيجابية في قول سلامة للطمأنينة على أموال المودعين جاءت تعزيزاً لموقف رسمي مسؤول سبق إطلاقه وبدقة أوضح.
بعد ذلك تنصل سلامة من كلّ مسؤولية عن الأوضاع، مؤكداً انّ المجلس المركزي في المصرف هو الذي يضع السياسات ويتخذ القرارات ويقبل أو يرفض الطلبات الواردة اليه، متناسياً ان هذا المجلس لا ينعقد في ظلّ انتهاء ولاية نواب الحاكم الأربعة منذ أكثر من سنة، وصحيح أنّ مسؤولية عدم التعيين تقع على عاتق الحكومة (شغرت المقاعد في ظلّ حكومة سعد الحريري وتعذر إملاء الشواغر بسبب التنازع التحاصصي بين السياسيين)، لكن سلامة استمرّ بنفسه وبشخصه و”تطبيقاً للقانون الذي لا يقبل تعطيل أعمال المجلس” استمرّ في اتخاذ القرارات وتسيير الأعمال بشكل يكاد يكون منفرداً.
وبالمناسبة نقول إنّ الصلاحيات والحصانة التي أعطيت لحاكم مصرف لبنان بموجب قانون النقد والتسليف والذي لم يقرّه مجلس النواب بل صدر بمرسوم بعد مضيّ 40 يوماً على إحالته من الحكومة إلى المجلس في العام 1963، تجعل منه شبه إمبراطور مطلق الصلاحية إذ يعيّن لست لسنوات لا يمكن إقالته فيها إلا في حالات حصرية وضيقة جداً، ويتمتع بأوسع الصلاحيات لإدارة المصرف وتسيير أعماله ويعيّن ويقيل جميع الموظفين من جميع الرتب (م26 نقد وتسليف) ويُستشار في تعيين نوابه بحيث جرى التعامل على عدم تعيين من لا يرضى الحاكم به. والمضحك المثير للسخرية هنا انّ الحاكم هو من يعيّن لنوابه وظائفهم (م 18 نقد وتسليف)، حيث بإمكانه أن يقرّب او يقصي منهم مَن يشاء دون رقيب ما يعني انّ النص يجعل من 4 نواب للحاكم رهن مشيئة الحاكم الذي يمكنه تهميشهم او تفعيلهم وخطورة هذا الأمر تنعكس على عمل المجلس المركزي لاحقاً.
هذا الواقع الإمبراطوري في مصرف لبنان جعل الحاكم ذا سلطة تمكنه قول نعم أو لا لأيّ كان في الدولة بما في ذلك رئيس الجمهورية او مجلس الوزراء مجتمعاً. وبالتالي هذا الواقع يقفل الطريق على حاكم مصرف لبنان بأن يقول “أُجبرت” او “اضطررت” او “ضغطت” لأفعل هذا او ذاك، ما يعني أن كلّ ما يحصل في مصرف لبنان يقع بشكل مباشر على عاتق الحاكم ولا تخفف من مسؤوليته شراكة المجلس المركزي بالفعل، فهو رئيس هذا المجلس وهو يملك الهيمنة على 4 من أعضائه هم نوابه كما ذكرنا، وهو من يضع جدول أعماله. وبالتالي انّ التلطي خلف المجلس المركزي امر ليس منتجاً لما يريده الحاكم من براءة في هذا المجال. طبعاً وهنا لا يمكن أن نهمل مسؤولية الحكومة عن الشغور في مواقع نواب الحاكم وتالياً المجلس المركزي.
أما عن مسالة إعلام الحكومة بقرارات المجلس وما يحصل في المصرف، فإننا نميّز بين قرارات الحاكم وتعاميمه، وبين قرارات المجلس المركزي، حيث إنّ مفوض الحكومة يبدي رأيه في الثانية ويطلع على الأولى بمقدار ما يعلمه الحاكم بها، وهنا نذكر أيضاً بأنّ موقع المفوّض شاغر منذ 15 شهراً. هذا الشغور حصل في ظلّ حكومة سعد الحريري وهو مستمر إلى الآن، وتتحمّل الحكومة مسؤوليته قطعاً. فوظيفة مفوض الحكومة في المصرف هامة للغاية، لأنه هو عين الحكومة في المصرف، وإذا مارس المفوّض صلاحياته فإنه يشكل خط أمان يمنع انحراف المصرف عن مساره بشكل او بآخر. فمفوّض الحكومة هو حلقة الوصل بين المصرف والحكومة عبر وزير المال الذي يمكنه إذا مارس صلاحياته وكان خبيراً او استعان بخبراء في الشأن المالي أن يمنع عبر الحكومة أيّ شذوذ في إدارة المصرف.
وهنا نصل إلى مسألة الاستقلالية التي يتمسك بها حاكم مصرف لبنان، فنجد أنّ النص جاء صريحاً على انّ المصرف “شخص معنوي من القانون العام ويتمتع بالاستقلال المالي” (م13 من النقد والتسليف) وبعطف النص على نص صلاحيات الحاكم بأنه يتمتع بواسع الصلاحيات في إدارة المصرف (م 26 نقد وتسليف) نصل إلى القول بأنه يجب التمييز بين نوعين من التصرفات تصرفات الحاكم في إدارة المصرف وشؤونه الداخلية، وبين تسيير المرفق العام لجهة مسّه بالدولة والمواطن. ففي الأولى نعم نوافق الحاكم على استقلاليته وحقه في الفعل أو الامتناع دون الأصغاء لأحد، أما في الثانية فواجب الحاكم أن ينصاع للسياسة العامة للدولة وينسّق مع الحكومة في كلّ ما له علاقة بالأمن المالي والأمن الاجتماعي وليس له أن يتذرّع بأيّ استقلالية غير موجودة في النص أصلاً. وهنا تثار مسؤولية مفوض الحكومة ووزير المال ومجلس الوزراء الذي هو السلطة التنفيذية بحسب الدستور. ولو كانت الاستقلالية هي كما يقول الحاكم لما كان حاجة إلى الرقيب الحكومي في المجلس الذي هو مفوّض الحكومة.
أما عن الهندسات المالية التي اشترى بها الوقت كما اعترف، فإنّ تبريره مرفوض حتى من قبل أقلّ الخبراء خبرة في هذا المجال، خاصة إذا قارنّا بين ما تكبّده المصرف من خسائر الدولة حصدتها المصارف أرباحاً، وبين قيمة المهلة الذي يزعم أنه اشتراها.
وعليه نقول إنّ رياض سلامة حاكم مصرف لبنان لم يقنعنا بتبريراته، ولكننا لا نوافق على أنّ المسؤولية في ما وصلت اليه الأمور تقع عليه وحده، فهو عضو رئيسي في المنظومة التي تسبّبت بهذا الانهيار، لكنه ليس الوحيد فيها، فكلّ أعضاء المجلس المركزي مع مفوّض الحكومة مع زير المال مع الحكومات المتعاقبة شركاء في صنع هذه الكارثة، ويتحمّلون مسؤولية الفعل المباشر أو مسؤولية السكوت عن الخطأ خاصة في السنوات الخمس الأخيرة التي تفاقم فيها الوضع وحدث فيها الانهيار.
أما المعالجة فإنها برأينا لا تكون فقط بإعادة النظر في تركيبة حاكمية مصرف لبنان حاكماً ونواباً ومفوّض حكومة ومجلساً مركزياً، بل يجب أن يبدأ العلاج بمراجعة قانون النقد والتسليف الذي يجب أن يُسقط إمبراطورية الحاكم ويقيم المؤسسة المتماسكة المتوازنة، حيث تظهر فيها الرقابة الجدية على إدارة المصرف ضمن منظومة تحفظ الاستقلال الإداري الداخلي من دون تفرّد، وتؤمّن رقابة الحكومة وتدخلها حيث يقتضي.
*أستاذ جامعي – خبير استراتيجي.
River to Sea Uprooted Palestinian
The views expressed in this article are the sole responsibility of the author and do not necessarily reflect those of the Blog!
No comments:
Post a Comment