منذ أن نجحت الثورة الإسلاميّة في إيران في إقامة دولة مستقلة فعلياً تحوّلت إيران إلى عقدة للغرب الاستعماريّ لا يطيقها ويبحث عن أيّ وسيلة تقود إلى إنهاء هذه الظاهرة التي شكلت كابوساً للغرب عامة ولأميركا و«إسرائيل» خاصة. ولم يحاول الغرب التعايش مع هذا المتغيّر الدولي بل رأى أنّ الحلّ الوحيد له هو الإجهاز على هذه الدولة قبل تفاقم خطرها المتمثل بما أطلق عليه «تصدير الثورة» واجتياح الفكر التحريري الاستقلالي جيران إيران أولاً، وفي طليعتهم دول الخليج التي تشكل محميات للاستعمار يحكمها عبر عائلات تتحكّم بها وتمكّنه من وضع اليد على نفطها ومالها.
ولأجل التخلّص من النظام الإسلامي في إيران شنّت الحرب عليها من قبل صدام حسين بتوجيه أميركي وتمويل خليجي خاصة السعودية التي أفهمها الأميركيّون أنّ بقاء هذا النظام في إيران يشكل خطراً على العائلة المالكة في السعودية وكلّ العائلات المالكة في الخليج.
بيد أنّ إيران رغم حالة التفكّك والتضعضع الذاتي التي كانت عليها في الأشهر الأولى لانتصار الثورة، استطاعت ان تصمد وتستوعب الهجوم العراقي رغم أنها خسرت أرضاً في البدء وتكبّدت خسائر فادحة، لكنها صمدت واستعادت أرضها وقبلت بإنهاء الحرب من دون أن تتمكّن من معاقبة المعتدي، لكن أميركا لم ترضها تلك النتيجة وتحت عناوين وذرائع شتى فرضت عليها تدابير كيدية أسمتها عقوبات رغم عدم انطباق التسمية على الحقيقة القانونية لتلك التدابير. ومنذ 32 عاماً وحتى الآن ترزح إيران تحت وطأة ما يسمّى عقوبات متنوّعة منها ما هو أحادي كتلك التي تفرضها أميركا، ومنها ما هو جماعي خارج مجلس الأمن كتلك التي يفرضها الاتحاد الأوروبيّ وأميركا، ومنها ما هو دولي أممي كتلك التي تفرض بقرار من مجلس الأمن بضغط أميركي.
لقد لجأ الغرب إلى العقوبات التي من شأنها أن تخنق إيران وتجعلها تتراجع عن سياستها الاستقلاليّة، وعن دعمها لحركات التحرّر والمقاومة في العالم ومنعها أيضاً من امتلاك مصادر القوة (العسكرية والاقتصادية والعلمية) لإبقائها دولة من العالم الثالث وسوقاً استهلاكية لسلع الغرب وفرض التبعية الاقتصادية بعد السياسية لمجموعة المنتصرين في الحرب الثانية.
لكن إيران سفّهت أحلام محاصريها وثبتت على سياستها الاستقلالية، رغم ما أحدثته الحرب الاقتصادية من شرور وأضرار في الداخل الإيراني، لا بل حققت إيران رغم الحصار قفزات في مجال القوة الإنتاجية والصناعية يكاد المراقب يقول معها إنّ إيران وصلت إلى المستوى الذي زرع اليأس في النفس الاستعمارية وأفهمها انّ إسقاط إيران بات حلماً لا يُدرَك.
لقد طوّرت إيران نفسها بشكل تكاملي متعدّد الاتجاهات وفي كلّ المجالات التي تميّز الدول المتقدّمة في العالم المعاصر، سواء في ذلك على صعيد السلع الاستهلاكية المعيشية وقد حققت فيه شبه اكتفاء ذاتي بلغ 85% او في المجالات العلمية والصناعية، وقد طرقت بنجاح الباب النووي السلمي ووصلت أيضاً إلى مستوى مَن يطلق الأقمار الصناعيّة ويضعها بنجاح على مدار تشغيلي استثماري، او على صعيد البنية التحتية خاصة في مجالات النقل والكهرباء والاتصالات والخدمات العامة، والأهمّ كان في مجال التصنيع العسكري الذي تمارس فيه القوى العظمى احتكاراً صارماً وتمنع مشاركتها فيه، لكن إيران عرفت كيف تلج مجاله وتؤمّن لنفسها ولقواتها المسلحة من جيش وحرس ثوري وتعبئة شعبية ما يلزمهم من السلاح والذخيرة المتطوّرة التي تمكّنهم من تأمين دفاع موثوق محكم عن إيران أرضاً وشعباً ونظاماً وثروات، كما ويمكّنها من مؤازرة الحلفاء في ممارستهم لحق المقاومة والدفاع المشروع عن النفس. وهنا يطرح السؤال كيف نجحت إيران حيث فشل الآخرون؟
بكلّ تأكيد نجحت إيران في المواجهة طيلة السنوات الـ 41 من عمر ثورتها، أما سبب النجاح برأينا فهو عائد إلى عوامل تميّز الواقع الإيراني من وجوهه كلها، عوامل تضافرت بشكل ليس من شأنه تخطي الصعوبات والمآزق بل من شأنها أيضاً أن ترتقي بإيران إلى مصاف الدول الكبرى في نظام عالمي قيد التشكل على أساس المجموعات الاستراتيجية، حيث تتجه إيران اليوم لتكون نواة مجموعة استراتيجية تفرض نفسها في النظام العالمي الجديد ويمكن ذكر أهمّ عوامل القوة هذه:
1
ـ العامل الفكري العقائدي الديني. أقامت إيران نظامها السياسي على أسس دينية عقائدية، تتفتح فيه على مقولة إنشاء الدولة المستقلة القوية الممهّدة للإمام المهدي، وباتت العقيدة الدينية حافزاً للتضحية والإقدام والتطوّر خلافاً لما جعلها آخرون من المسلمين عامل تخلّف. فالإسلام الحركيّ الذي تعمل به إيران هو إسلام يقود الحياة ويطوّر المجتمع وينافس من أجل الرفاه دون انحراف إسلام محفز وليس مثبطاً. ويضاف ذلك إلى طبيعة الإنسان الإيراني المتميّز بالصلابة وطول النفس والعناد والإصرار على النجاح والتمسك بالحقوق.
2
ـ العامل السياسي: اعتمدت إيران نظاماً سياسياً متماسكاً تحتلّ الإرادة الشعبية الصلب والأساس في إنتاجه وتجديد السلطة عبر انتخابات نزيهة تجعل منه منتجاً شعبياً وتجعل الشعب مدافعاً عنه يرفض أيّ مسّ فيه، لأنه نظامه الذي اختاره ويجدّد أشخاصه بإرادته، هذا في الأصل؛ أما في الهيكلية فالنظام السياسي الإيراني نظام قوي متماسك قائم على المؤسسات المنفصلة والمتعاونة والتي يراقب بعضها بعضاً في حدود الدستور ويعمل في ظلّ قيادة رشيدة تجمع الديني إلى السياسي في أدائها فيطمئن الشعب إلى حكمتها وقوتها والتزامها بالدستور وفلسفته وأحكام الشريعة الإسلامية ومقاصدها.
3
ـ العامل الجغرافيّ الطبيعيّ. تمتلك إيران موقعاً جغرافياً ومساحة وثروات طبيعية تجعلها في موقع الاستغناء عن الآخر بنسبة عالية من دون أن يكون الآخر بموقع الاستغناء عنها اقتصادياً او سياسياً. وهذا العنصر مكّن إيران من النجاح في سياسة الاكتفاء الذاتي اقتصادياً والوصول إلى موقع التأثير دولياً وإقليمياً في المجالات الأخرى.
4
ـ العامل الاستراتيجي التحالفي. في هذا العامل أمرأن الأول طبيعة الخيار الإيراني في تقديم الدعم وإنشاء التحالفات دولياً والثاني النجاح في تشكيل محور المقاومة الإقليميّ. فإيران تبني تحالفاتها على أساس دعم قضية حق لرفع ظلم، وتقيم علاقة مع الأشخاص والمكوّنات الذين يؤمنون بعدالة هذه القضية ويستعدّون للدفاع عنها وخير مثال هنا موقفها من قضية فلسطين التي جهد الآخرون في إبعادها عنها ففشلوا. وهنا التباين بين إيران ودول الغرب الاستعماريّ التي تقيم التحالف انطلاقاً من المصالح الفردية والذاتية التي تريد اقتناصها من الآخرين. ففي الحالة الإيرانيّة يكون التكتل أو المحور او التحالف انطلاقاً من المبادئ التي تجمع المتحالفين ولذا تقيم تحالفاتها على مبادئ وحقوق وقضايا عادلة ثم تبحث في الأشخاص الذين يخدمونه. وبهذا أنشات إيران شبكة تحالفات متفاوتة السقوف أهمية وتأثيراً، أولها محور المقاومة يليها التفاهم مع روسيا والصين، وبعدها العمل في منظومة شنغهاي الاقتصادية وغيرها. وتوصف السياسة الإيرانية بأنها أخلاقية إنسانية لا غدر فيها، وحليف إيران مطمئن، في حين يوصف أداء الغرب باللاإنساني أو اللاأخلاقي وحليفه قلق.
هذه أهمّ العوامل التي منحت إيران مناعة وقوة وقدرة جعلتها تستعصي على الحرب والحصار وفرضتها لاعباً إقليمياً مركزياً وطرفاً دولياً لا يمكن تجاوزه وأبعدت ضمن المنطق والمعقول شبح الحرب عنها، وأكسبتها قدرة تمكنها من المسّ بهيبة أميركا الدولة المتصدّية لقيادة العالم. وعليه نرى مع وجود إيران هذه نستبعد حرباً تشنّها أميركا او «إسرائيل» على محور المقاومة، ونرى أنّ الأشهر والسنوات المقبلة ستحمل ترهّلاً وتراجعاً في صفوف أعداء إيران مترافقاً مع تقدّم إيران وحلفائها بشكل حثيث نحو تحقيق أهدافهم الاستراتيجية الكبرى خاصة لجهة المحافظة على الاستقلالية الوطنية وحمل الآخرين على التسليم بها ونصرة قضية فلسطين وصولاً إلى تحصيل حقوق شعبها وليس من فراغ يحتفل بيوم القدس العالم سنوياً وبشكل ثابت.
*أستاذ جامعي – خبير استراتيجي.
River to Sea Uprooted Palestinian
The views expressed in this article are the sole responsibility of the author and do not necessarily reflect those of the Blog!
No comments:
Post a Comment