بنظرة موضوعيّة في تقييم قرار الحكومة الاتحاديّة الألمانيّة، الذي اتخذته يوم 29/4/2020، بإعلان حزب الله منظمة إرهابية وحظر نشاطاته على أراضيها، نستطيع التأكيد على مجموعة من القضايا، المتعلقة بالخلفية التاريخية لهذا القرار، والإضاءة على دور الأنظمة الرجعية العربية، في تسهيل اتخاذه.
وأهمّ هذه القضايا هي التالية:
أولاً: إنّ ألمانيا الاتحادية دولة محتلة، من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ولا زالت محتلة عسكرياً، على الرغم من إقامة نظام حكم “ديمقراطي” وحكومة ألمانية ودمجها في منظمة حلف شمال الأطلسي، لتغطية وشرعنة احتلالها.
ثانياً: إنّ هذا القرار ليس إلا تعبيراً عن سياسة التبعية الكاملة، لكلّ من حَكَمَ ألمانيا الاتحادية بعد الحرب العالمية الثانية، للولايات المتحدة والدوائر الصهيونية العالمية. خاصة أن الحزب الحاكم حالياً، الحزب الديمقراطي المسيحي، بزعامة المستشارة أنغيلا ميركل، هو الحزب نفسه الذي كان يقود البلاد سنة 1952، الذي كان يتزعّمه كونراد أديناور آنذاك، والذي وقع اتفاقية التعويضات مع “إسرائيل” ومجلس المطالب اليهودية Jewish Claims Councle (وهو منظمة صهيونية عالمية تدّعي تمثيل اليهود “ضحايا النازية”، بتاريخ 10/9/1952 في لوكسمبورغ.
تلك الاتفاقية التي أطلق عليها اسم: اتفاقيّة لوكسمبورغ بين ألمانيا الاتحادية و”إسرائيل” والتي التزمت ألمانيا، بموجبها بدفع تعويضات للكيان الصهيوني بقيمة ثلاثة مليارات ونصف المليار مارك ألماني. ثم شكلت هذه الاتفاقيّة قاعدة ثابتة، لابتزاز حكومات تل أبيب لحكومة ألمانيا الاتحادية، التي واصلت تلبية الطلبات المالية الإسرائيلية، بحيث وصل مجموع ما دفعته ألمانيا للكيان الغاصب سنة 2007 مبلغ خمسة وعشرين مليار يورو. ثم ارتفع المبلغ سنة 2018 الى أربعة وسبعين مليار يورو.
ثالثاً: وهنا تجب الإشارة الى انّ أولى المليارات الألمانية التي دفعت للكيان الصهيوني قد استخدمت في هدفين:
الأول: هو تمويل شراء مفاعل ديمونا النووي من فرنسا وتدريب الكوادر الإسرائيلية في المجال النووي. ايّ انّ ألمانيا الاتحادية هي مَن مكَّنَ “إسرائيل” من امتلاك قدرات نووية وهي نفسها التي تتهم إيران زوراً وبهتاناً بمحاولات امتلاك أسلحة نووية.
الثاني: تمويل صفقات سلاح وتجهيزات عسكرية ألمانية وبريطانية وفرنسية، لصالح الجيش الإسرائيلي، وذلك لتحديث تسليح هذا الجيش، حيث اشترت “إسرائيل “العديد من الدبابات البريطانية الحديثة (آنذاك) من طراز سينتوريون Centuriun وبدأت بعقد صفقات للتزود بطائرات ميستير Mystere وسوبرميستير الفرنسية المقاتلة النفاثة (شركة داسو الفرنسية)، هذا الى جانب قيام حكومة ألمانيا الاتحادية، بتحديث أسطول آليات النقل العسكرية الإسرائيلية كاملاً، فور توقيع الاتفاقية المُشار اليها أعلاه. الأمر الذي لا يمكن اعتباره إلا مشاركة ألمانية مباشرة، عبر تمويل صفقات السلاح، في العدوان الثلاثيّ على مصر سنة 1956 وكذلك في العدوان الاسرائيلي على الدول العربية سنة 1967.
ذلك العدوان الذي نفذته عصابات تل أبيب انطلاقاً من قاعدة الحرب الخاطفة، الهتلرية الألمانية، معتمدة على سلاح جوّ فعّال امتلك أحدث المقاتلات الفرنسية وسلاح مدرّعات حديثاً وفعالاً شكلت الدبابات البريطانية الحديثة (آنذاك) عموده الفقري. وكلها أسلحة مموّلة من حكومة ألمانيا الاتحادية.
رابعاً: كما يجب على المرء، عند تقييم القرار الألماني باعتبار حزب الله منظمة إرهابية، أن لا ينسى انّ حكومة ألمانيا الاتحادية (الديمقراطية المسيحية كما هي الحكومة الحاليّة)، برئاسة المستشار لودفيغ إيرهارد (Ludwig Erhard)، هي التي اعترفت بـ “إسرائيل” وأقامت معها علاقات ديبلوماسية كاملة بتاريخ 12/5/1965، على الرغم من معارضة وزارة الخارجية الألمانية لذلك القرار في حينه. وهو ما شجّع حكومة الاحتلال آنذاك، وبعد أن كانت قد استكملت تجهيز جيش الاحتلال الإسرائيلي بأحدث الأسلحة الغربية المموّلة من حكومة ألمانيا الاتحادية، على تنفيذ عدوانها الواسع على الدول العربية واحتلال بقية فلسطين وأراضٍ من مصر وسورية.
وهذا يعني انّ حكومة ألمانيا الاتحادية، بقرارها المشؤوم الذي اتخذ قبل أيام، إنما نفذت قراراً أميركياً صهيونياً بمعاقبة حزب الله، على قتاله قوات الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان حتى الهزيمة النهائية وانسحابه غير المشروط من الأراضي اللبنانية سنة 2000 وهزيمة جيش الاحتلال نفسه للمرة الثانية عندما اعتدى على لبنان في تموز 2006، وكذلك معاقبة الحزب على المشاركة الفعّالة في قتال داعش وهزيمته في سورية والعراق ولبنان بشكل خاص. أيّ أنّ حكومة المستشارة ميركل هي شريكة، من الدرجة الأولى، للولايات المتحدة بالمناورة بالإرهابيين واستغلال وجودهم ونشاطهم المدعوم غربياً لتحقيق أهدافٍ سياسية كان للحزب دور مركزي في منع تحقيقها (الأهداف السياسية الغربية).
خامساً: وبما أنّ الشيء بالشيء يُذكر، فلا بدّ من الربط، بشكل موضوعي، بين هذه الخطوة الألمانيّة المدانة بشدة وبين العديد من الخطوات والسياسات العربية الخليجية على وجه الخصوص والتي شجّعت حكومة ألمانيا المحتلة على اتخاذ قرار كهذا بدلاً من أن تتصدّى لسياسات شيطنة كلّ من يعمل على مقاومة مشاريع الاحتلال والهيمنة على العالم العربي ومقدراته. كما لا بدّ من التذكير بالدور التخريبي لهذه الأنظمة الخليجية التابعة عملياً للاستعمار والصهيونية، منذ أن تمّ توكيلها الحكم في الجزيرة العربية، وهو الدور الذي يتواصل اليوم في العمل على تغيير العقيدة الوطنية العربية، ليس فقط في دول الجزيرة العربية وإنما في كلّ الدول العربية، عبر أعلامها المتصهين والمسموم، سواء المرئي والمقروء أو ذلك الافتراضيّ.
هذا التخريب، الذي تمارسه دول البترودولار في الجزيرة العربية، والذي يعمل من دون توقف وبإمكانيّات ماليّة هائلة، والهادف الى اختراع عدو وهمي للأمة العربية، اسمه إيران، إنما هو نفسه مَن يتحمّل حجم المسؤولية الألمانية نفسه في اتخاذ هذا القرار، خاصة أنّ حزب الله يقاتل الإرهاب ولا يموّله ويقدّم له كلّ أنواع الدعم، كما تفعل الحكومة الألمانيّة وحكومات ممالك النفط العربية الآيلة الى الانقراض قريباً، وهو ما يعني أنّ الحكومة الألمانية ومعها الولايات المتحدة الأميركية و”إسرائيل” وممالك النفط العربية تعمل على تحقيق الهدف نفسه، المتمثل في تدمير الدولة الوطنية العربية وتعزيز دور دويلة الاحتلال الاسرائيلي، من خلال محاربة كلّ من يدعم القضية الفلسطينية كحزب الله اللبناني والجمهورية الإسلامية الإيرانية.
سادساً: ولعلّ من المفيد أيضاً تذكير المستشارة الألمانية وحكومتها أن هذه السياسات، المتبعة من قبلهما، والتي هي انعكاس للتبعية العبودية للولايات المتحدة الأميركية والدوائر الصهيونية العالمية لا يمكن أن تؤدّي إلا الى خلق المزيد من التطرف، في المجتمع الألماني، كما هو حاصل حالياً، حيث يسيطر الحزب اليميني المتطرف (عملياً نازيون جدد رغم انخراطه في العملية الانتخابية في ألمانيا)، والمسمّى: المبادرة من أجل ألمانيا (Alternative für Deutschland (AfD حيث يسيطر هذا الحزب على 89 مقعداً من أصل 620 مقعداً في البرلمان الحالي.
كما لا بدّ من تذكير المستشارة ميركل بأنّ عليها وحكومتها منع شبكات الإرهاب النازي الجديد، وحظر نشاطها في ألمانيا، كالشبكة، التي تسمى شبكة ميلبيتس Milbitz، وهي شبكة نازيين جدد تملك معسكرات للتدريب على الأسلحة، في منطقة رودولشتات Saalfeld – Rudolstadt، وسط ألمانيا، والتي نفذت العديد من الاعتداءات المسلحة على أماكن إقامة المهاجرين وطالبي اللجوء السياسي. وهي شبكات لا تتعرّض حتى لأيّ مضايقات، من قبل حكومة ميركل، حتى يومنا هذا.
ولعلّ الفضيحة الكبرى، التي تفجّرت في ألمانيا، على أثر انكشاف قيام قائد جهاز المخابرات الداخلية الألماني (Bundesamts für Verfassungsschutz)، هانس غِيورغ ماسين Hans- George Maaßen، بعقد اجتماعات تنسيقية مع الناطقة باسم الحزب اليميني الألماني المتطرف، / مبادرة من أجل ألمانيا/، واسمها فراوكي بيتري Frauke Petry، واستقالته من وظيفته إثر ذلك.
اذن انها الحكومات الرجعية، التي تؤمّن الغطاء للعناصر المتطرفه والإرهابيين ورؤساء تلك الحكومات، كالمستشارة ميركل، هي الجهة المسؤولة عن انتشار الإرهاب في بلادها وبقية أنحاء العالم وليس حزب الله، الذي يحارب داعش والنصرة في كلّ أنحاء منطقة غرب آسيا، ولا الجمهورية الاسلامية الإيرانية التي تقوم بالدور نفسه وتتعرّض للتشويه والتهديد والحصار والعقوبات والاغتيالات، والتي كان آخرها اغتيال الجنرال قاسم سليماني، الذي قاد جبهة حلف المقاومة في حربها ضد الإرهاب في العالم العربي.
سابعاً: وعليه، فإنّ على المستشارة الألمانية، وغيرها من الروساء ورؤساء الحكومات الأوروبيين، الإقلاع عن ممارسة السياسات الخاطئة نفسها، التابعة لواشنطن ودوائر الصهيونيّة العالمية فيها، والتي أثبتت عجزها، أو امتناعها، حتى عن تقديم ايّ دعم طبي او صحي للدول الأوروبية في مواجهة وباء كورونا. الأمر الذي يحتم على ألمانيا، وهي الاقتصاد الرائد في أوروبا، أن تعود الى سياسة “ريال بوليتيك” (Realpolitik) التي أرسى قواعدها المستشار الألماني السابق، الاشتراكي الديمقرطي ڤيللي براندت، كسياسة عمل الممكن (في التعامل مع الخصم/ آنذاك الاتحاد السوفياتيّ وألمانيا الديمقرطية)، ولا بأس بتذكيرها بمرتكزات سياسة أوتو فون بيسمارك، Otto von Bismarck، مؤسس ألمانيا الموحدة في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، وما أقامه من تحالفات لم تكن تخطر على بال.
ثامناً: وفي الختام نطرح على المستشارة ميركل سؤال: ماذا ستتوقع عندما ستأتي لحظة التصويت على عروض شركة سيمينس الألمانيّة في البرلمان اللبناني؟ هل بإمكانك تجنّب فيتو نواب حزب الله وحلفائه الذين يشكلون الأكثرية البرلمانية الحاكمة؟ وماذا سيكون موقف شركة سيمنس إذا ما ربحت مشروع الكهرباء في لبنان، هل ستمنعها حكومة المستشارة ميركل من تنفيذ إقامة شبكات الكهرباء في المناطق التي تسمّى بالمناطق الشيعيّة في لبنان لأنها البيئة الحاضنة للحزب والمقاومة مثلاً؟
هل اتهام أكثر من ثلث الشعب اللبناني بالإرهاب هو سياسة واقعية تخدم المستقبل والعلاقات الدوليّة المبنيّة على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة!؟ ام انّ لذلك مساراً آخر تعرفه المستشارة ميركل ولا تستطيع سلوكه بسبب الضغوط الأميركية الصهيونية!؟
إنّ السياسة البناءة والديناميكية تتطلب من السيدة ميركل ان ترسل قائد جهاز مخابراتها الخارجية الى لبنان فوراً ليتفاهم مع قيادة حزب الله ويحاول إصلاح ما أفسده وزير الداخلية الألماني، الذي اتخذ القرار المتعلق بحزب الله، لعله يجد مخرجاً من أزمة لا تفيد ألمانيا قطعاً، ولن تؤثر في مسيرة حزب الله واستراتيجيته، التي دأبت على قطع دابر الإرهاب، وتأمين السلام والاستقرار في “الشرق الأوسط” والذي بدونه لن يكون هناك أيّ تطور إيجابي وستبقى المنطقة فريسة للكثير من التصعيد والتوترات الاقتصادية والسياسية والأمنية، وربما العسكرية التي ستفضي ليس في وقت بعيد الى زوال الكيان الصهيوني الذي يحظى بدعم ألمانيا الاتحادية وسيد البيت الأبيض وأذنابه في الجزيرة العربية.
إنهم قد يرونه بعيداً، لكننا نراه قريباً، لذلك وجبت العبرة، والحذر كلّ الحذر من ابتلاع الطعم الأميركي، يا ميركل!
بعدنا طيّبين، قولوا الله…
River to Sea Uprooted Palestinian
The views expressed in this article are the sole responsibility of the author and do not necessarily reflect those of the Blog!
No comments:
Post a Comment