–
وضع رئيس مجلس النواب نبيه بري الأزمة المالية التي تزداد وطأتها على اللبنانيين، في قلب مقاربة يتجاهلها الكثير من السياسيين، ويرغب الكثير من المسؤولين مواصلة حالة الإنكار في النظر إليها؛ وجوهرها أن صراعاً استراتيجياً يدور من حول لبنان، وتتداخل فيه محاولات الاستحواذ على موقع لبنان الحساس في هذا الصراع المثلث الأبعاد، لدرجة تحوله إلى الموقع المقرر في رسم مستقبل الوجهة التي سيسلكها الوضع من حوله في ضوء الموقع الذي يرسو عليه لبنان، والصراع المثلث الذي تحدّث عنه بري، هو الصراع على قوس النفط والغاز في الساحل الشرقي للبحر المتوسط، وفي قلبه محاور الممرات المائية نحو أوروبا، والصراع على سورية ومن حولها من بوابة قانون قيصر، وموقع دول الجوار السوري فيه، والصراع على أمن كيان الاحتلال ومستقبل القضية الفلسطينية، من بوابة صفقة القرن، ضمن محاولة تفتيت المنطقة إلى كيانات عنصريّة متناحرة.
–
التدقيق في خريطة بري، يُظهر نقاط الضعف والقوة في المشهد الاستراتيجي، كما يظهر الموقع الحاسم لتموضع لبنان في رسم مستقبلها، بصورة تفسر استعارته لتشبيه الوضع بما كان عليه عام 1982، مع اجتياح جيش الاحتلال للعاصمة اللبنانية، فمن جهة تقف مصر سداً أمام الأطماع التركية في نفط وغاز ليبيا، لكنها شريك في أنبوب غاز مع كيان الاحتلال يستهدف شق الطرق المائية نحو أوروبا، تمنعه اتفاقات تركيا مع حكومة فائز السراج في ليبيا، فتحمي عملياً أحادية الأنبوب الروسي التركي نحو أوروبا، ومن جهة مقابلة، يقف العراق في ظل حكومته الجديدة برئاسة مصطفى الكاظمي على ضفة التمسك بالاستثناءات من العقوبات الأميركية على إيران، فيما تسعى واشنطن مقابل ذلك لضمان مشاركته في إغلاق حدود الجوار السوري ضمن مفاعيل قانون قيصر، ومن جهة ثالثة يشكل الأردن المتضرّر الأكبر من صفقة القرن، سواء بضم القدس وغور الأردن إلى كيان الاحتلال، أو أصلاً بإحياء نظرية الوطن البديل للفلسطينيين، الرئة التي يراد إقفالها على سورية، وهو الشريك في أنبوب الغاز المشترك بين مصر وكيان الاحتلال.
–
وفقاً لخريطة بري يبدو لبنان حلقة الترجيح في ظل تعقيدات محاور الاشتباك الساخن الدائر من حول لبنان، كما عام 1982، فرفض رفع الراية البيضاء أمام المشروع المثلث لكيان الاحتلال، بعناوين أميركية، لخنق المقاومة وسورية وتمرير أنبوب الغاز إلى أوروبا، سينتج خريطة جديدة. وتبدو صيغة بري للمواجهة هذه المرة من موقع الدولة خلافاً لمواجهة عام 82 في الميدان، ولذلك فهي تقوم على تمسك لبنان بحقوقه في النفط والغاز، في المفاوضات التي يمسك بري بإدارتها، غير القابلة لإعادة النظر، ويتكامل مع سورية لتشكيل أنبوب ثالث لثروات المتوسط، يتطلع لضمّ الأردن ومصر إليه، وبناء علاقة تعاون مع روسيا من موقع عربي مستقلّ عن تركيا وكيان الاحتلال. ونقطة القوة اللبنانية هنا يكشفها الربط الأميركي الذي كشف عنه معاون وزير الخارجية الأميركية ديفيد شينكر بين ترسيم حدود لبنان البحرية بما يُرضي كيان الاحتلال وأزمة لبنان المالية، من جهة، وبين هذا الترسيم وقدرة كيان الاحتلال على استثمار ذي قيمة تجارية لكيان الاحتلال لثروات الغاز، من جهة موازية، تفسر الإلحاح الأميركي، وفي المسارات الموازية لا تبتعد خطة بري عن سعي لسوار لبناني عراقي أردني يخاطب العقوبات على سورية بلغة المصالح الوطنية لدول الجوار السوري، وعن سعي لموقف مصري سوري أردني عراقي لبناني موحّد من صفقة القرن الهادفة لتصفية مصالح الفلسطينيين وقضيتهم، وإصابة مصالح حيوية للبنان بتصفية حق العودة، وللأردن بجعله وطناً بديلاً للفلسطينيين، وتصيب مصالح العراق ومصر باستقرار إقليمي سيتكفل بتفجيره حصار سورية وانهيار لبنان، وانفجار فلسطين.
–
تقابل دعوة بري، دعوة أميركية أطلقها المبعوث الأميركي الخاص حول سورية، جيمس جيفري، كاشفاً الإدراك الأميركي لتغير الموازين، بإعلان هدف الضغوط الأميركية الجديدة، تحت عنوان العودة إلى ما قبل 2011، لجهة التسليم بانتصار الدولة السورية، مقابل سحب وجود قوى المقاومة من سورية. بينما العودة إلى ما قبل العام 2011 في روزنامة بري تعني، العودة إلى ما قبل خط هوف المقترح أميركياً لترسيم الحدود البحرية للبنان بمنظار مصالح كيان الاحتلال، وما قبل صفقة القرن والاعتراف الأميركي بضم الجولان، وما قبل العقوبات المشددة على إيران، وما قبل حرب اليمن، فهل غابت عن العقل الأميركي استحالة العودة إلى العام 2011 على قدم واحدة، وما يمكن أن يفتحه العنوان من أبواب موازية، تلاقيها دعوة بري التي تنتظر لتكتمل معالمها نضجاً لبنانياً، وانتباهاً مصرياً وعراقياً وأردنياً؟
لزمن طويل كانت الدوائر الدبلوماسية في الصين وروسيا تفضل البقاء في دائرة الدفاع عن سياساتهما الرسمية القائمة على عناوين عريضة من نوع رفض الحروب والتدخلات والاحتكام إلى القانون الدولي والمساعي الأممية بحثاً عن الحل السياسي. وبعد التموضع الروسي في سورية رفع الروس وتيرة المشاركة في السجال الذي تمتهنه واشنطن لتسويق سياساتها، لكنهم بقوا عند حدود الدفاع عن نزاهة الدور الروسي وقانونيته وشرعيته والحرص على عدم توجيه الاتهامات المباشرة لواشنطن حرصاً على عدم التورط في الرد والرد على الرد.
أظهرت الأيام الأخيرة تطوراً نوعياً في السجال الأميركي الروسي الصيني حول لبنان، فخرج السفير الروسي على قناة المنار يصف اتهامات معاون وزير الخارجية الأميركية ديفيد شنكر لحزب الله بالمسؤولية عن الأزمة الاقتصادية بدفاع مستغرَب عن الفساد ومسؤوليته في تخريب الاقتصاد اللبناني ومحاولة تسييس يائسة للملف الاقتصادي، مؤكداً اهتمام الشركات الروسية بلبنان، واضعاً محاولات واشنطن إبعاد روسيا والصين عن لبنان في دائرة السعي لوضع اليد على لبنان كحلقة في النفوذ الحساس في منطقة الشرق الأوسط من زاوية جيواستراتيجية بينما روسيا والصين تؤمنان بأن لبنان بلد توازنات يجب أن يتعاون مع الجميع.
كلام السفير الصيني، الذي نادراً ما يدخل على الملفات الخلافية، ونادراً ما يتحدث عن السياسات الدولية واللبنانية خارج إطار العموميّات، جاء بسقف عالٍ في رده على شينكر، وصولاً لحد نصيحة الدبلوماسي الأميركي بالاهتمام برفاه شعبه وصحته في ضوء تعثر إدارته بمواجهة وباء كورونا مفصلاً في رده كل النقاط التي اثارها شينكر في محاولة التشويش على أي انفتاح لبناني صيني. واللافت هو اللغة العالية النبرة التي استخدمها السفير الصيني قياساً بتحفظه التقليدي، وبالطريقة الصينية المعتمدة بتفادي السجالات.
الواضح أن روسيا والصين قررتا كسر جدار الصمت أمام الحملات الأميركية، لكن الأوضح من خلال اللغة الأميركية القاسية في التطاول على روسيا والصين، والردود الروسية الصينية الأشد قسوة، ولو من موقع الدفاع، هو أن لبنان بات نقطة صراع مفصليّة على ساحل المتوسط، وأن التبعية الثقافية للعديد من السياسيين والمسؤولين اللبنانيين التي تعميهم عن رؤية حجم تراجع القدرة الأميركية على الاستئثار بالنقاط الجيواستراتيجية على ساحل المتوسط، ستجعل الصراع أشد وطأة على لبنان واللبنانيين.
مقالات متعلقة
- برّي: نحن في قلب حروب الغاز وصفقة القرن وإسقاط سورية… ولن نرفع الراية البيضاء
- شنكر «بق البحصة»: «وافقوا على التصوّر»!
- السفارة الصينية «تُؤَنِّب» شينكر وتصف تصريحاته بالكذب: أميركا هي من يتجسّس ويتغلغل في الدول لبسط النفوذ
- تهديد أميركي جديد: الدعم مقابل حزب الله | الدولار من دون قيود!
River to Sea Uprooted Palestinian
The views expressed in this article are the sole responsibility of the author and do not necessarily reflect those of the Blog!
No comments:
Post a Comment