الحروب في العالم ليست من إفرازات العصر الحالي بل كانت نتيجة طبيعية لقيام التجمّعات البشريّة منذ آلاف السنين. هذه التجمعات التي رأت في حيويتها الزائدة دافعاً للتوسع على حساب التجمعات المجاورة بداية، إذ لم يكن وعي الجماعة لوحدتها الاجتماعية قد ترسّخ بعد. وكان من الطبيعي أن ينتج عن الحروب نتيجة من اثنتين: النصر أو الهزيمة. ويكاد مجتمعنا السوري، بماله من خصائص جغرافية مميّزة، أن يكون من أكثر المجتمعات التي شهدت صراعات داخلية دافعها السيطرة وفرض أنظمة محددة من القوي على الضعيف من جهة، وخارجية هدفها أيضاً السيطرة لاستغلال الموارد الطبيعية والاستفادة من الموقع الجغرافيّ لتحصين المكانة الإقليمية أو العالمية. وما زال مجتمعنا حتى الساعة عرضة لموجات متتالية من الصراع على النفوذ أو من الاحتلال المباشر لأجزاء منه تنفيذاً لمخططات سياسيّة تعتمد على رؤى أيديولوجية بعيدة كلّ البعد عن المنطق والعدل الإنساني.
فالأوضاع الجيوسياسيّة التي فرضها علينا الاحتلال المزدوج الانكليزي – الفرنسي والتي أدّت إلى زرع الكيان الإسرائيلي في جنوبنا السوري، لم تزل تداعياتها تتفاعل لتؤدّي إلى نتائج سلبية تطاول مجتمعنا وإيجابية تطاول كيان العدو المغتصب. فالهزائم التي ألحقها هذا العدو البربري، المدعوم من القوى الظلامية العالمية، بعدد من الدول المسمّاة عربية جرّاء حروب ثلاث أدّت إلى تفكك المنظومة العربية التي حاول الاستعمار الترويج لها، لمعرفته المسبقة بعدم قابليتها للتنفيذ. فإذا بالجامعة العربية أسوأ بكثير من الجمعية العامة للأمم المتحّدة، إذ لا هذه ولا تلك تمكّنت من فرض تنفيذ قراراتها المتخذة في جلسات عامة وبمعظمها إمّا بإجماع الأعضاء أو بأغلبيتهم. وتفنّنت هذه الدول العربية بالتخفيف من وقع هزائمها فسمّتها أحياناً نكبة وأحياناً نكسة أملاً بأن يعقب النكسة نصر يمحو العار الذي لحق بهذه الدول نتيجة هزيمتها المخجلة والمعيبة والمذلة لمن أراد أن يصف النتيجة بما يتطابق مع الوقائع. وأكثر هذه الهزائم إيلاماً هي حرب الخامس من حزيران عام 1967 والتي استطاع العدو خلال أسبوع واحد أن يقضي على جيوش ثلاث دول عربية مجتمعة وكانت على علم مسبق بمخططات العدو. ولم تستطع هذه الدول نفسها الاستفادة من الأخطاء والثغرات فإذا بهزيمتها تتكرّر عام 1973 رغم أنها كانت هي المبادرة هذه المرة لشنّ الحرب. وربما نستطيع القول بأنّ مصر وحدها نظرياً استفادت من هذه الحرب التي سارع الخائن السادات إلى إنهائها نتيجة وعد بإعادة سيناء إلى أحضان مصر، وبدلاً من استغلال هذه النتيجة لصالح مصر وبقية دول الطوق التي سبّب لها إسراع السادات بوقف الحرب بخسارة المزيد من أراضيها وتدمير جيشها وإيقاع العديد من الضحايا والأسرى من أفراد جيشها، بادر السادات إلى استكمال خيانته وانهزاميته يوم أعلن استعداده لزيارة دولة الاحتلال وعقد الصلح معها، فدفع دمه نتيجة هذه الخيانة.
ولم يستطع العقل «العربي» أن يجاري العقل اليهودي بالتخطيط أو على الأقلّ بالتصدّي لمخططات العدو الذي انتقل، من القيام بالحرب المباشرة لقضم المزيد من الأرض، إلى الحرب غير المباشرة أيّ استغلال الآخرين لشن الحروب عنه (حرب الأميركيين على العراق، استغلال ما سُمّي بالربيع العربي وإدخال الإرهابيين الدواعش إلى كلّ من العراق وبلاد الشام، كأمثلة على ذلك)، وقطف نتائج هذه الحروب المدمّرة. وها هي جذور هذا التخطيط الجديد تعطي ثماراً إيجابية أفضل بكثير من ثمار الحروب المباشرة. فبدلاً من استعداء الدول العربية مجتمعة من الخليج إلى المحيط وعلى مدى عشرات السنين، استطاع خلال سنوات معدودات أن يجعل من الأعداء أصدقاء يعاونونه على من كان لهم بالأمس القريب، ليس فقط صديقاً، بل أخاً ينادي بما ينادون به من أخوة عربية ولاءات خشبية عن عدم الاعتراف بدولة العدو، أو عقد معاهدات سلام معها، أو حتى التفاوض بشأن السلام والاعتراف.
وانطلاقاً من مخططات العقل الجهنمي الخبيث المستحكم بنفسية عدونا استطاع أن يحوّل هزيمة الأنظمة العربية إلى انهزامية لم يسبق لها مثيل في تاريخ التجمعات البشرية قديماً وحديثاً.
فبدلاً من أن تدفع الهزيمة بالمهزوم إلى تحليل سبب هزيمته لكي يحاول العمل على تفادي هذه الأسباب مما يساعد على قلب الهزيمة إلى نصر، وجدنا أن المهزوم استطاب طعم الهزيمة والذلّ الذي لحقه من جرائها وإذا به يرضخ طوعاً لكلّ شروط المنتصر عليه، بل نجده يزحف راجياً المنتصر أن يمعن بإذلاله، دائساً على ما تبقى من كرامته وشرطه الوحيد إبقاء الزمرة الحاكمة في السلطة. والمؤسف أنّ هذه الزمر الحاكمة استطاعت أن تدجّن الناس وتقنعها بانّها إنّما تفعل ذلك لمصلحتها.
لقد وصلنا إلى زمن من الانهزاميّة المذلة لمن يفقه معنى الانهزام والاستسلام، في حين أنّ الخيانة أصبحت وجهة نظر، فكثرت هذه الوجهات وتعدّدت لتوافق ظروف وأوضاع كلّ كيان من كيانات الأمم العربية التي نجحت مرة واحدة بتجربة الوحدة (مصر والجمهورية العربية السورية)، بحيث كان مكتوباً على هذه التجربة الفشل لأنّها لم تنطلق من المفاهيم الاجتماعية المستندة إلى الحقائق التاريخية والجغرافية. وقلة من رجال الفكر والسياسة أعادوا النظر بمواقفهم على امتداد العالم العربي، هذه المواقف الارتجالية والتي كانت لها ارتدادات سلبية على قضايا أمم العالم العربي المصيرية. واحد من هؤلاء هو عبد الهادي البكار، وقلّة تعرفه أو سمعت به خاصة بين الأجيال الجديدة، وهو إعلامي سوري عاصر أيام الوحدة، وبعد سقوطها اضطهد وأجبر على المغادرة إلى مصر التي كان قد انجرف مع تيارها الناصري الطامح إلى قيادة «الأمة العربية». فكان لهذا الإعلامي الجرأة الكافية، بعدما خذلته مصر الناصرية أيضاً، للاعتراف بانجرافه العروبيّ الذي لم يستند إلاّ إلى وهم، «وأنّ الحلم الوحيد الباقي هو في (سورية الكبرى) التي ساهم في تشويهها حين كان التفكير أو الحديث في ذلك يُعرّض صاحبه إلى التشويه والتخوين». ويذكر الأستاذ سامر موسى على صفحته بأّنّ البكار قد فاجأ قراءه من خلال ما أورده في كتابه (صفحات مجهولة من تاريخ سورية الحديث)، والذي صدر عام 2008 عن (دار الذاكرة) في بيروت إذ قال بأنّه: «تأكّد له خلال العقود الأخيرة اعتلال الفكرة القومية العربية وربما اضمحلالها في العالم العربي، كما تأكّد خلالها احتياج بلاد الشام إلى استنهاض قوتها الذاتية الإقليمية، وأنّ دعوة أنطون سعاده إلى توحيد الأشلاء والأجزاء السورية لم تكن هي الخطأ أو الانحراف بل كانت هي الصواب». وبالرغم من عدم وضوح الرؤية القومية الصحيحة لدى البكّار إلّا أنّ اعترافه هذا يُعتبر خطوة أولى بالاتجاه الصحيح علّها تساعد أجيال المثقفين من التماهي معه لنفض غبار الدسائس التي شوّهت لبّ عقيدة النهضة القومية الاجتماعيّة التي بات كثيرون، ممن حملوا لواء محاربتها في الماضي، يؤمنون ليس فقط بصحتها بل بانّها الوحيدة القادرة على بناء الإنسان الجديد القادر على التصدّي لكلّ مثالب المجتمع، وعلى المساهمة في بنيان المجتمع الجديد القادر على الخروج من مفاهيم الانهزامية إلى مفاهيم الوعي المجتمعي القادر على إعادة زرع مفاهيم الكرامة والعزة والعنفوان التي تعيد للمواطن الثقة بنفسه وبأمته، وبأنّ الهزائم ليست قدراً، وبأنّ النصر ليس بالصعوبة التي يصوّرونها له إمعاناً بإذلاله وزرع اليأس في نفسه.
فما بين النفسية الانهزاميّة التي تبديها معظم كيانات الأمم العربية تبقى بارقة الأمل في كيانات الأمة السورية، صاحبة القرار الوحيدة عندما يتعلق الأمر بالمسألة الفلسطينية. وها هي هذه الكيانات تسطّر أرقى سطور المجد مسقطة أسطورة دولة الاحتلال التي لا تقهر. فمن العراق الذي أسقط انتصار داعش، إلى الشام التي باتت قريبة من دحر المؤامرة الكونية عليها، إلى فلسطين أطفال الحجارة الذين يواجهون بصدورهم العامرة بالإيمان الذي يؤكّد أنّ القوة وحدها تعيد الحقّ السليب، إلى لبنان الذي أعطت مقاومته دروساً تاريخية بالبطولة المؤمنة بصحة العقيدة والتي استطاعت أن تنهي عصر الهزائم وتعلن بدء عصر الانتصارات، سلسلة من المواقف التي تعيد للأمل تألّقه، وتبعث في النفوس الضعيفة القوة من جديد. هذه القوة هي اللغة الوحيدة التي يفهمها العدو، وهي نفسها اللغة التي تخلّت عنها معظم الأنظمة الانهزامية. فالهزيمة ليست قدراً بل هي حافز للتمسك بكلّ أسباب القوة التي تؤمّن الانتصار على مفهوم الانهزام أولاً، وعلى العدو المكابر ثانياً. فلنمسك بأسباب قوّتنا، ولنترك للانهزاميّين العيش في صقيع انهزاميّتهم.
River to Sea Uprooted Palestinian
The views expressed in this article are the sole responsibility of the author and do not necessarily reflect those of the Blog!
No comments:
Post a Comment