مبادرة الحياد التي دعا إليها الكاردينال بشارة الراعي، تجد صعوبة في تسويق شروطها على المستوى اللبناني، كآلية تنقذ لبنان من الحصار الأميركي – الغربي عليها. فتذهب في اتجاه محاولة إلغاء الانتصارات التي حققها الشعب اللبناني ممثلاً بحزب الله منذ العام 1982 وحتى 2019.
هذا واحد من جوانبها، لأنّ الثاني يستلهم الجانب الأول معتبراً أنّ تحالف التيار الوطني وحزب الله وحركة أمل والأحزاب الوطنية، لم ينجح في بناء منطق سياسي محايد، ما يتوجّب عليه الانسحاب من الحكم، بما يؤدّي إلى عودة سعد الحريري والقوات والكتائب والسيد علي الأمين وجنبلاط إلى إدارة الحكومة ومعهم بعض الشيعة المتساقطة من رحلة المسير نحو… الكرامة.
أما الجانب الثالث فيرتبط بتصحيح العلاقات الخارجية للدولة، على نحو يؤسس لانصياع كامل وفق ما تريده مبادرة الكاردينال الحيادية.
هذا يتطلب الإجابة عن السؤال الأساسي «لماذا المبادرة الآن؟».
وسرعان ما يجيب المنطق ببراءة حمل وديع أن إطلاقها متزامن مع تراجع أميركي في الشرق الأوسط ومحاولات أميركية لابتكار آليات جديدة لعرقلة القوى الصاعدة في الشرق الأوسط.هذه القوى تبحث في لبنان عن تحالفات اقتصادية مع محاور صينية وعراقية وإيرانية بديلاً عن الاقتصاد العربي المتلكئ
حالياً في دعم لبنان إلى درجة تركيب حصار خانق حوله.بالنسبة للبنان تحديداً، رأت مبادرة الكاردينال أن انتصارات حزب الله وصعود المحور الروسي – الإيراني، وإمكانية توجّه الاقتصاد اللبناني نحو الخط السوري – العراقي على الأقل أو الإيراني والصيني عند الضرورة القصوى، رأت خطراً على التبعية اللبنانيّة من 75 عاماً للنظام الغربي – الفرنسي – الأميركي.واعتبرت صعود حزب الله في الدولة اللبنانية مؤشراً على تراجع الوصاية الغربية على لبنان، وانكفاء القوى الداخلية المرتبطة بالحلف الأميركي – السعودي.
ولأن الكاردينال يعرف مدى الصعوبة التي تعترض طريق مبادرته للحياة، فاتجه لتغليفها بـ»عدائية لغوية» لـ»إسرائيل»، وهذا من اليقظة السياسية، لأن الفريق المحيط بنيافته يعرف أن تجميد أي علاقة مع محاور صينية – إيرانية – عراقية أو سورية، لا يعني إلا تأكيد النفوذ الأميركي – الفرنسي بمفرده.وهذا النفوذ يحاصر لبنان حالياً مصراً على واحد من أمرين:
إما خنق حزب الله، أو خنق لبنان.
فتشكل مبادرة الراعي الآلية الأميركية المطلوبة لتحقيق البديل من تراجعاتها الإقليمية.
إن خطورة هذه «الحياديّة» تظهر عند دفعها لكتلة 14 آذار لتسلّم الحكم أو لنصب حالة احتراب شعبي بين فريقين لبنانيين، ما يعطل الطابع السلمي للعلاقات بين اللبنانيين ودفع الخارج الأميركي – الإسرائيلي لشن حروب على حزب الله، فتبدو مبادرة الكاردينال «آلية أميركية جديدة» لتغيير نتائج الحروب المظفرة لحزب الله في جنوب لبنان وشرقه، والمعنويات الضخمة التي يحوز عليها من مجابهاته للإرهاب في ميادين سورية.لذلك تذهب المبادرة إلى أكبر كمية ممكنة من تحشيد داخلي ذي طابع طائفي.
إما أن تعود 14 آذار إلى الحكم، وإما أن تعود أيضاً إليها بواسطة تدخل عسكري إسرائيلي – أميركي، وإلا فإن الكاردينال يجهز سلاحاً خارقاً ثالثاً وهو عدم الاعتراف بنتائج الانتخابات النيابية أو بالأكثريات الطائفية، كوسيلة للعودة إلى العلاقات الفدرالية بين الطوائف، وهذا طرح لا يكتفي بالفدرالية الدستورية بل يذهب مهرولاً مع كونفيدراليات في بلد تحتاج إلى مكبّر ضخم لتراه، بما يعطل الأدوار الإقليمية الداخلية للحزب، مؤسساً لعلاقات واسعة لبعض الكانتونات المحلية مع إسرائيل وبشكل حربي.
وهذا ما يجعل من مبادرة الحياد للكاردينال الراعي محلية في لبنان وسورية أيضاً، وبذلك يتأكد من اندراجها في إطار الآليات التي يريد الأميركيون أن تمنع تراجعهم في الشرق وتعرقل في آن معاً الصعود الإيراني – السوري – العراقي واللبناني المتعلق بحزب الله.
فمن كان يتصوّر أن نيافة الكاردينال يعلق بأنه لا يلتزم بأي أكثريات نيابية أو شعبية، ما يدفع إلى التساؤل التالي عن ضرورة هذه الانتخابات وبناء الأكثريات الشعبية طالما أن بكركي لا تعترف بها، وتكمل مسيرة العلاقات الحاسمة بين طوائف وعلى مستوى مراكزها الدينية الأساسية.
مبادرة الراعي إلى أين؟
تحمي هذه المبادرة بشكل إضافي الطبقة السياسية اللبنانية ومجمل النظام الطائفي.
أولاً تحاول إبعاد الصراع الداخلي عن الطبقة السياسية باختراع مادة خلافيّة جديدة لا تفعل إلا إنقاذ مئات السياسيين الذين أفلسوا لبنان ورهنوا بمئات مليارات الدولارات.
فاليوم يبدو القسم الأكبر من المتورطين بالفساد زاحفين إلى مقر الكاردينال الصيفي في الديمان لإعلان ولائهم له ولمبادرته في مرحلة كان يعتقد المحللون أنها مرحلة استعادة الأموال المنهوبة ومحاسبة النظام السياسي لإنتاج نظام جديد غير طائفي ويبتعد عن الزبائنيّة.
لكن مبادرة الكاردينال تلعب دوراً كبيراً في حماية النظام السياسي من جهة والعلاقات السياسية التي يجب أن تستند إلى الطائفيّة حصراً.
هل تنجح مبادرة الراعي؟
موازنات القوى الفعلية لا يمكن شطبها بتحريض ديني مستهلك ولا بإشعال تحالفات سقطت في العقدين الماضيين بالانتخابات من جهة والانتصارات على الإرهاب من جهة أخرى، وتماماً كما تراجع النفوذ الأميركي في معظم دول الشرق فإن وضعه في لبنان أسوأ من حالته في العراق وسورية، ففي بلاد الأرز تمكن التيار الوطني الحر بالتحالف مع حزب الله وحركة أمل والأحزاب الوطنية من رعاية سياسة معتدلة تمنع وضع البلاد في خدمة الغرب الفرنسي والأميركي، بما يؤكد أن إنهاء مبادرة الكاردينال لا تتطلب الكثير من الجهد، كما أن الانفتاح على الصين وروسيا والعراق وإيران وسورية، ليست سياسة شرقيّة بل استدارة نحو مصادر بوسعها مساعدة لبنان على الخروج من عملية الخنق الأميركية التي تتم بوسائل مصرفية ومبادرة الراعي في آن معاً.
مقالات متعلقة
- حياد الراعي و14 آذار: دَفن صفير وبشارة مرّتين
- أي انحياز تستهدفه دعوات الحياد؟
- لبنان قويّ بقوّته وحقّه ومقاومته وليس بـ «ضعفه وحياده»
- الحياد ومخاطر الدعوة إليه في لبنان؟
- لا حياد بين الأرض والاحتلال
- «حياديّة» البطريرك و«مدنيّة» المفتي والناس جياع…!
- مَن حفر هذه الحفرة لبكركي؟
- ماذا عن حياد يستثني كيان الاحتلال؟ What About neutrality that excludes the entity of occupation
- الراعي إلى فلسطين: أقدَمَ حيث أحجَمَ صفير!
- الراعي يحيي قداسا للبنانيين الذين فروا الى اسرائيل
- حملة الكترونية ضد البطرك: الاعتذار أو التنحّي
The views expressed in this article are the sole responsibility of the author and do not necessarily reflect those of the Blog!
No comments:
Post a Comment