Pages

Wednesday, 23 September 2020

كلن يعني كلن… ولكن


ناصر قنديل

عندما انطلقت الجموع الغاضبة في 17 تشرين الى الشوارع لم تكن للشعب قيادة يؤمن بمرجعيتها، ويثق بأهليتها، ولم تتح لأحد من المشاركين المنفردين الذين شكلوا الطوفان الشعبي الكبير يومها، أن يشترك لا في صوغ الشعارات ولا في تحديد السقوف السياسية، بل وضعت مجموعة مكوّنة من مصدرين اثنين يدها على التحرك ونالت فرصتها لاكتساب ثقة الجمهور الواسع، عبر ما يسمّى بالتصويت بالأقدام، اي المشاركة اللاحقة والمستدامة بتلبية دعوات التظاهر، وكان شعار «كلن يعني كلن» هو عنوان المعركة التي قررت هذه القيادة خوض شرعيتها على أساسها، اما المصدران لتكوين القيادة فقد تشكلا من المجموعات المنظمة القادرة على تنظيم حشود مؤيديها او ادارة الحشود الوافدة من جهة، والقنوات التلفزيونية التي منحت بثها المباشر للتحرك وصار مراسلوها ومذيعوها رموزاً للتحرك يشتركون عبر أثير قنواتهم في صناعة القيادات وتظهيرها، وفي رسم الخطوات وتحديد وجهتها، وفي الترويج للشعارات ومحاولة تعميمها، ويمكن القول في الحصيلة بعد أقل من عام على التحرك، إن التصويت الشعبي جاء في غير صالح هذه القيادة، وأنهى مهمتها رغم إصرار مجموعاتها على احتكار تسمية فضفاضة الثوب على أصحابها، «الثوار»، وفي ظل جفاف موارد المشاركة الواسعة في التحركات، رغم بقاء الأسباب وتفاقم الأزمات.

في الغالب لعب المال دوراً محورياً في عملية تظهير القيادة وشعاراتها، فبلا المال تتوقف القنوات التلفزيونية عن البث في ظل شح موارد الإعلان، وهي الحامل الأقوى للقيادة، ولولا المال تصاب الجماعات المنظمة بالشلل، والمال ليس مجانياً ومصادره ليست وافرة، ولا مبهمة، فهي في الغالب أيضاً من دول مقتدرة لها سياسات ومشاريع، وهي بالتحديد ثلاث دول إقليمية خليجية هي قطر والإمارات والسعودية تتوزّع تمويل ثلاث قنوات تلفزيونية كبرى رعت الحراك وتولت توحيد الشعارات رغم تباينات دولها، ما يجعل القيادة عند مرجعية أعلى هي المصدر الدولي للقرار والتمويل الذي تتوزّعه ثلاثة مصادر واشنطن وباريس والاتحاد الأوروبي، ولن نحتاج لكثير عناء لنكتشف أن واشنطن كانت من يتولى القيادة، وليس من خارج السياق الكلام الذي صدر عن الأميركيين والفرنسيين بعد انفجار مرفأ بيروت عن التوجّه نحو منظمات المجتمع المدني لتوزيع المساعدات بدلاً من مؤسسات الدولة تلافياً للفساد، الذي تصاعدت فضائحه بسرعة مع تدفق المال والمساعدات على هذه المنظمات، كما ليس خافياً إصرار معاون وزير الخارجية الأميركية ديفيد شينكر في زيارته الأخيرة إلى بيروت على تظهير مكانة هذه الجماعات في سياسة واشنطن، رغم الكلام القاسي الذي سمعوه منه داخل اللقاءات.

الشعار «كان يعني كلن» لم يكن عبثياً، فقد كانت له وظيفتان، الأولى نفي أي شبهة تورط للجماعات المنظمة بالتحالف مع أي من مكوّنات السلطة رداً على تشكيك شعبي واتهامات علنية بتلاقي الجماعات الواقفة وراء قيادة التحرك مع سياسات خارجية تستهدف نصف السلطة بخلفية موقفها من المقاومة، وتدعم بالمقابل نصفها الآخر، فيحقق الشعار كلن يعني كلن النفي المطلوب لهذا الاتهام والتشكيك. أما الوظيفة الثانية فهي شيطنة الفريق الواحد الموجود خارج منظومة الحكم والسلطة، الذي يمثله حزب الله ويرمز للمقاومة، وضمه للاستهداف تمهيداً لجعله العنوان الأول المستهدف تالياً، كما حدث لاحقاً بالفعل، بحيث بقي شعار «كلن يعني كلن» بداية أسير العجز عن توجيه الاتهام للمقاومة كشريك في الفساد فكان الاتهام ناعماً باتهامها بأنها لم تحارب الفساد، وصولاً إلى الاتهام الشديد الخشونة والحصري نحوها في تظاهرة 6-6 تحت شعار تطبيق القرار 1559.

بعد كل هذا سيحقّ لنا أن نستعير الشعار «كان يعني كلن» مرة في ضوء انضمام منظمات المجتمع المدني إلى نظام الفساد والطائفيّة بصورة رسمية مكرّسة، ليصير مدى الشعار أوسع فيطال تحت مظلته هذه المنظمات، ومرة ثانية في ضوء الأزمة الراهنة التي تنوء البلاد تحت ثقلها، وانسداد الباب أمام الحلول ولو المؤقتة، والتقاء كل القوى السياسية المكوّنة للسلطة ومؤسساتها للتبشير بأن الحل بدولة مدنية وبأن النظام الطائفي قد سقط، وليس من باب الصدفة أن تلتقي معها منظمات المجتمع المدني في التبشير ذاته، لنقول أيضاً «كلن يعني كلن» ليس بمضمون ما نسمع منهم من دعوات، بل كلن يعني كلن غير مؤهلين لقيادة البلد نحو الدولة المدنيّة، ذلك أن الطرح يأتي باباً للتلاعب بالمضمون والشكل، وهروباً من مواجهة أزمة جدية يعرفون أن ربط حلها بقيام دولة مدنية على أيديهم أقرب لحلم ليلة صيف.

لا تستقيم الدعوة للدولة المدنية مع الدفاع عن مصالح طائفية، وهذا يشمل الجميع مهما اختلفت مشروعية التبريرات المستوحاة من قلب النظام الطائفي، الذي لا يزال يشكل أرض الصراع وتشكل وصفة الدولة المدنية دعوة تعجيزية متبادلة بين أركانه وليست مشروعاً جدياً ينطوي على التسليم بالخروج من النظام الطائفي. فحصرية حقيبة المال التي يطلبها الثنائي مطلب طائفي، بغض النظر عن مندرجاته كعرف أو كمطلب مشروع للتوازن الطائفي في نظام الطوائف، وتاريخ تولي وزراء الثنائي لحقيبة المال لا يقدّم سجلاً مغايراً لمسار السياسات المالية التي أودت بلبنان الى الأزمة الخانقة بشكلها الراهن تجعل المطلب عنواناً إصلاحياً، ودعوة رئيس الجمهورية والتيار الوطني الحر لإلغاء طائفية الحقائب السيادية لا تجعلهما أكثر مدنية، في ظل احتجاز مراسيم الفائزين في مباريات مجلس الخدمة المدنيّة تحت ذرائع حقوق الطوائف، ولو خالفت نص الدستور بإلغاء طائفية الوظيفة بما دون الفئة الأولى، ومداورة الوزارات بين الطوائف المنطلقة من أن لا نصّ على تخصيص وزارة بطائفة، تدحض صدقيتها إدارة الظهر لنص دستوري واضح على رفض تخصيص وظيفة من وظائف الفئة الأولى بطائفة، والتمسك بهذا التخصيص خلافاً للنص مقابل المطالبة بنص لقبول تبرير تخصيص وزارة حيث لا نصّ يمنعه بمثل أن لا نص يدعو إليه. اما نادي رؤساء الحكومات السابقين الذي تحمل رموزه مسؤولية رئاسة الحكومة لإدارة البلد نحو الهاوية خلال ثلاثة عقود، فلا مصداقية لدعوته لتحرير الحكومة من الحصص بعدما وضع يده عليها كحصة كاملة من خلال احتكار تسمية رئيسها من دون امتلاك الأغلبية النابية، والطعن بالمصداقية مكرّر عندما يكون مبرر نيله «حق» التسمية قد جاء بقوة ميثاقية طائفية يرفض معاملة الغير بمثلها، ولذلك يصير شرعياً ومشروعاً القول «كلن يعني كلن» لا يشكلون قيادة صالحة لأخذنا نحو الدولة المدنية.

كلن يعني كلن، تطال أيضاً هنا منظمات المجتمع المدني والكثير من النخب التي تتحدث بلغة لاطائفية لإدانة من تتهمهم بالطائفيين، ثم تدافع بلغة طائفية عندما يتصل الأمر بجماعتها الطائفية، فكيف تكون جمعية أو يكون مثقف من الطراز المدني، ويصرّحون بالتمجيد لمرجعية طائفية، خصوصاً في اطلاق مواقف تنضح بالشحن والتحريض الطائفيين، وكيف يكون لاطائفياً ومدنياً من يصف طائفة بالسوء ويتحدث عن أمجاد طائفة أخرى بالمقابل، وبماذا يختلف هذا العقل عن العقل الميليشياوي الذي هتف لطائفته او يحمل شعارَ اعرف عدوك لتوصيف طوائف اخرى؟

لكن، وهنا نقول لكن، لنفتح قوسين على معادلتين، الأولى أن لبنان بقواه السياسية ونخبه يحتاج للكثير كي ينضج للانتقال نحو الدولة المدنية عاجز بالقوة ذاتها عن المضي في ظل النظام الطائفي الى غير الهاوية، لذلك فالمطلوب هو عدم التذاكي بطرح تعجيزي للدولة المدنية والذهاب لتطبيق الدستور الذي تفوّق على التذاكي الطائفي في رسم المخارج الواقعية والتدريجية، خصوصاً المادتين 22 و95، بإقرار قانون انتخاب خارج القيد الطائفي وتشكيل مجلس للشيوخ، والإسراع بتشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية


فضيحة منظمات المجتمع المدنيّ

عندما تتخطى منظمات نخبويّة تهتم لشؤون بعينها وتتخصص بتقديم الخدمات ورفع الصوت بشأنها، حدود مهمتها واختصاصها وتتقدم لتصير مشروعاً سياسياً متكاملاً، يصير السؤال مشروعاً عن السبب، خصوصاً ان ذلك يحصل تحت شعار شيطنة السياسة وأهلها والتقدم كبديل مموّه عنها، ويصير الحاصل الأول لذلك هو تغييب القضايا المحورية في حياة الشعوب وصراعاتها عن الواجهة، وغالباً تحميل هذه القضايا واهلها مسؤولية الأزمات تحت شعار «تركونا نعيش»؛ فيصير الاحتلال والعدوان وانتهاك السيادة الوطنية أموراً ثانوية، وتصير المقاومة عبثاً يخرّب طريقة العيش.

نظرياً منظمات المجتمع المدني هي مؤسسات لا تبغي الربح يريد أصحابها بعيداً عن التورط في السياسة الاهتمام بقضايا مثل السجون والمخدرات والبيئة والفساد والحريات الإعلامية، تقف على مسافة واحدة من السياسيين بقياس القضية التي تشكل عنوان تحركها، ولكنها عملياً وفي زمن التحوّلات التي أصابت السياسات الغربية وتسببت بفشل مشاريعها صارت صيداً ثميناً وضالة منشودة لتحقيق هذه السياسات، فأغدقت عليها أموالاً غير خاضعة لرقابة الدول والمجتمعات، وأنيطت بها مهام تتخطى أحجامها وأدوارها، خصوصاً ان الغرب لا يمانع ان تتولى الإدارة السياسية في بلاد المستعمرات والمحميات نخب تقول إنها لا تتدخل في السياسة وتهتم لشؤون العيش، وترى في تدفق مساعدات الغرب سبباً للحياة ولو كان ذلك باسترهان البلد وثرواته.

خلال عقود مضت صعدت هذه المنظمات الى الواجهة في الكثير من بلدان العالم وليس الحال في البلاد العربية أولى التجارب. ولنتذكر ان ما سمي بالربيع العربي كان نتاج ادارة غربية بواسطة هذه المنظمات، التي قال الأميركيون إن تسميتها تغيرت وصارت تسمّى بالفاعلين غير الحكوميين، لكنهم قالوا في هذا السياق إن ثلاثة اطراف تتصدر قائمة هؤلاء الفاعلين غير الحكوميين، المقاومة وتنظيم القاعدة ومشتقاته، والفضائيات العربية الليبرالية وفي مقدمتها كانت قناة الجزيرة يومها، وإن المشروع الأميركي يستهدف تنشيط بعضها لإلغاء بعضها الآخر. والمطلوب إلغاؤه طبعاً هو المقاومة. أما المنظمات التي نعرفها فهي كومبارس الصف الخلفي في هذه العملية، لذلك في الربيع العربي ظهرت القاعدة وريثاً شرعياً لما بدأه ناشطو المنظمات المدنية، وواكبته قناة الجزيرة ومن بعدها قناة العربية، وليبيا وسورية مثال حيّ.

الفساد المالي مرادف دائم لحال هذه المنظمات التي جرّبها الغرب في مرحلة داخل كل من فلسطين والعراق لإفساد نخب الشعبين. فصارت ظاهرة ومصدر اتهام شعبي للمنضوين في صفوفها، ومن ثم تمّ اختبارها في تونس والجزائر والسودان واليمن، تحت شعارات سقوط القضايا الكبرى و«بدنا نعيش»، وفي لبنان لهذه المنظمات سيرة من السرقات والفساد وروائحه الكريهة مع المساعدات الخاصة بالنازحين السوريين، وفي سورية درّة تاج هذه المنظمات «الخوذ البيضاء» ذات التاريخ الملازم للتلاعب بقضية السلاح الكيميائي كما فضحتها التقارير الدبلوماسية والمخابراتية الروسية وبعض الصحف الغربية الوازنة. والمتتبع للجوائز العالمية في مجالات مختلفة سيكتشف «المعلم» الذي يصنع نجومية الرموز التي يعدها للأدوار المقبلة.

منظمات المجتمع المدني فضيحة متنقلة ما عدا قلة قليلة منها تواكب قضايا شعوبها بصدق، لكن صوتها في العالم لا يسمع كحال المنظمات الحقوقية في البحرين.



ناصر قنديل

عندما انطلقت الجموع الغاضبة في 17 تشرين الى الشوارع لم تكن للشعب قيادة يؤمن بمرجعيتها، ويثق بأهليتها، ولم تتح لأحد من المشاركين المنفردين الذين شكلوا الطوفان الشعبي الكبير يومها، أن يشترك لا في صوغ الشعارات ولا في تحديد السقوف السياسية، بل وضعت مجموعة مكوّنة من مصدرين اثنين يدها على التحرك ونالت فرصتها لاكتساب ثقة الجمهور الواسع، عبر ما يسمّى بالتصويت بالأقدام، اي المشاركة اللاحقة والمستدامة بتلبية دعوات التظاهر، وكان شعار «كلن يعني كلن» هو عنوان المعركة التي قررت هذه القيادة خوض شرعيتها على أساسها، اما المصدران لتكوين القيادة فقد تشكلا من المجموعات المنظمة القادرة على تنظيم حشود مؤيديها او ادارة الحشود الوافدة من جهة، والقنوات التلفزيونية التي منحت بثها المباشر للتحرك وصار مراسلوها ومذيعوها رموزاً للتحرك يشتركون عبر أثير قنواتهم في صناعة القيادات وتظهيرها، وفي رسم الخطوات وتحديد وجهتها، وفي الترويج للشعارات ومحاولة تعميمها، ويمكن القول في الحصيلة بعد أقل من عام على التحرك، إن التصويت الشعبي جاء في غير صالح هذه القيادة، وأنهى مهمتها رغم إصرار مجموعاتها على احتكار تسمية فضفاضة الثوب على أصحابها، «الثوار»، وفي ظل جفاف موارد المشاركة الواسعة في التحركات، رغم بقاء الأسباب وتفاقم الأزمات.

في الغالب لعب المال دوراً محورياً في عملية تظهير القيادة وشعاراتها، فبلا المال تتوقف القنوات التلفزيونية عن البث في ظل شح موارد الإعلان، وهي الحامل الأقوى للقيادة، ولولا المال تصاب الجماعات المنظمة بالشلل، والمال ليس مجانياً ومصادره ليست وافرة، ولا مبهمة، فهي في الغالب أيضاً من دول مقتدرة لها سياسات ومشاريع، وهي بالتحديد ثلاث دول إقليمية خليجية هي قطر والإمارات والسعودية تتوزّع تمويل ثلاث قنوات تلفزيونية كبرى رعت الحراك وتولت توحيد الشعارات رغم تباينات دولها، ما يجعل القيادة عند مرجعية أعلى هي المصدر الدولي للقرار والتمويل الذي تتوزّعه ثلاثة مصادر واشنطن وباريس والاتحاد الأوروبي، ولن نحتاج لكثير عناء لنكتشف أن واشنطن كانت من يتولى القيادة، وليس من خارج السياق الكلام الذي صدر عن الأميركيين والفرنسيين بعد انفجار مرفأ بيروت عن التوجّه نحو منظمات المجتمع المدني لتوزيع المساعدات بدلاً من مؤسسات الدولة تلافياً للفساد، الذي تصاعدت فضائحه بسرعة مع تدفق المال والمساعدات على هذه المنظمات، كما ليس خافياً إصرار معاون وزير الخارجية الأميركية ديفيد شينكر في زيارته الأخيرة إلى بيروت على تظهير مكانة هذه الجماعات في سياسة واشنطن، رغم الكلام القاسي الذي سمعوه منه داخل اللقاءات.

الشعار «كان يعني كلن» لم يكن عبثياً، فقد كانت له وظيفتان، الأولى نفي أي شبهة تورط للجماعات المنظمة بالتحالف مع أي من مكوّنات السلطة رداً على تشكيك شعبي واتهامات علنية بتلاقي الجماعات الواقفة وراء قيادة التحرك مع سياسات خارجية تستهدف نصف السلطة بخلفية موقفها من المقاومة، وتدعم بالمقابل نصفها الآخر، فيحقق الشعار كلن يعني كلن النفي المطلوب لهذا الاتهام والتشكيك. أما الوظيفة الثانية فهي شيطنة الفريق الواحد الموجود خارج منظومة الحكم والسلطة، الذي يمثله حزب الله ويرمز للمقاومة، وضمه للاستهداف تمهيداً لجعله العنوان الأول المستهدف تالياً، كما حدث لاحقاً بالفعل، بحيث بقي شعار «كلن يعني كلن» بداية أسير العجز عن توجيه الاتهام للمقاومة كشريك في الفساد فكان الاتهام ناعماً باتهامها بأنها لم تحارب الفساد، وصولاً إلى الاتهام الشديد الخشونة والحصري نحوها في تظاهرة 6-6 تحت شعار تطبيق القرار 1559.

بعد كل هذا سيحقّ لنا أن نستعير الشعار «كان يعني كلن» مرة في ضوء انضمام منظمات المجتمع المدني إلى نظام الفساد والطائفيّة بصورة رسمية مكرّسة، ليصير مدى الشعار أوسع فيطال تحت مظلته هذه المنظمات، ومرة ثانية في ضوء الأزمة الراهنة التي تنوء البلاد تحت ثقلها، وانسداد الباب أمام الحلول ولو المؤقتة، والتقاء كل القوى السياسية المكوّنة للسلطة ومؤسساتها للتبشير بأن الحل بدولة مدنية وبأن النظام الطائفي قد سقط، وليس من باب الصدفة أن تلتقي معها منظمات المجتمع المدني في التبشير ذاته، لنقول أيضاً «كلن يعني كلن» ليس بمضمون ما نسمع منهم من دعوات، بل كلن يعني كلن غير مؤهلين لقيادة البلد نحو الدولة المدنيّة، ذلك أن الطرح يأتي باباً للتلاعب بالمضمون والشكل، وهروباً من مواجهة أزمة جدية يعرفون أن ربط حلها بقيام دولة مدنية على أيديهم أقرب لحلم ليلة صيف.

لا تستقيم الدعوة للدولة المدنية مع الدفاع عن مصالح طائفية، وهذا يشمل الجميع مهما اختلفت مشروعية التبريرات المستوحاة من قلب النظام الطائفي، الذي لا يزال يشكل أرض الصراع وتشكل وصفة الدولة المدنية دعوة تعجيزية متبادلة بين أركانه وليست مشروعاً جدياً ينطوي على التسليم بالخروج من النظام الطائفي. فحصرية حقيبة المال التي يطلبها الثنائي مطلب طائفي، بغض النظر عن مندرجاته كعرف أو كمطلب مشروع للتوازن الطائفي في نظام الطوائف، وتاريخ تولي وزراء الثنائي لحقيبة المال لا يقدّم سجلاً مغايراً لمسار السياسات المالية التي أودت بلبنان الى الأزمة الخانقة بشكلها الراهن تجعل المطلب عنواناً إصلاحياً، ودعوة رئيس الجمهورية والتيار الوطني الحر لإلغاء طائفية الحقائب السيادية لا تجعلهما أكثر مدنية، في ظل احتجاز مراسيم الفائزين في مباريات مجلس الخدمة المدنيّة تحت ذرائع حقوق الطوائف، ولو خالفت نص الدستور بإلغاء طائفية الوظيفة بما دون الفئة الأولى، ومداورة الوزارات بين الطوائف المنطلقة من أن لا نصّ على تخصيص وزارة بطائفة، تدحض صدقيتها إدارة الظهر لنص دستوري واضح على رفض تخصيص وظيفة من وظائف الفئة الأولى بطائفة، والتمسك بهذا التخصيص خلافاً للنص مقابل المطالبة بنص لقبول تبرير تخصيص وزارة حيث لا نصّ يمنعه بمثل أن لا نص يدعو إليه. اما نادي رؤساء الحكومات السابقين الذي تحمل رموزه مسؤولية رئاسة الحكومة لإدارة البلد نحو الهاوية خلال ثلاثة عقود، فلا مصداقية لدعوته لتحرير الحكومة من الحصص بعدما وضع يده عليها كحصة كاملة من خلال احتكار تسمية رئيسها من دون امتلاك الأغلبية النابية، والطعن بالمصداقية مكرّر عندما يكون مبرر نيله «حق» التسمية قد جاء بقوة ميثاقية طائفية يرفض معاملة الغير بمثلها، ولذلك يصير شرعياً ومشروعاً القول «كلن يعني كلن» لا يشكلون قيادة صالحة لأخذنا نحو الدولة المدنية.

كلن يعني كلن، تطال أيضاً هنا منظمات المجتمع المدني والكثير من النخب التي تتحدث بلغة لاطائفية لإدانة من تتهمهم بالطائفيين، ثم تدافع بلغة طائفية عندما يتصل الأمر بجماعتها الطائفية، فكيف تكون جمعية أو يكون مثقف من الطراز المدني، ويصرّحون بالتمجيد لمرجعية طائفية، خصوصاً في اطلاق مواقف تنضح بالشحن والتحريض الطائفيين، وكيف يكون لاطائفياً ومدنياً من يصف طائفة بالسوء ويتحدث عن أمجاد طائفة أخرى بالمقابل، وبماذا يختلف هذا العقل عن العقل الميليشياوي الذي هتف لطائفته او يحمل شعارَ اعرف عدوك لتوصيف طوائف اخرى؟

لكن، وهنا نقول لكن، لنفتح قوسين على معادلتين، الأولى أن لبنان بقواه السياسية ونخبه يحتاج للكثير كي ينضج للانتقال نحو الدولة المدنية عاجز بالقوة ذاتها عن المضي في ظل النظام الطائفي الى غير الهاوية، لذلك فالمطلوب هو عدم التذاكي بطرح تعجيزي للدولة المدنية والذهاب لتطبيق الدستور الذي تفوّق على التذاكي الطائفي في رسم المخارج الواقعية والتدريجية، خصوصاً المادتين 22 و95، بإقرار قانون انتخاب خارج القيد الطائفي وتشكيل مجلس للشيوخ، والإسراع بتشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية


فضيحة منظمات المجتمع المدنيّ

عندما تتخطى منظمات نخبويّة تهتم لشؤون بعينها وتتخصص بتقديم الخدمات ورفع الصوت بشأنها، حدود مهمتها واختصاصها وتتقدم لتصير مشروعاً سياسياً متكاملاً، يصير السؤال مشروعاً عن السبب، خصوصاً ان ذلك يحصل تحت شعار شيطنة السياسة وأهلها والتقدم كبديل مموّه عنها، ويصير الحاصل الأول لذلك هو تغييب القضايا المحورية في حياة الشعوب وصراعاتها عن الواجهة، وغالباً تحميل هذه القضايا واهلها مسؤولية الأزمات تحت شعار «تركونا نعيش»؛ فيصير الاحتلال والعدوان وانتهاك السيادة الوطنية أموراً ثانوية، وتصير المقاومة عبثاً يخرّب طريقة العيش.

نظرياً منظمات المجتمع المدني هي مؤسسات لا تبغي الربح يريد أصحابها بعيداً عن التورط في السياسة الاهتمام بقضايا مثل السجون والمخدرات والبيئة والفساد والحريات الإعلامية، تقف على مسافة واحدة من السياسيين بقياس القضية التي تشكل عنوان تحركها، ولكنها عملياً وفي زمن التحوّلات التي أصابت السياسات الغربية وتسببت بفشل مشاريعها صارت صيداً ثميناً وضالة منشودة لتحقيق هذه السياسات، فأغدقت عليها أموالاً غير خاضعة لرقابة الدول والمجتمعات، وأنيطت بها مهام تتخطى أحجامها وأدوارها، خصوصاً ان الغرب لا يمانع ان تتولى الإدارة السياسية في بلاد المستعمرات والمحميات نخب تقول إنها لا تتدخل في السياسة وتهتم لشؤون العيش، وترى في تدفق مساعدات الغرب سبباً للحياة ولو كان ذلك باسترهان البلد وثرواته.

خلال عقود مضت صعدت هذه المنظمات الى الواجهة في الكثير من بلدان العالم وليس الحال في البلاد العربية أولى التجارب. ولنتذكر ان ما سمي بالربيع العربي كان نتاج ادارة غربية بواسطة هذه المنظمات، التي قال الأميركيون إن تسميتها تغيرت وصارت تسمّى بالفاعلين غير الحكوميين، لكنهم قالوا في هذا السياق إن ثلاثة اطراف تتصدر قائمة هؤلاء الفاعلين غير الحكوميين، المقاومة وتنظيم القاعدة ومشتقاته، والفضائيات العربية الليبرالية وفي مقدمتها كانت قناة الجزيرة يومها، وإن المشروع الأميركي يستهدف تنشيط بعضها لإلغاء بعضها الآخر. والمطلوب إلغاؤه طبعاً هو المقاومة. أما المنظمات التي نعرفها فهي كومبارس الصف الخلفي في هذه العملية، لذلك في الربيع العربي ظهرت القاعدة وريثاً شرعياً لما بدأه ناشطو المنظمات المدنية، وواكبته قناة الجزيرة ومن بعدها قناة العربية، وليبيا وسورية مثال حيّ.

الفساد المالي مرادف دائم لحال هذه المنظمات التي جرّبها الغرب في مرحلة داخل كل من فلسطين والعراق لإفساد نخب الشعبين. فصارت ظاهرة ومصدر اتهام شعبي للمنضوين في صفوفها، ومن ثم تمّ اختبارها في تونس والجزائر والسودان واليمن، تحت شعارات سقوط القضايا الكبرى و«بدنا نعيش»، وفي لبنان لهذه المنظمات سيرة من السرقات والفساد وروائحه الكريهة مع المساعدات الخاصة بالنازحين السوريين، وفي سورية درّة تاج هذه المنظمات «الخوذ البيضاء» ذات التاريخ الملازم للتلاعب بقضية السلاح الكيميائي كما فضحتها التقارير الدبلوماسية والمخابراتية الروسية وبعض الصحف الغربية الوازنة. والمتتبع للجوائز العالمية في مجالات مختلفة سيكتشف «المعلم» الذي يصنع نجومية الرموز التي يعدها للأدوار المقبلة.

منظمات المجتمع المدني فضيحة متنقلة ما عدا قلة قليلة منها تواكب قضايا شعوبها بصدق، لكن صوتها في العالم لا يسمع كحال المنظمات الحقوقية في البحرين.


فيديوات متعلقة

مقالات متوقعة


River to Sea Uprooted Palestinian   
The views expressed in this article are the sole responsibility of the author and do not necessarily reflect those of the Blog!

No comments:

Post a Comment