محمد صادق الحسيني
أولاً: قد يكون أردوغان مصيباً عندما قال إنّ فشل الانقلاب هو عبارة عن نعمة من عند الله في محاكاة بائسة لمقارنة نفسه بسماحة السيد حسن نصرالله، عندما قال في خطاب النصر بعد حرب تموز إنّ ذلك نصر إلهي استراتيجي… .
ولكن أين الثرى من الثريا؟ إذ انّ فشل الانقلاب، الذي كان أردوغان المصاب بلوثة السلطنة، على علم به، في أقلّ الأحوال، ربما كان نعمة على أردوغان فعلاً في لحظة فقدان للتوازن. ولكنه بالتأكيد نقمة على تركيا التي ستشهد فترة طويلة من اللااستقرار السياسي والأمني والاقتصادي والعسكري أيضاً.
ثانياً: أما لماذا يعتبر أردوغان موضوع الانقلاب بحدّ ذاته نعمة إلهية، فظني أنّ تفسير ذلك ليس بحاجة إلى كبير عناء، اذ يكفي أن نستعيد ما صرّح به النائب العام التركي المساعد، السيد نجيب استشيمين لمحطة التلفزيون التركية «هابر تورك» قبل أيام قليلة من حصول «محاولة الانقلاب»، إذ قال إنّ لدى النيابه العامة قوائم كاملة بأسماء أعضاء ما يسمّى بـ «الدولة الموازية» أو «الكيان الموازي»…
ثالثاً: إنّ مَن قام بإعداد هذه القائمة Oktan Bato والتي تضمّنت أسماء الكثيرين من العسكريين الذين كان أردوغان قد اتخذ قراراً بإخراجهم من المشهد قبل انعقاد الاجتماع السنوي للمجلس العسكري الأعلى برئاسة أردوغان، والمقرّر في بداية شهر آب المقبل والتي تمّ الإعلان عنها وهو الموعد الذي كان سيتخذ فيه قرارات الترقيات والإحالة على التقاعد…
لذلك فهو يكون قد دفع وجوه الانقلاب عملياً دفعاً لإجراء الترتيبات بشكل متسرّع وغير متكامل أيّ استدرجهم عملياً الى انقلاب مكشوف ومفضوح في محاولة هؤلاء الجنرالات استباق عملية الإطاحة بهم حتى يمنعوه من تعزيز سيطرته على مؤسسة الجيش، وهو الذي كان يخطط لتسليم المفاصل القيادية المهمة في هذه المؤسسة لضباط من لونه السياسي نفسه والذين كانوا مستثنيين من المناصب العليا في الجيش قبل تمكّن أردوغان من التأثير داخل هياكل المؤسسة العسكرية بادّعاء ضرورة مطابقتها لشروط الدخول في الاتحاد الأوروبي… .
رابعاً: أما الدليل الآخر على أنّ خطط الانقلاب الأردوغاني، الهادف الى تعزيز قبضته على البلاد والعباد، وصولاً الى تغيير نظام الحكم لنظام رئاسي، فيتمثل في حقيقة انّ حملة الاعتقالات الواسعة ضدّ العسكريين ورجال القضاء قد بدأت الساعه الرابعة فجر يوم 16/7/2016، وفي كلّ أنحاء تركيا وليس في المدن الرئيسية فقط، وقبل إعلان أيّ جهة كانت عن فشل الانقلاب، مما يدلّ على انّ ميليشيا أردوغان كانت جاهزة للتنفيذ، ودليلنا على ذلك حالة الاستنفار الشاملة التي كانت معلنة في صفوف هذه الميليشيات لا نسمّيها غير ذلك رغم أنها تابعة شكلياً لوزارة الداخلية ، والأوامر الصادرة من غرف عملياتهم بالمحافظة على أعلى درجات الجهوزية، وذلك قبل أسبوع من بداية «الانقلاب».
خامساً: إنّ النفاق الغربي، ومن خلال التصريحات الداعية الى احترام القانون وعدم العودة الى تطبيق قوانين الإعدام، لا يمكن أخذه على محمل الجدّ وهو لن يقدّم ولا يؤخر في تغيير مواقف أردوغان.
أما ما يجب أخذه بجدية كبيره وتفكير عميق، فهو موقف قادة الجيش التركي الذي تعرّض منتسبوه من ضباط وجنود لإهانات وإذلال لم يسبق لجيش في العالم أن تعرّض لمثلها وأمام عدسات الكاميرا عندما كان «شبّيحة أردوغان» يقومون برمي الجنود أرضاً مكبّلي اليدين ويقومون بدوس خوذاتهم الحربية بالأرجل، رغم أنّ هؤلاء الجنود لم يُطلقوا طلقة واحدة ضدّ المواطنين.
كما أنني لا أعتقد بأنّ قادة الجيش التركي سيكونون سعداء، وبغضّ النظر عن انتماءاتهم السياسية، بصور ضباطهم وقادتهم، الذين كانوا يُساقون من قبل شبّيحة أردوغان المسلحين، وكأنهم تجار مخدرات وليسوا ضباطاً وقادة في ثاني أكبر جيش في حلف شمال الأطلسي…!
فرغم ما يُقال إنّ أفراد «الشرطة» هؤلاء الذين نفذوا عمليات اختطاف وليس اعتقال لهؤلاء العسكريين، رغم ما يُقال عن أنهم من منتسبي وزارة الداخلية، إلا أنّ اعتقال أو توقيف أيّ عسكري ليس من اختصاص الشرطة التابعة لوزارة الداخلية، وإنما يقتصر هذا العمل على الشرطة العسكرية فقط وهو الأمر المتعارف عليه حتى في الدول التي يخضع فيها الجيش للقضاء المدني.
وعليه فإنه لم يتعرّض شرف العسكرية التركية للدوس بالأحذية، كما حصل صباح 16/7/2016 حتى خلال الهزائم التي تعرّض لها هذا الجيش إبان الحرب العالمية الأولى على يد الحلفاء.
وبالتالي، فإنّ ثمة مَن يعتقد بأنّ هذا «الانقلاب» اذا ما فشل فإنّ الانقلاب المقبل سيكون أدق تخطيطاً وسينجح، ليس فقط لأنّ الجيش سوف يعمل على استعادة شرفه العسكري الذي تمّ دوسه بالأحذية من قبل سوائب ميليشيات أردوغان، وإنما لأنّ الجيش هو القوة الوحيدة في تركيا القادرة على وضع حدّ لجنون أردوغان المسكون بعقدة السلطنة. كما أنّ الجيش، بعقيدته الكمالية، ومهما أضاف إليه أردوغان من أدواته، من ضباط من لونه السياسي، فإنه سيبقى جيشاً مقاوماً لمغامرات أردوغان التي لم تجرّ على تركيا سوى الويلات خلال السنوات الخمس الماضية.
إنّ ما يهمّ الجيش هو الحفاظ على وحدة الدولة التركية وسيادتها على أراضيها، وذلك من خلال التصدّي لمحاولات تفتيتها التي يقوم بها مَن أتى بأردوغان الى السلطة، أيّ الكاوبوي الأميركي.
وفي هذا الصدد علينا النظر بشكل عميق ومتأنٍّ الى خطة الكاوبوي الأميركي الرامية الى إقامة «دولة كردستان الكبرى» في المناطق الكردية في كلّ من تركيا وإيران والعراق وسورية، بهدف تفتيت هذه الدول وتحويلها محميات أميركية كما يحلو له. وقد وجدت هذه الخطط والسياسات القائمة عليها تجلياتها في ما يلي:
1 ـ عقود التسليح التي وقعتها الولايات المتحدة مع مسعود البرازاني، ما يعني بالضروره زيادة الوجود العسكري الأميركي في كردستان العراق، بحجة التدريب وتقديم المشورة… فهل تسمح الولايات المتحدة بأن تقوم ولاية تكساس مثلاً بتوقيع عقود تسليح مع كوبا دون موافقة واشنطن؟
2 ـ التدخل الأميركي السافر في الشأن الداخلي السوري وإرسال كميات كبيرة من السلاح للكرد هناك، إضافة الى مئات العسكريين وجواسيس «سي أي آي» الى داخل الأراضي السورية، مما يشكل خرقاً فاضحاً للقوانين الدولية واعتداء صارخاً على سيادة الدولة السورية على أراضيها…
3 ـ قيام أذناب الولايات المتحدة، آل سعود، بإرسال مجموعات إرهابية الى المناطق الكردية وغيرها في إيران، والذين تمّ تجهيزهم وتمويلهم من خلال قنصلية آل سعود في أربيل، بهدف إثارة الفتن الطائفية خدمة لمشروع التفتيت الأميركي.
وبناء على ما تقدّم فإنّ الخلاصة المنطقية الوحيدة التي يجب أن نخرج بها مما جرى في تركيا خلال الأيام القليلة الماضية إذا ما أريدَ لتركيا أن تقصّر ليلها الطويل هي ما يلي:
أ ـ أن يعود أردوغان الى رشده ويوقف حملة القمع غير المسبوقة في تركيا، ولا حتى إبان فترات حكم الجنرالات في هذا البلد، وأن يبدأ مشروع مصالحة وطنية حقيقية مع الشعب التركي أولاً والذي يشكل الأكراد مكوّناً أساسياً من مكوناته، وان يقوم بعملية كيّ لعقله المسكون بمرض جنون العظمة، وذلك حفاظاً على تركيا واستقرارها لأنّ ذلك من عوامل الاستقرار في الإقليم.
ب ـ أن يعيد تقييمه لسياساته التي ثبت فشلها في سورية وفي الإقليم، بدليل الإطاحة بمنظِّر تلك السياسة، ايّ العثمانية الجديدة. أحمد داود أوغلو وسقوط مشروع أخونة المنطقة بعد سقوط نظام الإخوان في كلّ من مصر وتونس. ذلك السقوط الذي أسّس له صمود الدولة السورية وحلفائها في وجه الحرب العالميه التي تخاض ضدّها.
أيّ عليه أن يصحّح علاقة تركيا مع الدول المحيطة ويبدأ بالتفكير في إيجاد آليات لتعويض الخسائر المادية الفادحة التي سبّبها للشعب السوري…
ج ـ عليه أن يبدأ بالتفكير جدياً بالتوجه شرقاً بإرادة تركية، وليس بتكليف أميركي لخلق الفوضى والاضطرابات، وأعني هنا التوجّه الصادق لإقامة علاقات حسن جوار وتعاون متين مع الجار الروسي واستبدال عضويته في الناتو بعضوية فعّالة في مجموعتي «بريكس» و»شنغهاي»، بخاصة أنّ ما يسمّى المظلة النووية الأميركية التي يوفرها الناتو لتركيا لا تتعدّى كونها أكذوبة كبرى، إذ انّ تركيا ليست معرّضة لأيّ تهديد من قبل أية دولة في العالم غير الولايات المتحدة الاميركية. خاصة أنّ العقيدة العسكرية الروسية عقيدة دفاعية محضة وليست عقيدة هجومية إلا تجاه من يعرّض الأمن القومي الروسي للخطر. مضافاً الى ذلك انّ روسيا ليس لها ايّ أطماع توسعية ولا أطماع في ثروات الآخرين، إذ إنها قائمة على بحار من الثروات.
وختاماً… وبنظرة موضوعية لشخصية أردوغان فإنني لا أعتقد أنه قادر على مداواة أمراضه، وعليه فإنّ فرصة التوصل الى تفاهمات استراتيجية مع جاره الروسي خلال اللقاء المرتقب مع الرئيس بوتين أوائل الشهر المقبل لن تستغلّ كما يجب، بحيث تؤسّس لعلاقة مشتركة تهدف، بالإضافة الى التعاون الثنائي، الى تعزيز الأمن والاستقرار في الإقليم لخلق قاعدة متينة للتعاون الاقتصادي المثمر والمفيد لكلّ دول الإقليم…
فالج لا تعالج.
وعليه فإنّ تجربة الانقلاب ستتكرّر ثانية قبل نهاية هذا العام، أو في العام المقبل على أبعد تقدير، لأنّ في تركيا رجالاً يفضلون مصلحة الوطن على مصالح جيوبهم وأنسبائهم بن علي يلدرم نسيبه وكذلك وزير الطاقة ، لكنه سيكون مختلفاً عن الذي حدث قبل أيام لأنه سينفذ بطريقة مختلفة وسينجح سواء بدعم خارجي أو بدونه، أياً كان رأينا بانتهاء عصر الانقلابات أو معارضتها للديمقراطية…!
وفوق كلّ ذي علم عليم.
The views expressed in this article are the sole responsibility of the author and do not necessarily reflect those of the Blog!
No comments:
Post a Comment