مارس 19, 2019
ناصر قنديل
– تشكل الحصانات طبقيّة فاضحة ومثيرة للاشمئزاز في أي بلد ديمقراطي يقوم على التساوي بين المواطنين أمام القانون، وتُمنح الحصانات في الديمقراطيات استثنائياً لحدود ضيقة، تتصل بضمان ممارسة النواب لمساءلة الحكومة دون القلق من التعرّض لضغوط تكوين ملفات مفبركة لسوقهم امام القضاء، أما الوزراء فلا يتمتّعون ربما في غير لبنان بالحصانة التي يمكنهم تجييرها لموظفيهم بمنع الملاحقة عنهم، ومنع مثولهم أمام القضاء وهو تدبير استثنائي عرفته بعض الديمقراطيّات خشية سيطرة الأمن على السياسة بتطويع الإدارات عبر استدعاء موظفيها للمثول امام الضابطة العدلية لتجنيدهم لحساب اجهزة المخابرات والتحكم عبرهم برؤسائهم والتجسس عليهم، أما الرؤساء فقد حصرت حصانتهم بحالات محاكمتهم بتهم الخيانة العظمى التي لا يجوز السير بها إلا امام هيئة خاصة تملك الأهلية والصفة للقيام بذلك، لكن في كل الديمقراطيات، لا تقف أي حصانة بوجه الملاحقة الخاصة بالجرائم المالية وتهم الفساد، وها هو رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو وسلفه إيهود أولمرت يواجهان تهماً ويتعرّضان لملاحقات ويُسجَن أحدهما بينما يستعدّ الآخر للسجن، وها هو الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولاي ساركوزي يلاحق وقبله الرئيس جاك شيراك، وها هي كوريا الجنوبية وماليزيا والفليبين وباكستان، حيث وزراء ورؤساء حكومات يقبعون في السجون بتهم وملاحقات بالفساد ومحاكمات أمام القضاء العادي.
– في لبنان الحصانة ليست موجودة إلا لمنع القضاء من الملاحقة بالفساد، فقد ولّى زمن القلق من ضغوط الحكومات على النواب، ومن زمن ضغط أجهزة الأمن على الموظفين الكبار في الدولة، وباتت الحصانات مجرد حماية من الملاحقة بجرائم ترتكب بحق المال العام للدولة، وبذلك يصير الخيار الوحيد المتاح لتلاقي حملة مكافحة الفساد نتائجها، هو إلغاء الحصانات وفي مقدمتها الحصانة النيابية وحق الوزراء بحجب موظفيهم عن المثول أمام القضاء، وحصر محاكمة الوزراء والرؤساء بالمجلس الأعلى الذي وضعت تشريعاته بطريقة تمنعه من محاكمة أحد، حيث الشروط المعقدة للاتهام والإدانة، وكي لا يقال إن المطلوب تعرية الذين يمارسون المسؤولية العامة من أي مهابة وجعلهم عرضة من خصومهم لما يسمّى «الجرجرة « إلى المحاكم، والتي يعتبرها بعض السياسيين تقليلاً من قيمتهم، يجب كحد أدنى جعل اللجوء للحصانة استثنائياً محدداً بشروط معقدة وليس العكس، بحيث يتمّ منحها في حالات بعينها، بعد النظر فيها، واعتبار الإباحة في الملاحقة هي الأصل وحجب الملاحقة هو الاستثناء، فبدلاً من أن يحتاج رفع الحصانة إلى تصويت مجلس النواب، وجب العكس، أن يمنح النائب الحق في طلب الحصانة بوجه ملاحقة قضائية باللجوء إلى المجلس النيابي بطلب التصويت على ذلك مرفقاً بالأسباب الموجبة التي تكشف الطبيعة السياسية التي تستهدف ممارسته لمهامه النيابية الرقابية وسواها وتعطيله عن القيام بواجباته النيابية، ومثلها تقييد المحاكمة امام المجلس الأعلى بطلب المتهم رئيساً أو وزيراً بنقل قضيته من القضاء المختص إلى المجلس الأعلى لوقوعها ضمن اختصاصه، فيبتّ المجلس الأعلى بالاختصاص، وفيما عدا ذلك يكون القضاء المختص طليق اليدين قادرا دون إذن على استدعاء أي مسؤول للمثول أمامه، والاستماع إليه كما في كل بلاد الدنيا، وملاحقته عند الضرورة، باستثناء الحالات التي يقرر مجلس النواب منح الحصانة لأحد النواب أو يقرر المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء اعتبار القضية من اختصاصه، وحجب يد القضاء عنها.
– أما فضيحة الفضائح فهي اشتراط السماح للقضاء باستدعاء موظف في الدولة بالحصول على موافقة وإذن الوزير المختص، وهذه قمة الهرطقة القانونية والتعطيل للمسارات القضائية، وقد أتحفنا وزير الاتصالات بنظرية عبقرية قوامها أن موظفي ومدراء المؤسسات التي تدر أموالاً للخزينة لا تجب ملاحقتهم لأن ذلك بداعي الحسد، فالريجي والجمارك والاتصالات والنفط، مؤسسات يحصل موظفوها على الحصانة تلقائياً بالولادة، أما الكهرباء مثلا فيجب إقامة فرع تحقيق مقيم فيها لأنها تتسبّب باستنزاف الخزينة، ودائرة الدين العام مثلاً، كذلك، وكل مجال للإنفاق لا لجني الواردات، وكأن عمل الموظفين هو الذي يحول قطاع الاتصالات أو الريجي او الجمارك أو دائرة الضريبة أو الداوئر العقارية من مصادر خسارة للمال إلى مزاريب للواردات، وكذلك عمل الموظفين يحول دائرة الدين العام ووزارة الصحة من مجالات للإنفاق إلى مصادر للدخل، والقضية ببساطة أن مغارة علي بابا الاتصالات ممنوع دق أبوابها، لأن فيها أسرار الآتي وليس ما مضى فقط، وهي التي قال عنها رئيس مجلس النواب ذات يوم أنها نفط لبنان، وهو نفط يراد نقله إلى جعله ملكية خاصة، وكي يكتمل ما يعدّه ويحضره الموظفون يجب منحهم الثقة بأن ما يقومون به لن يعرّضهم للملاحقة وأنهم يحظون بالحصانة من أي ملاحقة.
– ارفعوا الحصانات أو أوقفوا حملات مكافحة الفساد، فالضحايا سيكونون الصغار والضعاف، ولن يعلق في الشباك إلا سمك السردين، أما الحيتان وسمك القرش فلديهم أسنان تطحن الصنارة وتفتك بالشباك وتخرج حرة طالما نظام الحصانات يشتغل.
Related Articles
- بعبدا: الحرب على الفساد مستمرّة ولا حصانات لأحد وعلى الجميع المثول أمام القضاء
- لبنان عند الأميركيّين والأوروبيّين «خطأ تاريخيّ»!!
- الحريري ـ باسيل: اشتباك ملفات لا اشتباك حكومة
- فضيحة الفساد القضائي: استدعاء قضاة إلى التفتيش
- «الشيوعي»: لمواجهة زيارة بومبيو
River to Sea Uprooted Palestinian
The views expressed in this article are the sole responsibility of the author and do not necessarily reflect those of the Blog!
No comments:
Post a Comment