غياب الدول يبتدئ بمؤشرات وهنٍ تظهر بشكل تدريجي ككل كائن، فتفتك بصاحبها حتى يتولاه التاريخ ويسجنه في صفحاته الصفراء.
هكذا حال الولايات المتحدة الأميركية التي تسطع منذ 1945 وتضع يدها منذ ثلاثة عقود على العالم بأسره بما يحتويه من سياسة واقتصاد وثقافة.
هذه الإمبراطورية تتعرّض اليوم لانتفاضة ضخمة من أقلياتها السوداء التي تشعر بغبن جراء ثقافة عنصريّة تشكل اساس النظام التاريخي الأميركي مع حرمان اقتصادي يجمّدها في أسفل السلم الاجتماعي وتدهور إضافي بسبب جائحة كورونا أوصل العاطلين عن العمل الى 50 مليوناً تقريباً.
لكن هذه الانتفاضة السوداء تتوسّع بأعمال عنف تضرب عشرات الولايات وتتسبب بأضرار مادية مع سقوط قتلى اغتالهم مجهولون لإثارة الهلع في صفوف المتظاهرين، هؤلاء يتّجهون الى تصعيد “انتفاضتهم” وتزويدها بشحنات سياسية قوية عنوانها ما فعلوه بحصار البيت الابيض الأميركي مقر الرؤساء، ومنهم بالطبع الحالي دونالد ترامب الذي يبدو مذعوراً يهدّد المتظاهرين بالكلاب والجيش.
هناك عنصر ثانٍ يدعم انتفاضة الأقليات السوداء وهم ذوو الأصول اللاتينية الذين بدأوا ينخرطون في الحركات الاحتجاجيّة الى جانب كتل وازنة من الأميركيين البيض يسجلون بدورهم استياءهم من سياسات ترامب التي يصفونها بالحمقاء المدمّرة للدولة.
إن انهيار الإمبراطوريات يحتاج عادة لتضافر عوامل داخلية وخارجية. وهذا ما يجري تماماً على الصعيد الأميركي.
خارجياً تتعرّض القطبية الأحادية الأميركية لمنافسة بنيوية عميقة مع نظام اقتصادي صيني نجح في مدة بسيطة من التهام قسم هام من اسواق العالم بوسائل جاذبة قامت على رخص سعر السلعة وجودتها مع الاستفادة من نظام العولمة الذي فتح الحدود السياسية للدول امام التبادلات التجارية.
كان المعتقد أن العولمة سلاح أميركي للمزيد من هيمنة الاقتصاد الأميركي على العالم، وبالفعل هذا ما حدث إنما بمشاركة صينية يابانية وألمانية أدّت الى تراجع الاقتصاد الأميركي نسبياً.
الملاحظ هنا أن هناك تزامناً بين الخارج والداخل في دفع الهيمنة على الأسواق، هذا ما يصيب ترامب بالجنون، فيبدأ بتحميل الصين وزر الكورونا والسطو على الاختراعات الأميركية والاعتداء على هونغ كونغ ودعم كوريا الشمالية ومحاولات التحرش ببوارج أميركية في بحر الصين الجنوبي، لكن ما يطالب به برامب يفضح ما يريده وهو وقف تدفق السلع الصينية الى أسواق بلاده أولاً وتحالفاتها ثانياً. وهذا يعني تسديد ضربة قاتلة للاقتصاد الصيني.
قد يعتقد البعض ان القوة النووية الأميركية كافية لإرهاب الصين، لكن الكرة الأرضية لا تحتاج الى آلاف الاسلحة النووية الأميركية لتدميرها، لربما فإن ما تملكه الصين من أعداد قليلة منها أكثر من كافية لإثارة الذعر الأميركي والابتعاد عن اللجوء إليه.
كذلك فإن الروس عادوا الى التمدد الاستراتيجي في دول تشكل بالنسبة إليهم رؤوس جسور لعودتهم الى فضاءاتهم السوفياتية السابقة.
أما الضربة الثالثة فهي كورونا التي شلت الاقتصاد الأميركي بحركتيه الداخلية والخارجية، وأنتجت حتى الآن خمسين مليون عاطل عن العمل من أبناء الطبقات الفقيرة والوسطى، ولولا المساعدات الاجتماعيّة الحكوميّة لانفجر الوضع منذ أكثر من شهر.
هناك اذاً ظروف خارجية وأخرى تتعلّق بجائحة كورونا تضع الدولة الأميركيّة في وضع صعب.
لقد استلزم الأمر “قشة” صغيرة تقصم ظهر البعير الأميركي. وهذا ما حدث باغتيال مواطن أميركي من ذوي البشرة السمراء خنقه بركبته ضابط شرطة أميركي في ولاية مينيابوليس فهبّت الأقلية السمراء في عشرات الولايات في أكبر انتفاضة شعبية تنفذها الأقلية السمراء بشكل غاضب أحرق مقارّ رسمية وممتلكات خاصة في تظاهرات لم تتوقف حتى الآن وتذهب نحو مزيد من التصعيد؛ يكفي ان الشرطة الأميركية اعتقلت حتى الآن 1400 أميركي أسمر البشرة في سبع عشرة ولاية ولم تتمكن من تفريق متظاهرين يطوقون البيت الأبيض الرئاسي محاولين اقتحامه.
المشكلة هنا، تتمحور في أن ترامب يريد من حكام الولايات إنزال الحرس الوطني لقمع التظاهرات. وهذا من صلاحيات مناطقهم الفدراليّة، وذلك كي يهرب من اللجوء الى صلاحياته الرئاسية باستخدام الجيش، لأن ما يفكر فيه هو الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني المقبل.
وقد يذهب لتأجيج الصراع بين أبناء الطبقات الفقيرة والمتوسطة البيضاء ومع الاقلية السمراء وذلك لكسب أصوات فقراء أميركا المحسوبين تاريخياً مع الحزب الديمقراطي المنافس.
بذلك ينجح ترامب بأصوات بيضاء صافية من أغنياء أميركا في حزبهم الجمهوري والفقراء من البيض الذين يوهمهم ترامب ان الأقليّة السمراء تحاول التهام ما يتمتعون به من امتيازات.
إن هذا النمط من التعامل هو أسلوب اتسم به الرئيس ترامب من طريق تحريض البيض من كل التنوّعات الاقتصادية على السود والمسلمين واللاتينيين ذوي الأصول الصينية والمكسيكية، حتى أنه هو أكثر من حرّض على الدين الإسلامي لكسب أصوات اليهود الأميركيين مُهدياً ما تبقى من فلسطين المحتلة للإسرائيليين المحتلين.
هذه العوامل مجتمعة، تجب إضافتها الى اهتزاز الهيمنة الأميركية في مشروعها الفاشل في الشرق الأوسط.
فبعد فشله في سورية والعراق وغزة واليمن، وإيران وعودة منظمة طالبان الى الحرب على حلفاء الأميركيين في موقفه من الاتفاق النووي مع إيران وانسحابهم من منظمة الصحة الدولية، وبيعهم الضفة الغربية لكيان المحتل، وخروجهم من اتفاق الأجواء المفتوحة، هذا الخروج الذي يضع العالم على كف عفريت اسمه ترامب.
كل هذه العناصر المجتمعة في آن واحد تكشف ان انتفاضة الأقليات الأميركية السمراء او اللاتينية مع تأييد قسم وافر من البيض الأميركيين، هي مقدمة تراجع بنيوي تدخل فيها الامبراطورية الأميركية إنما بشكل تدريجي، لأن قوتها الاقتصادية لا تزال قوية وأولى بين اقتصادات الدول وتتمتع بقدرات عسكرية هائلة توازي إمكانات روسيا.
لذلك فإن تعميق التحالف الصيني – الروسي واستمرار انتفاضة الأقليات الأميركية، هي عناصر دفع الهيمنة الأميركية الى تدهور سريع على أساس سيادة قطبية جديدة وإعادة العمل بالقانون الدولي كمرجع للخلافات الدولية، وتسديد ضربة للنظام العنصري الأميركي خصوصاً والغربي عموماً، قد لا تكفيه، لكنها تمنعه من ممارساته الوحشية وتؤسس لتدريس وبناء نظام ثقافي عالمي جديد لا يميز بين البشر على أساس ألوانهم ومستوى ثرواتهم.
River to Sea Uprooted Palestinian
The views expressed in this article are the sole responsibility of the author and do not necessarily reflect those of the Blog!
No comments:
Post a Comment