Wednesday, 29 July 2015
"الوطن لمن يحميه ويدافع عنه وليس لمن يحمل جواز سفره"
بقلم نارام سرجون
قد يكون أحدنا قد قرأ منذ بداية الحرب على سورية كمّا من الكتابات تفوق ماقرأه الجاحظ من كتب في مكتبته التي انهارت عليه فقتلته محتوياتها من الكتب التي اختنق تحت ثقلها وقد سحقت أضلاع صدره ..
لأن معظمنا سيكون الآن قد قرأ مالم يقرأه في حياته كلها ومالن يقرأه في كل ماهو في العمر الباقي ولو طال .. وصار واحدنا جاحظا بعينيه من كثرة ماأدهشته الأحداث وتقلبات المتقلبين والمنافقين والكذابين ورحيل الراحلين .. ولكنه صار "جاحظا" بالأزمة السورية أي خبيرا بها كما كان الجاحظ خبيرا بشؤون عصره من كثرة ماقرأ .. ولو أن ماقرأه أحدنا صار ورقا سقط عليه لمات كما مات الجاحظ تحت أطنان الورق ..
وقد يكون أحدنا سمع منذ بداية المؤامرة آلاف الحوارات وسمع لمئات المحللين حتى صار ماء رأسه ثقيلا يشبه الماء الثقيل الذي يشغل المفاعلات الذرية .. وقد يكون مارآه من قصص وحكايات يكفي شهرزاد لتحكي مليار ليلة وليلة وربما حتى ينتهي الزمان .. ولكن استطيع ان اقول بأنني يمكنني الآن الاستغناء عن كل ماقرأت وماسأقرأ .. وكل ماسمعت وماسأسمع .. وكل مارأيت وماسأرى .. ويمكنني الآن ان أستغني عن مكتبة الجاحظ وأثقال الكتب التي قتلته .. وأن أكون في مأمن من الموت تحت مكتبتي .. لأن ماسمعت بعد خطاب الرئيس الأسد وماقرأت من آراء الخصوم والاعداء يجعلني ادرك أين هي الورطة السورية ..
وانا في الحقيقة لم أكن ادرك حجم الورطة السورية حتى انتهيت من سماع الرئيس بشار الأسد في خطابه الأخير .. فالرئيس الأسد - سامحه الله - وضعني في ورطة حقيقية وفي شك من عيني وأذني .. لأنني كدت أحس أنه يجب علي أن أعرض نفسي على فريق طبي بعدة اختصاصات .. لفحص عيني وأذني وقلبي وذاكرتي .. فربما تعرضت الى غارة من آخر العمر .. أو طعنة من آخر العمر أصابت أول العمر .. أو خيانة من "خيانات الجسد" ..
فبعد سماعي للخطاب الذي كان بمثابة "البيان والتبيين" من شدة وضوحه تجولت على منصات الأعداء والخصوم .. بكل الوانهم وتصنيفاتهم ولغاتهم .. الغربيين والعرب .. الاسلاميين والليبراليين .. الدواعش في قلوبهم والدواعش في سلوكهم .. ولكن بدا أن الجميع يتحدثون عن خطاب آخر ليس له وجود على الاطلاق ولاينتمي الى عالم الوجود بالرغم من أن الخطاب الرئاسي يمكن بكل ثقة ان يعتبر بمثابة الخطاب "الأشد وضوحا" .. فالرئيس الأسد يتحدث دوما بمنتهى الصراحة والشفافية ولايناور بالكلام ولايكثر من كلمات ربما أو من المحتمل أو من الجائز .. حتى أنني أحيانا أضع يدي على قلبي من فرط صراحته .. صراحة بلغت به حدا أن حثنا يوما على أن نشجع المنشقين على الانشقاق بدل ابقائهم بيننا أو حبسهم كخونة .. لكن هذا الخطاب اتسم بأنه خطاب مكتوب على لوح من زجاج يراه كل من يتأمل فيه من كل الزوايا من كثرة شفافيته ..
الأسد تحدث في "البيان والتبيين" عن سورية "الواحدة الموحدة" دون مواربة .. وقال أجمل ماسمعت من تعبير في حياتي بأن "حصة كل سوري من سورية هي سورية كلها" .. وبأن "الوطن لمن يحميه ويدافع عنه وليس لمن يحمل جواز سفره" .. وتحدث عن الجيش القوي المقتدر على ادارة الصراع بارتياح ولكنه تحدث عن مجمل الحرب حيث يغيّر الجيش بحيوية استراتيجيته ومواقعه حسب متطلبات المعركة والميدان والعدو .. وان مايقال عن ضعف الموارد البشرية هراء لأن مايحدث من تراخي بعض الشرائح المحدودة بالالتحاق هو وضع طبيعي جدا تمر به كل جيوش العالم المتطورة نتيجة الطبيعة البشرية والظروف السكانية المتداخلة .. وأن الولاء للدولة والوطن متشابه في قوته ولكن الانخراط في القتال يتفاوت من منطقة لأخرى كما كل تفاوتات الحياة والمناطق .. وبدا الخطاب يهيء الناس للاستعداد لمرحلة النصر والتحرير ..
وتحدث الرئيس في "البيان والتبيين" عن أن ايران ليس لها مشاركة الا بالخبرات العسكرية الا أن حزب الله جبل دمه بدمنا وشارك بأقصى مايستطيع .. وأن لاحلول سياسية تبدو في الأفق لأن من يدير الدمى في المعارضة لم يأذن لها بعد بالتجاوب مع اي مبادرة تعرضها الدولة أو تقبل بها ..
ولكن عندما مررت على منصات المعارضة في تركيا والسعودية والخليج المحتل والمنصات الأوروبية اعتقدت أنني لم اسمع الخطاب جيدا .. أو ان بعضه قد فاتني أو غاب عني أو انني سهوت عنه بل بدا الخطاب حسب تلك المنصات نصا جديدا ممسوخا وينسخ كل ماسمعته أذناي .. فأعدت سماع الخطاب وقد جزعت أن أكون قد وصلت الى أرذل العمر حيث أصابني وهن الذاكرة وقلة التركيز وبعض الخرف ففقدت بعضا من وظائف دماغي .. ولكني لم أجد شيئا مما قالته تلك المنصات التي جعلتني أشكك بما اسمع .. حيث كان حالي يشبه حال من سمع عزفا سيمفونيا أو كونشيرتو على البيانو و الكمان فيقدم له الطفيليون والنصابون الذين يدعون أنهم ضالعون في الموسيقا "ربابة" بدوية على أنها كمان تعزف "ضوء القمر" ..
عجبت كيف يتحول خطاب هو البيان والتبيين في وضوحه الى الضلال والتضليل في شروحات فضائيات الغرب وفضائيات العرب والمعارضين .. وكيف يكسر كتاب من زجاج وتقتل البلاغة المولودة في الكلام منذ ساعة وينسب كلام آخر لقيط الى البلاغة وعائلات البيان العريقة ..
فمثلا: كتب برهان غليون بسرعة البرق بأن "الخطاب هو اعلان التقسيم بالتخلي عن الجزء الأكبر من سورية والاحتفاظ بمناطق الموالاة وأن الخطاب تأكيد على التطهير العرقي للبلاد واحلال المرتزقة والأجانب محل السوريين في ملكية البلاد والدولة .. وأن الأسد يرفض الحل السياسي" .. فيما أسهب آخرون بأن "الخطاب قد حمل إقرارا بالهزيمة العسكرية ونقص الموارد البشرية وحمل استسلاما كاملا لسيده الإيراني وحمل طمأنة لمؤيديه بأن التقسيم سيكون حاضرا لينجو بجرائمهم كما حمل تأكيدا على خياره العسكري المدمر حتى النهاية" ..
ووصل الهذيان ببعضهم أنه كتب "عن حدود التقسيم والدويلة العلوية التي حدد معالمها الخطاب .. أما آخر فعصر عقله وقال: "الأسد يقول أنه عجز عن قيادة وحماية سورية ولكنه بقي في صلفه وغروره مهوناً من هزيمته الشروح من المعارضين؟؟
أكتفي بهذا القدر من مكتبة المعارضة الغنية بهذا المنطق الأصم والضرير والذي يشبه قمامة بيروت هذه الايام التي أجزم أنها تحوي خطابات المعارضة السورية وشروحها وتصوراتها وشعاراتها وكتبها وأوراقها ورائحتها .. وفي بعض أكياس القمامة شهادات علمية وثقافية ومؤلفات لمفكرين لاقيمة لها ولاتستحق الا مكانها العميق من أكوام قمامة بيروت التي سأضيف اليها كل ماورد في محطات الخصوم والأعداء في الخليج المحتل من تحليلات خطاب الأسد الاخير وقراءاته ..
الذي لفت نظري هذه المرة أن الجميع من جهابذة المعارضة ومن أصحاب مسرح العرائس لم يقدروا على مواجهة الصراحة في الخطاب وتفنيدها لأن الخصم السياسي الذكي هو الذي يجد في كلام خصمه فرصة لاتفوّت لممارسة مايسمى (المنطق المقارن) لعرض كلامه هو للمقارنة مع خطاب الخصم واظهار جودة مالديه وعبقرية النظرة السياسية التي يحملها للشعب فيحيل كلام خصمه الى كلام غير واقعي وضئيل القيمة الواقعية ..
ويكفي النظر الى هذا الانفعال والعجز حتى عن نقل الخطاب كما هو دون تغيير والرد عليه لفهم الورطة السورية الكبيرة في أن فيها طرفا اسمه المعارضات التي لاترى ولاتسمع ولاتقرأ ولاتحلل ولاتفكر الى درجة صار معها العجز عن التعامل مع بيان صريح وواضح يضطرها الى اختراع خطاب ليس له وجود على الاطلاق وتأليف خطاب مغاير كليا ونسبه الى الخصم ..
المشكلة في الخطاب الذي ألفه المعارضون واخترعوه ونسبوه للاسد أنه خطاب محمل بما تفكر فيه المعارضة وتحلم فيه وتعمل جاهدة كأمل وحيد باق
المعارضة لم تعد تسعى لسورية الواحدة الموحدة لأنه لامكان لها فيها بعد أن أظهرت الثورة عداءها لثلاثة أرباع الشعب بسبب انتمائه المذهبي او المناطقي أو العرقي او السياسي .. فجميع الأقليات المذهبية والدينية عدوة للثورة .. والأكراد أعداء الثورة من اجل اردوغان .. والبعثيون والقوميون والمقاومون والعروبيون والاشتراكيون والاسلاميون الذين يريدون نهج المقاومة .. كلهم أعداء الثورة ولايمكن العيش معهم .. وبالتالي فان بقاء المعارضة يعتمد 100% على فكرة التقسيم الذي سيوجد للمعارضة مكانا تحكمه وقطعا ممزقة من البلاد تتصارع فيها على الحكم والاسلاب والغنائم .. وهي بذلك تشجع عمليات التطهير العرقي لأنها السبيل الوحيد لتفكيك البلاد نفسيا .. بل ان اصرار بعض المعارضين على التبشير بدويلة في الساحل بناء على استنتاجات الخطاب واقتباسات غير موجودة فيه يشي بأن المعارضة تدفع بترويج هذه الفكرة لتتحول الى بذرة جذابة لدى ابناء بعض المناطق لأن المعارضة اكتشفت اكتشافا خطيرا هو أن جميع سكان سورية دون استثناء لايقبلون بالتخلي عن اي جزء أو انفصال اي جزء لكن أكثر مجموعة تصمم على فكرة الالتحام بسورية الواحدة الموحدة هم ابناء الساحل السوري الذين كانت الحرب فرصة لاتقاس بثمن لابداء ميولهم للانفصال وهم موعودون بالنفط والغاز في البحر ولكنهم أبدوا التحاما بالوطن السوري الموحد لايضاهيه التحام وبادلتهم كل سورية هذا الحب والوطنية والاعجاب بالرجولة .. ولذلك تحاول المعارضة بذر تلك البذور بترويج فكرة التقسيم التي تنسبها الى خطاب الأسد عل نسبها الى خطاب الأسد يجهل الأوهام حقيقة ويبعث من في القبور من موتى المشاريع ..
المعارضة غير قادرة على التعامل مع كلمة واحدة بشكل علمي ومنطقي ومسؤول .. وماتقوله المعارضة هو تصاعد بخار افكارها الانفصالية عن نيتها وأحلامها ومهماتها ..
أنا بصراحة لايعنيني كيف تصرفت المعارضة ولاكيف فكرت بعد هذا التفكير المبتذل الرخيص ولاكيف يرد عليها لأن الرد لايكون الا في الميدان .. لكن سأصارحكم بسبب انشغالي بما قالت .. فأنا لاأخفيكم كنت أخشى دوما أن يتقهقر الموت عني ويتراجع قبل أن يقطفني قويا عنيفا معتدا بنفسي وينتهي بي العمر الى أرذل مافيه من ضعف البصر والسمع وانهيار القوى والعزم .. لأنني أريد ان أموت قويا عنيفا لاأبالي بالعمر ولاأمنحه فرصة اذلالي وسلبي مااعطتني اياه الحياة من بأس وكبرياء وتوق لتحدي المستحيل .. ولكني مع هذا أعترف أن خطاب المعارضين المزور واللاواقعي وشطحاتهم في التفسير السياسي لخطاب الأسد قد أصابني بالرعب من أن يكون أرذل مافي العمر قد وصل أو جاء اليّ فعلا دون أن أذهب اليه وأنا في ذروة العنفوان لأشكو ضعف سمعي وبصري ووهن قوتي وأترنح فوق مفاصلي اليابسة حيث لاأسمع ولاأرى ولاأعي .. فلا أفهم مايقال مهما كان بيّنا..
ولكن أصدقكم القول بأني عرفت اليوم أن أرذل مافي العمر ليس الوهن والضعف وتراجع البصر والسمع والبديهة وهزيمة النفس المتوثبة .. بل أن تعيش حتى تسمع خطابا مسموما تصنعه المعارضة السورية .. يضعف الابصار .. ويوهن الأسماع .. ويجعل الموت عذبا في عنفوان الشباب ..
ان أرذل مافي العمر أيها القارئ فعلا هو أن تعيش لتسمع هذه المعارضة وهذه الثورات وهذا النباح من ثوار ومن ملوك للرمل ومن مثقفين مسوخ ليسوا الا رملا للملوك .. بل ان ارذل مافي العمر أيها العربي هو أن لاتعرف ان كان كتاب "الحيوان" للجاحظ قد أسقط فصلا عن "المعارض العربي" الذي لايستحق مكانا آخر يكتب عنه فيه بانصاف .. كما أسقط "البيان والتبيين" سهوا فصلا قادما من خطابات الأسد ونصرالله .. سيضيفه التاريخ شاء من شاء وأبى من أبى ..
The views expressed in this article are the sole responsibility of the author and do not necessarily reflect those of the Blog!
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment