يونيو 30,
2017
انتظرت مصر طويلاً تنفيذ مشروع مارشال أميركي اقتصادي يضعها في خانة الدول المتقدّمة، حسب ما وعدها الأميركيون عشيّة توقيع مصر معاهدة «كامب ديفيد» مع «إسرائيل» في 1979. هذه المعاهدة التي أخرجتها من الصراع العربي «الإسرائيلي»، وأطاحت النظام العربي العام على هامشيّته وزعزعت استقرارها.
مصر اليوم تتّجه إلى كامب ديفيد جديد أخطر من سابقه، ويضعها في خدمة المشروع «الإسرائيلي» السعودي مع وعود بتقديمات اقتصادية تفكّ لها تعثّرها. ومجدّداً، تقع مصر ضحية الوعود الخيالية، ولا تكتفي بوقوعها ضحية مشروع مارشال كامب ديفيد الأولى، فها هي تندفع للسقوط في لعبة كامب ديفيد الثانية، وبعد 38 عاماً على توقيع المعاهدة الأولى التي لم تُفضِ إلّا إلى انهيار مصر ومعها العالم العربي.
اقتصادياً، يقبع خمسون في المئة من المصريين تحت خط الفقر، إلى جانب 25 في المئة من الفقراء.. أمّا الباقون فيتوّزعون بين أقليّة تنهب البلاد وتعينها طبقة وسطى لا تتجاوز 15 في المئة. ينعكس هذا التدهور الاقتصادي على الوضع الاجتماعي السياسي، فيصبح المصريون قابلين للانضواء ضمن أُطر معادية للنظام، كما يعمل قسم منهم في خدمة الأزمات الإقليمية.. فهل يمكن للأدوار الأميركية السعودية «الإسرائيلية» أن تغطي هذا الانهيار؟ أم أنّها ذاهبة مجدّداً للإدمان على مسكّنات لا قدرة لها على علاج فقرها البنيوي؟
تنقسم مصر إلى تيار يؤمن «بمصرنة» مصر ونأيها عن صراعات الإقليم، مقابل عروبة منهكة وأمميّة إخوانية مصابة بالإعياء والإحباط… فشل التيار الأول الذي أسّسه أنور السادات على أساس عزلة مصر،فخسر قيادة العالم العربي من دون أن يربح وضعاً اقتصادياً مريحاً، فيما انزوت العروبة في مربعات من المثقفين الذين يطلقون خطباً «موديل 1960» في القرن الحادي والعشرين، فيبدون فولكلوراً ممجوجاً.
أمّا التيار الأممي الإسلاموي، فأُصيب بضربة عسكرية من المشير السيسي أبعدته عن السلطة واعتقلت الرئيس مرسي الإخواني وزجّت به في غياهب السجن، بتأييد سعودي أميركي.
وهناك تيارات شعبية صغيرة تحاول التأثير على نزق النظام بواسطة التحركات الشعبية والإعلام، لكنّ القمع يدفعها إلى الانزواء… إلى جانب الحركات الصوفية المعتدلة التي تبدو حالياً كمن أُصيب بغيبوبة سياسية، سببها عدم تمركز هذه الحركات في بناء مركزي موحّد، ما أدّى إلى ضمور دورها واقتصاره على الابتهال والتواشيح الدينية.
أمّا الأزهر الشريف، فمقسوم بدوره بين أجنحة موالية للسلطة، وأخرى للسعودية الوهابية، وثالثة للإخوان إلى جانب قوى مستقلّة ليست بذات وزن. لذلك يتجاهل الأزهر الأوضاع الداخلية، رافضاً اتهام الإرهاب بالكفر ومصرّاً على أنّهم يرتكبون أخطاء. ويعتبر أنّ الصراع دائر بين مسلمين، فلا يضيع شيء لمصلحة «الفرنجة والكفار»، على حدّ تعبير شيوخه.
لذلك تستغلّ التنظيمات الإرهابية المشتقة من «القاعدة والإخوان» هذا التفكك لمهاجمة مراكز الجيش المصري وكنائس الأقباط في الصعيد والمحافظات الفلاحية وصحراء سيناء، وحتى المدن والعاصمة. واللافت أنّ الأقباط لا يعملون على أيّ مشروع سياسي تقسيمي قد يبرّر استهدافهم، ما يضع هذه الهجمات في خانة الأعمال الطائفية الصرفة المنسّقة مع «إسرائيل» وواشنطن.
هذا هو المشهد المصري اليوم… انهيار اقتصادي متدحرج يتقاطع مع تراجع هائل في الموارد السياحية والصناعية والزراعية… اضطرابات أمنية متواترة، وعدم استقرار سياسي مقابل علاقات عميقة بواشنطن و»تلّ أبيب».
ولمعالجة هذا التدهور المريع السياسي الاقتصادي الأمني، أعلنت مصر ولاءها للسعودية في قمّة الرياض بزعامة الرئيس الأميركي ترامب. وفي مبادرة لحسن النيّة، أعادت إليها جزيرتي تيران وصنافير في حركة لاقت استياءً مصرياً شعبياً لم يتمكّن حتى الآن من التعبير عن نفسه. كما انضمّت إلى المحور السعودي الإماراتي البحريني المطالب بعزل دولة قطر، وصولاً إلى حدود إلغاء النظام القطري.
ماذا تريد القاهرة من هذا التماهي مع السعودية؟
يبدو أنّها تذهب إلى كامب ديفيد جديد بخلفيّتين: تحسين وضعها الاقتصادي، وضرب الإخوان المسلمين المعتمدين على التحالف القطري التركي. أمّا في العمق، فيبدو أنّها تتأقلم مع مشروع أميركي جديد يبتدئ من الخليج ومصر و»إسرائيل» ليشمل لاحقاً دولاً عربية وإسلامية أخرى.
من ناحية الاقتصاد، تسأل جهات عليمة كيف يمكن للدولة المصرية أن تعتمد على بلاد تراجعت مداخيلها ستين في المئة دفعة واحدة بسبب انخفاض أسعار النفط؟
وكيف يمكن لها المراهنة على ضرب الإخوان المسلمين في قطر، وهم متجذّرون في مصر ويستفيدون من التعثّر السياسي والعسكري والاقتصادي لنظام الرئيس السيسي؟ كما أنّ لتركيا الصّلة الأكبر بالإخوان، وهي تدعمهم في اليمن ومصر وليبيا وتونس ولبنان وسورية والعراق وبلدان أخرى؟
أمّا عن الطموح المصري بضرب أوضاع الغاز في قطر للسماح للشركات الأجنبية بالاستثمار في استخراج الغاز المصري، فهذه عملية تحتاج إلى 15 عاماً كي تستفيد مصر من بيع مواردها الغازيّة.. فهل بوسع الوضع الداخلي المصري الانتظار؟ وإلّا الانفجار؟
مصر السيسي تطمح إلى مسكّنات خليجية وأميركية وأوروبية تعزّز من قابليّتها على انتظار الاستثمار في مواردها الغازيّة، وتعتقد أنّ ضرب الإخوان المسلمين من شأنه تعزيز قدراتها على الإنتاج الزراعي والصناعي والسياحي.
لكنّ الحقيقة أنّ الدولة المصرية ذاهبة للالتحاق بالمحور الأميركي السعودي «الإسرائيلي» في مواجهة إيران وروسيا في حركة تبعيّة قد تُفضي إلى أخطر من النتائج التي رست عليها معاهدة كامب ديفيد الأولى.
فهذا الاستلحاق لا يعني أبداً إمكان تحسّن الوضع الداخلي «للمحروسة» وشعبها، بقدر ما يرتبط بمشاريع القضاء على القضية الفلسطينية والمساعدة في دعم الدور السعودي الإرهابي في الخليج وسورية والعراق وأمكنة أخرى. فواشنطن طامحة إلى تأسيس تحالف شرق أوسطي تقوده السعودية بمعاونة مصرية «إسرائيلية»، ولاحقاً تركية.
فهل ينجح السيسي، حيث فشل السادات ومبارك ومرسي؟
لا شكّ في أنّ المصريين يتّسمون بصفة الصبر، إنّما مع التزامهم بحدود يليها عادة انفجار قد يطيح بالسيسي والإخوان، ويُعيد إلى مصر خطّ انفتاحها التاريخي على بلاد الشام على قاعدة أنّ تحسين أوضاعها رهن بتطوّرها الداخلي، وليس بالاستتباع للخارج الذي نال من هيبة أرض الكنانة.
(Visited 113 times, 113 visits today)
No comments:
Post a Comment