بعد زمن قصير من توقيع دولة الإمارات العربيّة والبحرين على اتفاقيات التطبيع مع (إسرائيل)، أجرت إحدى الفضائيّات المحسوبة على السعوديّة، مقابلة من ثلاث حلقات مع بندر بن سلطان، سفير بلاده الأسبق في واشنطن، وأمين سابق لمجلس الأمن الوطني السعودي، استعرض خلالها الأدوار التي قام بها والتي لعبتها بلاده في الجزيرة العربية والإقليم والعالم، واستفاض في حديثه عن الشأن الفلسطيني بشكل مسموم طال القيادة ولم يترك الشعب، فقد اعتبر الفلسطيني محامياً فاشلاً عن قضية عادلة، وأنّ القيادات الفلسطينية تتاجر بالقضية لحساباتها الخاصة، ثم أنها قيادات قاصرة عن فهم السياسة ومتخصّصة في إضاعة الفرص، وفوق ذلك أنها ناكرة للجميل ومتطاولة على مَن يُحسن إليها، وهي عادة فلسطينية حسب المقالة البندريّة. وقد تطايرت سهام هجومه في اتجاهات عديدة لتطال إيران والحوثيين في اليمن، والأتراك والقطريين والمقاومة اللبنانية، وكذلك فضائيتي «المنار» و»الجزيرة»، لكن سهامَه طاشت عن دولة الاحتلال أو أنّ أقواله قد سقطت سهواً أو عمداً… لا يهمّ، إذ إنّ بندر بن سلطان لا يرى فيها دولة عنصرية ولا يعرف عن وحشيتها ودمويّتها، وأنها عنصر من عناصر القلق في الإقليم، التي حدّدها ابن عمه تركي الفيصل منذ أيام، فالشرّ كله حسب بندر هو في مَن أصابته سهامه.
هذه التوجهات لم تكن مستغربة عند مَن يتابع الأداء السعودي، وعند مَن تابع مسيرة بندر بن سلطان، وما يجيش في أعماقه من عقد نفسيّة، وما مارسه من أدوار في التحريض على الأمن القوميّ من العراق إلى سورية والمقاومة اللبنانية، ثم اليمن وإيران وأفغانستان، ومن عرف علاقاته المشبوهة مع المحافظين الجدد في واشنطن إبان رئاسة بوش الابن، وما يستتبع ذلك من علاقة مع دولة الاحتلال، يُضاف إلى ذلك ما عرف عنه من فساد في صفقة اليمامة، والتي قيل إنّ حجم الرشى والعمولات التي دفعت في تلك الصفقة هي الأضخم في تاريخ الفساد.
لما كانت قناة (العربية) السعودية شبه الرسمية، هي من أجرى المقابلة، ولما كان توقيتها قد أعقب توقيع اتفاقات التطبيع الخليجية، فقد افترض العقل السليم أن المقابلة تمثل تدشيناً لخطاب إعلامي سعودي جديد، يعبّر ويتواءم مع الانهيارات الخليجية ويمثل مقدمة لسياسة سعودية جديدة تتمثل باللحاق بركب التطبيع عندما يحين الوقت المناسب.
بما أنّ مربط خيول البترودولار قد انتقل منذ زمن من لندن إلى واشنطن، وأتت نتائج الانتخابات الأميركية على غير ما يرغبون وبالضدّ من استثماراتهم في دعم المرشح الخاسر، الأمر الذي جعل من ضرورات السعودية أن تتمايز عن شركائها الذين استعجلوا التطبيع ـ وإنْ كانت قد دعمت تلك الخطوة ـ وأصبح من أولوياتها نسج علاقة مع الإدارة الأميركية الجديدة التي سبق أن أبدت عدم إعجابها بالأداء السعودي وبشكل خاص بولي العهد، وربما ستبقى قصة اغتيال الصحافي الخاشقجي السعودي الجنسية والديمقراطي الانتماء والهوى، مخرزاً في عنق ولي العهد لمعاقبته وابتزازه.
في مقلب آخر، يعاني نتنياهو من مصاعب داخلية، خاصة بعد رحيل حاميه ترامب، الأمر الذي دعاه للإلحاح على ولي العهد السعودي لزيارته في مدينة «نيوم» على أن تبقى الزيارة سراً، حتى عن الحكومة (الإسرائيلية) والجيش، ثم قام بتسريب الخبر للصحافة، نتنياهو لا يهمّه إلا مكاسبه حتى لو أخلّ بوعوده وأحرج مضيفه السعودي، الذي وقع في ارتباك وحرج. مثّل ذلك إزعاجاً بالغاً للسعودية، خاصة أنّ الزيارة لم تكن لها أية قيمة أو معانٍ سياسية أو أمنية أو اقتصادية، وإنما كانت بمنظور ولي العهد علاقات عامة لأيام مقبلة، قد يُبنى على مقتضاها التطبيع السعودي عندما تنضج الظروف ويتولى ولي العهد العرش، ولكنها بمنظور نتنياهو، هدف في ملعب خصومه في الحكومة، ونجاح يدعمه في الانتخابات القريبة وأمام جمهوره الذي قد يُسهم في خلق حالة رأي عام تدعمه أمام القضاء الذي سيمثل أمامه لا محالة.
لطالما مثلت السياسة السعودية مظهراً رزيناً وحذراً في العلن، ورسمت لنفسها صورة من الوقار والجدّية، والالتزام بثوابت الدين والسياسة، ولكن نتنياهو قد فضح المستور وبخس تلك الصورة النمطيّة الزائفة. سرعان ما جاء الردّ السعوديّ من قبل الدولة العميقة أو للدقة للعائلة السعودية العميقة، وعلى لسان تركي الفيصل رجل الاستخبارات السعودية العتيق والمحنّك، والذي يُعتبر صندوق بلاده الأسود، في خطابه في المنامة وعلى مسمع ومرأى وزير الخارجية الإسرائيلي والعالم أجمع، أراد تركي الفيصل استرجاع هيبة الدولة والعائلة ومشروعيتهما سواء الإسلامية بسدانة الحرمين وقيادة العالم الإسلامي، والسياسة بقيادة (الاعتدال العربي)، ومجلس التعاون الخليجي، وتركي الفيصل لا يريد لابن عمه ولي العهد بموقعه الرسمي أن يقع فريسة لنتنياهو وحساباته السياسية، أو لأعداء السعودية المتربّصين، الذين سبق لبندر بن سلطان أن عدّدهم بالاسم.
مَن يستمع لخطاب تركي الفيصل قد يلتبس عليه الأمر ويظنّ لوهلة، أنّ الخطيب أحد قادة معسكر المقاومة، أو أنه رجل من الزمن الجميل الذي مضى والذي كان فيه قيمة لنبرة التحدّي، اتهم تركي الفيصل (إسرائيل) بأنها دولة عنصريّة تخالف الشرائع الدولية والإنسانية، فهي تعتقل وتقتل وتهدم البيوت من دون رادع، وأنها وإنْ ادّعت أنها دولة مستهدفة وصغيرة إلا أنها دولة بغي وعدوان، وأنها لا تحمل أية قيم أخلاقيّة سامية تدعيها، ثم أنها امتداد للاستعمار الغربي، وقال غير ذلك كثيراً وللقارئ أن يعود إلى نص الخطاب.
لكن القراءة السياسية للخطاب، تلاحظ أنّ رسائل قد تسرّبت بين فقرات الحماسة والغضب، وقد تكون هي أهمّ ما في الخطاب، تركي الفيصل لا يرى في اتفاق أبراهام كتاباً منزلاً من عند الله، وإنما هو مرتفع من لدن الإدارة الأميركيّة الراحلة، وبالتالي فإنّ تعديلات يجب أن تجري عليه بحيث يقترب من مبادرة الملك فهد بن عبد العزيز 2002 في بيروت والتي عُرفت باسم المبادرة العربية للسلام، والتي يمكن اختصارها: تطبيع شامل مقابل دولة فلسطينية وسلام شامل، هذا الأمر يرى تركي الفيصل أنّ من شأنه إعادة تجميل صورة بلاده، وفي موقع آخر قال إنّ (الإسرائيلي) يصرّح برغبته بأن يكون صديقاً للسعودية، فيما يطلق كلابه من سياسيين وإعلاميين لتنهش في اللحم السعودي، وتشيطن وتشوّه صورة السعودية. وفي هذا إشارة للحملات الإعلامية (الإسرائيلية) والغربية التي تجد في ملف حقوق الإنسان في السعودية ما يُقال، كما أنه يشير بطرف خفي لتسريب الإعلام (الإسرائيلي) لخبر زيارة نتنياهو للسعودية، كما أنه بذلك يضع شرطاً مسبقاً لأيّ لقاء أو علاقة مستقبلية مع (إسرائيل)، بأنّ عليها أن تلتزم باحترام بلاده وعدم التدخل في شؤونها الداخلية وملفات حقوق الإنسان التي طالما وجدها الإعلام الغربي و(الإسرائيلي) مادة دسمة.
معروف عن تركي الفيصل قديماً أنه رائد من رواد التطبيع والعلاقة مع (إسرائيل)، سواء في ملفات الأمن أو السياسة، وقد كان من أدواته وأزلامه في هذا المجال أنور عشقي السيّئ الصيت والسمعة، وبالتأكيد أنّ تركي الفيصل لم يغادر ـ ولن يغادر اصطفافه القديم ـ ولكنه يريد ترشيد العلاقة مع (إسرائيل) وإنضاج التطبيع مع المحافظة على مكانة ودور بلاده، وإبطاء أية اندفاعة متعجلة وغير محسوبة بدقة يقوم بها ولي العهد، ولا يريد وهو من رجال العائلة العميقة أن تكون بلاده وعائلته أداة من أدوات نتنياهو في صراعه مع أشكنازي وغانتس وغيرهم من الساسة (الإسرائيليين). تركي الفيصل لم يغادر موقعه، تماماً مثل ابن عمه بندر بن سلطان، وكلاهما لم ينطق عن هوى أو عن وحي يوحى، وإنما نطق كلّ منهما حسب مستجدات السياسة، والسعودية تستجيب للمتغيّرات، كلاهما مثل العقلية السعودية التقليدية، ولكن من دون أن تتغيّر هذه السياسة او تغادر اصطفافاتها، أو تستقيل من وظيفتها.
*سياسيّ فلسطينيّ مقيم في جنين – فلسطين المحتلة
No comments:
Post a Comment