الجمعة 18 كانون الأول 2020
تسارعت وتيرة الرسائل التي يتعمّد العدو الإسرائيلي توجيهها في أكثر من اتجاه، على خلفية إدراكه حجم التطوّر في قدرات حلف المقاومة، بدءاً من إيران وصولاً إلى حزب الله في لبنان والمقاومة في غزة، ولا سيما في ظلّ التحوّلات التي بدّدت رهاناته في غير ساحة. تأتي هذه الرسائل، أيضاً، في أعقاب توعّد طهران بالردّ على اغتيال رئيس «مركز البحوث العلمية» في وزارة الدفاع، محسن فخري زادة. ومع أنها تهدف إلى تعزيز الردع من خلال إعلان نجاح تجارب صاروخية، إلا أنها تعكس حجم القلق داخل مؤسّسة القرار الإسرائيلية من تطوّر القدرات الصاروخية لدى «أعدائها»، ودخولها مراحل جديدة مع أجيال الصواريخ الدقيقة والجوّالة والمسيّرات الهجومية، وهو ما يفرض على جيش العدو رفع مستوى جهوزيّته للتعامل مع هذا المستوى من التهديد على أنه حقيقة قائمة.
وتندرج الرسائل الإسرائيلية في سياقين: استراتيجي وظرفي. الأول يهدف إلى الإيحاء بأن إسرائيل في الطريق إلى إنتاج قدرات دفاعية تحاكي المستوى الذي ظهر حتى الآن لدى إيران وحلفائها، والذي يخشى العدو من أن يتبعه ارتفاع في مستوى الجرأة على المبادرة العملانية من موقع الابتداء أو الردّ، ما سيضعه أمام خيارات مفصلية. وفي السياق الثاني، تحاول تل أبيب ثني طهران عن الردّ، والقول لها إنها تستعدّ لمرحلة ما بعد الردّ بالردّ المتدحرج. وفي هذا الإطار تحديداً، يندرج ما صدر عن وزارة الأمن الإسرائيلية حول نجاح «سلسلة تجارب صاروخية غير مسبوقة» وصفتها بـ«التاريخية»، وبأنها مصمَّمة لمواجهة تهديدات متنوّعة عبر نظام متعدّد الطبقات يمثّل استجابة لأحدث التهديدات الناشئة في المنطقة.
البيان الإسرائيلي ادّعى أن الصواريخ المعترِضة تمكّنت من «اعتراض صواريخ وصواريخ كروز وطائرات بلا طيار ورشقة صواريخ دقيقة». واللافت في التجارب الإسرائيلية أنها دائماً ما توصف بـ«الناجحة والمفصلية»، ولا استثناءات في هذا المجال إلا ما كان صارخاً ولا يمكن نفيه. مع ذلك، تشكّل هذه التجارب وتباهي العدو بها أبلغ إقرار عملي بإخفاق رهانات واشنطن وتل أبيب على قطع الطريق على تعاظم هذا النوع من التهديدات، ومنع وصوله إلى حلف المقاومة. وتقول صحيفة «جيروزاليم بوست» العبرية إن الاختبار يأتي في أعقاب استخدام إيران «كروز» وطائرات مسيّرة لمهاجمة منشآت «بقيق» النفطية السعودية قبل عام. كما تروي تقارير إسرائيلية أن طهران أرسلت صواريخ باليستية إلى حلفائها في العراق وسوريا وحزب الله فضلاً عن الطائرات بلا طيّار.
أيضاً، تؤكد تقارير أخرى أكثر أهمية قناعة الخبراء الإسرائيليين بأن تطوّر قدرات حلف المقاومة سيتواصل في مسار تصاعدي كمّاً ونوعاً، ما يشكّل «تحدّياً استراتيجياً أكثر خطورة على الأمن القومي». وهذا ما حذّرت منه «جيروزاليم بوست» بقولها إن «مصفوفة التهديد تتغيّر، وبين أعداء اليوم، إيران هي العدو الإقليمي الرئيس لإسرائيل بصواريخ وطائرات بلا طيّار معقّدة ومتعدّدة». مع ذلك، يجد العدو نفسه ملزماً بالانكفاء إلى الدفاع لمواجهة مفاعيل هذا التطور، إدراكاً منه أنه فقد القدرة على إحباطه عبر خيارات استباقية واسعة، أو على الأقلّ صار أكثر قناعة بأن الاستهدافات الموضعية هنا وهناك قد تكون قادرة على إبطاء أو إرباك المسار التطوري، لكن لا رهان على مفاعيلها على المدى البعيد. وانطلاقاً مما تقدّم، تعمل إسرائيل على تعزيز نظامها الدفاعي «المعقّد والمتعدّد الطبقات» الذي يحاول أن يواكب تطوّر قدرات المقاومة.
وفي تجلٍّ لحجم التحوّل الاستراتيجي جرّاء تغيّر طبيعة التهديدات وحجمها ومداها الجغرافي، استحضرت «جيروزاليم بوست» ما سمّته «النمط التاريخي للحرب الإسرائيلية» الذي كان أساساً «على الأرض ضدّ الأعداء على طول الحدود»، من معارك الدبابات في الخمسينيات والستينيات إلى الانتفاضة عام 2000، لتخلص إلى أن «الحرب اليوم لم تعد تتعلّق بمطاردة مقاتلين في المباني أو باستخدام الدبابات، بل بمواجهة الصواريخ العالية التقنية والطائرات المسيّرة». وأضافت الصحيفة: «التهديدات الحديثة ظهرت مع تخزين حزب الله 150 ألف صاروخ وقذيفة، فيما أظهرت الحرب الأخيرة في القوقاز كيف يمكن للطائرات المسيّرة أن تُغيّر الحرب، ولهذا يريد الجميع في المنطقة الآن الصواريخ ومنظومات الدفاع الصاروخي». مع ذلك، بدت الصحيفة أكثر تشكيكاً في فعّالية هذه المنظومة لدى الاستحقاق العملاني، فرأت أن «إسرائيل تمتلك أهمّ مجموعة نظام دفاعي عالي التقنية في تاريخ العالم. لكن السؤال، كما الحال دائماً، سيكون كيف تعمل هذه الأنظمة في سيناريوات حقيقية».
من جهة أخرى، سبق التجاربَ الصاروخية تسريبُ جيش العدو خطّة عسكرية لحرب مقبلة مع غزة، في ما يبدو أن الهدف منه الضغط على فصائل المقاومة ومحاولة تعزيز الردع الإسرائيلي عبر رفع المخاوف من تداعيات هذه الحرب، خاصة أن التسريب تحدّث عن أن معركة مماثلة ستؤدي إلى مقتل ثلاثمئة فلسطيني يومياً، ما يعني أن الجيش عازم على ارتكاب مجازر مضاعفة بحق المدنيين عن الحروب السابقة. وممّا يلفت أن هذا التسريب يأتي في الوقت الذي يسود فيه هدوء ملحوظ في القطاع والمناطق المحيطة به، بل كانت تقديرات الأمن الإسرائيلي قد أفادت بأن احتمال التصعيد العسكري مع المقاومة الفلسطينية ضئيل جداً، خاصة في ظلّ تواصل المحادثات بين إسرائيل و«حماس» بوساطة مصرية حول تهدئة طويلة.
كذلك، يحاول جيش العدو، تحت رئاسة أفيف كوخافي، تثبيت معادلات جديدة ستحكم أيّ مواجهة مقبلة، وتبديد صورة الانكفاء عن التوغل البري التي وسمت الجيش خلال المواجهات السابقة مع القطاع. وعلى هذه الخلفية، يأتي ما نقلته تقارير إعلامية عبرية تقول إنه «بالإمكان تحقيق حسم واضح وانتصار مقابل حماس… مع أن احتلال القطاع أو السيطرة عليه مجدّداً أو التسبّب في انهيار حكم حماس ليس مطروحاً في هذه المرحلة في ملعب المداولات، وذلك بما يتلاءم مع سياسة الحكومة في هذا الموضوع». في كلّ الأحوال، يبدو واضحاً أن جيش العدو يهدف، في استراتيجية الحرب على الوعي التي يعتمدها، إلى تبديد التصوّرات التي عكسها أداؤه منذ حرب 2006، مروراً بالحروب المتعدّدة مع غزة، على أمل أن يتمكّن من تعزيز ردعه، لكنه يُقرّ باستمرار التعاظم في قدرات المقاومة في غزة ولبنان، كما يواصل مساعيه لرفع مستوى استعداداته بما يتلاءم مع التهديدات المتنوّعة والمتطوّرة والمتّسع نطاقها ليشمل ساحات حلف المقاومة كافة، وصولاً إلى اليمن.
No comments:
Post a Comment