– تتيح مناسبة إحياء اليوم العالميّ للغة العربيّة الفرصة للانتباه الى مجموعة من الحقائق المعاكسة لبعض ما يتمّ ترويجه منذ عقود في منتديات النقاش اللغويّ بحثاً عن تطوير قدرة اللغة العربية على الإحاطة بمتغيّرات العصر بعدما نسب الكثير من المهتمين بشأن اللغة تراجعها الى ما وصفوه بعجزها عن هذه المواكبة للجديد والعصري المتسارعين فجاءت محاولات حثيثة للتعريب خلال أكثر من نصف قرن لم تنجح رغم جدّيتها في وقف التدهور في مكانة اللغة العربية سواء في حجم احتلالها لمساحات التخاطب اليوميّ بين المنتسبين إليها كهوية او في متانة استعمال قواعدها ومستوى أدائها نطقاً وكتابة أو في ظهور تشعّبات من سلالات لغويّة والسنيّة مشتقة من تركيبات هجينة لأصول عربية وأصول غير عربية ومحكيات غير مدوّنة قواعديا تحوّلت مع وسائل التواصل الاجتماعي الى محكيّات مدوّنة بحروف وإشارات لغوية غير عربية او غير صافية بانتسابها للعربيّة.
– ساد لفترة غير قصيرة منطق يقول إن سبب تراجع اللغة العربية يعود الى مصدرين، الأول ما وصفه اللغويّون بتدفق آلاف المصطلحات الجديدة المرتبطة بمستجدات دخلت حياة البشر بلغات وافدة، ورأوا الحل بالتعريب باقتراح مئات المفردات الجديدة واشتقاقاتها لمواكبة هذا التحوّل فأوجدوا مرادفات لمفردات التلفزيون والراديو والسندويش وسواها، ولم ينجحوا، والثاني يعتبر أن تعليم العلوم التطبيقيّة والمكتبية والإنسانية باللغات الأجنبية هو السبب في تراجع اللغة العربية، فخاضت دول عديدة متمسكة بحماية اللغة العربية غمار تجارب تعليم هذه العلوم باللغة العربية وبذلت جهوداً جبارة لتعريب المناهج، لكن العقدين الأخيرين أظهرا أن التسرب اللغوي الأجنبي يتسارع فيها خصوصاً بين أجيال الشباب، وأن التمكين اللغوي لجهة سلامة النطق والتحدّث والكتابة يسجل تراجعاً ملحوظاً يشبه ما شهدته بلاد عربية أخرى خلال عقود سابقة من القرن الماضي.
– بات اليوم من الممكن البحث عن أسباب غير تقنية تتصل بالحامل الحضاري والسياسي للغة كمصدر للتراجع، خصوصاً أن هناك ثلاثة اسباب كبرى تسحب الأسباب التقنيّة من التداول وتبطل مفعول الأخذ بها، الأول أن اللغة العربيّة لا زالت رغم كثير وجوه تراجعها تمتلك أكبر مخزون من المفردات بالقياس لكل اللغات الأخرى، بما في ذلك التعبيرات المتمايزة بمفردات مختلفة عن حالات مختلفة تفصيلياً في الفعل نفسه تختزلها اللغات الأخرى بتعبير واحد وتضطر لتظهير التمايزات التفصيلية بإضافة صفات وتركيب جملة لما تجد اللغة العربية التعبير عنه بمفردة، ولا زالت اللغة العربية بنزر علماء اللغة أكثر اللغات قدرة على تقديم الانسجام بين مضمون التعبير وموسيقى الأحرف الصوتية الحاملة، ومن المفيد القول إن في اللغة العربية أكثر من مليون مفردة موثقة، بينما كل اللغات الأخرى لا تتجاوز سقف الربع مليون مفردة، أم السبب الثاني لتجاوز التفسيرات التقنيّة، هو أن اللغات الأخرى المتقدّمة تمتلك الكثير من المفردات المستمدّة من جذور لغات أخرى منها اللغة العربية، ولم يضعف ذلك من تأثيرها ولا من نموها، والسبب الثالث هو أن التراجع في متانة استخدام اللغة وحجم ووتيرة انتشارها وسيادتها بين حامليها الأصليين، ظهر بقوة في العقدين الأخيرين بعيداً عن حاجات التبادل العلمي والتجاري، التي طغت في عقود ماضية من القرن العشرين على مظاهر التراجع الحاد في مكانة اللغة العربية. فالتراجع بدا بوضوح مرتبطاً بظهور بدائل أدنى مرتبة من زاوية المفهوم اللغوي، أي لحساب لكنات ولهجات وصيغ تركيبية هجينة غير موحّدة وغير قابلة للتبادل على نطاق أوسع من الدوائر المحليّة الضيّقة لتداولها، والبدائل عموماً أشدّ هشاشة من أن تُسمّى لغة، وتحمل تعبيراً عن ركاكة وضعف وعجز بالمفهوم اللغويّ، وهو ميدان تتسم اللغة العربية بالإعجاز فيه.
– بالعودة إلى تاريخ صعود اللغة العربيّة، لا يمكن الفصل بين هذا الصعود وعناصر النهضة الحضاريّة والصعود السياسيّ، سواء في حقبة أولى مع الإمبراطوريات الأموية والعباسية، وما عُرف بالعصر الذهبي، أو في حقبة ثانية مع نهوض الحركات القوميّة في القرن الممتد بين النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، شهدت خلاله اللغة إحدى أهم مراحل صعودها ونهضتها وعصورها الذهبيّة، وبالعكس تزامن الانحدار اللغوي مع الانحدار السياسي والحضاري وتراجع مشاريع النهضة، وتسارع الانحدار مع غياب هذه المشاريع وسيادة مناخات الضياع الفكري والتفريط السياسي والتشظي الاجتماعي، فعندما تصير الطوائف والقبائل والمشيخات بدائل للأمم فستجد ما يناسب مستواها الهابط في الاستخدام التعبيريّ بدلاً من لغة عالية النوتة والمدرجات بما لا يتيح عزف موسيقاها الا لأوركسترا على درجة عالية من الجدية والمهارة والعلو في الشكل والمضمون. فالمشكلة ليست في اللغة بل في الأمة، وفي حال الأمة هي مشكلة النخب وليست مشكلة الشعوب، وبين النخب هي مشكلة ثقافة وسياسة وليست مشكلة تقنيات.
No comments:
Post a Comment