الانهيار المالي في لبنان يعود إلى الانهيار الاقتصادي الذي يشهده الوطن بشكل مبرمج وتدريجي وذلك منذ 1993. لقد أوضحنا في أوراق ومحاضرات عديدة الأسباب البنيوية التي أدّت إلى ذلك الانهيار وهي منشورة في صحيفتي «البناء» و»الأخبار» وعلى موقع منبر التواصل، وبالتالي لسنا مضطرّين لتكرارها. نكتفي بعرض الخطوط العريضة حيث الخيار آنذاك كان جعل اقتصاد لبنان اقتصاداً خدماتياً ريعياً يرتكز إلى القطاع المصرفي الذي يتحكّم بالقطاع العقاري والسياحي. فالاقتصاد المشوّه وسياسات الاستدانة المفرطة بفوائد ربوية لا مبرّر لها اقتصادياً وحتى مالياً وربط سعر صرف الليرة بالدولار بينما معظم التجارة الخارجية اللبنانية كانت مع دول خارج إطار الدولار، فكلّ ذلك أدّى إلى انكشاف تجاه الخارج وسياسة استهلاك مفرط عبر الاستيراد ما أدّى إلى عجز كبير في الميزان التجاري والطلب غير المشروع على العملة الأجنبية. والفوائد الربوية التي فُرضت قتلت أيّ مبادرة لتشجيع الصناعة والزراعة وتخفيف اللجوء إلى الاستيراد أو عجز الميزان التجاري. وإذا أضفنا عامل جائحة كورونا والضغط على البنية التحتية الصحية والإقفال القسري للعجلة الاقتصادية والتداعيات لتفجير مرفأ بيروت فنفهم حجم الأزمة القائمة. بمعنى آخر، فإنّ الأزمة المالية إنْ لم نقل الكارثة، كانت حتمية وذلك لأسباب موضوعية بغضّ النظر عن أيّ دور خارجي الذي لا يمكن إغفال دوره في تسريع وقوع الكارثة. هذه هي الخطوط العريضة التي تحكم المقاربة المقدّمة.
ما يهمّنا في هذه المداخلة هو إلقاء الضوء على المسؤولية التي يتحمّلها العامل الخارجي في تسبّب الأزمة المالية القائمة كما على دور العامل الداخلي. العامل الخارجي تقوده الإدارة الأميركية منذ بداية التسعينات عند إطلاق العولمة بعد سقوط المنظومة الاشتراكية وتفكيك الاتحاد السوفياتي. الهدف كان تحويل الدول في العالم إلى قطاعات استهلاكية فقط دون أيّ سيادة سياسية واقتصادية على مقدرات الأوطان. العولمة تزامنت مع تصاعد التوجّهات النيوليبرالية التي ركّزت على أمولة (financialization) رأس المال والاقتصاد الافتراضي. ومن أدوات ذلك التحوّل ترويج سياسة الاقتراض بحجة أنّ الدين هو الرافعة الاقتصادية لجني أكبر حصة من المردود على الرأس المال. العامل الداخلي متعدّد الأطراف ولكن القوّامة هي للقطاع المصرفي الذي حصل على الغطاء السياسي العربي والدولي في المهمة المشبوهة.
مقاربة الدور الأميركي في الانهيار المالي في لبنان تتطلّب قراءة في الاستراتيجية الأميركية في المشرق بشكل عام والمشرق العربي بشكل خاص. قراءتنا لمجمل الإجراءات التي اتخذتها الإدارة الأميركية منذ عقود تقودنا إلى أنها كانت وما زالت تستهدف سورية في المرتبة الأولى وذلك خدمة للكيان الصهيوني. فالسبب هو حماية الكيان والهدف هو سورية بشكل عام واستراتيجي والمقاومة في لبنان بشكل خاص. أيّ بمعنى آخر، فإنّ الإجراءات الأميركية عبر سلسلة العقوبات التي فرضتها على عدد من الشخصيات والقوى السياسية في لبنان، وعلى عدد من المؤسسات المالية، تأتي في ذلك السياق، أيّ استهداف المقاومة واستهداف سورية في آن واحد.
أضف إلى ذلك في ما يتعلّق في لبنان كان الرهان للنخب الحاكمة آنذاك أنّ السلام سيحّل في منطقة شرق الأوسط خاصة بعد مؤتمر مدريد، واتفاق أوسلو، واتفاق وادي عربة. وهذا الرهان، بوحي أميركي وأدوات عربية ولبنانية، هو سبب الخيار على تحويل لبنان إلى مركز مالي عبر تضخيم دور المصارف. فتمّ ذلك عبر الاستدانة المفرطة والعشوائية وغير المرتبطة بمشاريع إنمائية بل فقط لتسديد الدين المتراكم بشكل مصطنع (فوائد باهظة على سندات خزينة قصيرة الأجل لتمويل مشاريع طويلة الأجل على حدّ زعم المسؤولين آنذاك!). كل ذلك كان بتشجيع الولايات المتحدة والمؤسسات المالية الدولية التي تطالب الآن بـ «إصلاحات»! تغيّرت الأمور بعد 2001 فكان قرار الولايات المتحدة احتلال أفغانستان ومن ثم العراق. فالغطاء الدولي (الأميركي الفرنسي) والعربي (سورية وبلاد الحرمين) لم يعد قائماً، فدخلت البلاد مرحلة عدم استقرار هدفها إخراج سورية من لبنان (2005) وفي ما بعد نزع سلاح المقاومة بعد عملية عسكرية في 2006 إلاّ أنها فشلت فشلاً ذريعاً.
بدأ الضغط يتصاعد تجاه سورية في منتصف شهر آذار/ مارس 2011 خاصة بعد إطلاق ما سُمّي بالربيع العربي. استمرّ ذلك التصاعد في ولايتي الرئيس أوباما وخاصة في ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب وبشكل أدقّ منذ النصف الثاني من ولايته تحت رعاية وزير خارجيته ومكتب مراقبة الأصول الخارجية «أوفاك» (Office of Foreign Assets Control) التابع للخزينة الأميركية والتي يسيطر عليها بشكل شبه مطلق اللوبي الصهيوني. ويشارك الولايات المتحدة كل من الاتحاد الأوروبي كمجموعة وكدول إضافة إلى المؤسسات المالية الدولية التي تهيمن عليها الولايات المتحدة.
دور الولايات المتحدة وشركائها الدوليين والعرب في الانهيار المالي في لبنان يعود إلى الموافقة والإشراف على الخيارات البائسة والسياسات الخاطئة منذ 1993 بشكل محدّد وصولاً إلى 2010. وهذه الخيارات أدّت إلى الانهيار الذي نشهده اليوم وإنْ بدأ فعلياً وعلناً عبر عقد مؤتمر باريس 1، وثم باريس 2، وثم باريس 3، وثم مؤتمر «سيدر» بدلاً من مؤتمر باريس 4! لكن خلال تلك الحقبة استطاعت الولايات المتحدة التساكن مع سورية والمقاومة في لبنان خاصة بعد اتفاق 1996. لكن تغيّرت الأوضاع بعد 2010 مع قرار استهداف الولايات المتحدة لسورية مباشرة فبدأت الإجراءات عبر محاصرة سورية من لبنان في الشقّ المصرفي حيث كان النظام المصرفي اللبناني يؤمّن التمويل للاستيراد السوري. معدّلات «النمو» في لبنان كانت حتى ذلك الحين مقبولة نسبياً وفي إطار المساكنة مع حزب الله. لكن مع «سياسة النأي بالنفس» المتكاملة مع فريق من اللبنانيين في دعمه لزعزعة الاستقرار في سورية بدأ التراجع السريع في الاقتصاد اللبناني وماليته. فكان الوقف بالتعامل مع الحسابات السورية في المصارف اللبنانية. وهذه التطورات كانت الترجمة الفعلية لانصياع الدولة للقرار الأميركي مع استمرار المساكنة الأميركية مع وجود حزب الله في الحكومة. لكن مع وصول دونالد ترامب للسلطة وتولي محمد بن سلمان ولاية العهد في بلاد الحرمين تناثرت المساكنة للتحوّل إلى هجوم ممنهج على لبنان عبر استهداف القطاع المصرفي. والاستراتيجية المتبعة من قبل الولايات المتحدة كانت «تجفيف» مصادر السيولة للبنان للضغط على المسؤولين ولافتعال أزمات اقتصادية ومالية تجلّت في ما بعد في انتفاضة 17 تشرين الأول 2019.
إرهاصات ما حصل قد ظهرت مع «احتجاز» رئيس الحكومة سعد الحريري في الرياض بعد أن تولّى محمد بن سلمان ولاية العهد. منذ ذلك الحين كان الضغط الخليجي على لبنان يزداد عبر تجنّب المواطنين التابعين لمجلس التعاون بالحضور إلى لبنان. من جهة أخرى كانت ملاحقة متموّلين لبنانيين في العديد من الدول وخاصة في غرب أفريقيا على أساس أنهم من مموّلي المقاومة كما تمّ الضغط على عدد من المصارف المحسوبة على البيئية الحاضنة للمقاومة فتمّت تصفية مصرفين (اللبناني الكندي وجمّال تراست) بحجج واهية.
البنية الاقتصادية والخيارات وثم السياسات المتبعة بتشجيع أميركي لأهداف تخدم استراتيجيتها الكبرى ليس في لبنان فحسب بل في المنطقة بأكملها هي التي تفسّر الانهيار. الدور الأميركي هو دور تفعيلي وتسريعي للانهيار ولكن ليس المسبّب لها. فإجراءات أكثر فظاظة للإدارات الأميركية المتتالية في كلّ من الجمهورية الإسلامية في إيران، وفنزويلا، وكوبا لم تفلح لأنّ البنى الاقتصادية كانت أمتن مما هي عليه في لبنان وبسبب حرص المسؤولين في تلك البلاد على الحفاظ على استقلالية القرار السياسي والاقتصادي والتفاف شعوب هذه الدول حول قياداتها. بينما الخيارات والسياسات التي اتبعت من قبل المسؤولين اللبنانيين أدّت إلى تبعية شبه مطلقة لا تقيم وزناً للحدّ الأدنى للكرامة الوطنية وتعطي للقرار الأميركي الأولوية. التقرير الأخير الصادر عن الأمم المتحدة يدين التدخّل السافر في الشأن الاقتصادي الفنزويلي حيث الدولة البوليفارية فقدت وفقا للتقرير ما يوازي 99 بالمائة من وارداتها من جرّاء الحصار الأميركي، ورغم ذلك لم تفلح الإدارة الأميركية في تحقيق أهدافها. لكن هذا لا يعني أنّ التدخل الأميركي في لبنان وإنْ كان أقلّ شراسة لا فعّالية له بل العكس هو المسرّع للانهيار المالي في لبنان.
الاستراتيجية الأميركية التي تستهدف سورية تطلّب الضغط على القطاع المصرفي لتجفيف مصادر التمويل الاستيرادي لسورية. فالبضائع المستوردة لصالح سورية كانت تموّل من القطاع المصرفي في لبنان ومن بعد ذلك يتمّ إيصالها إلى سورية. البعض اعتبر ذلك «تهريباً» لسورية بينما هو في الفعل بضائع لسورية دفعت بأموال سورية. «التهريب» دفع الجيش الأميركي لفرض أبراج مراقبة على الحدود اللبنانية بينما في الأساس هو لضبط التواصل بين سورية والمقاومة من جهة ومنع إيصال البضائع لسورية. شركة «بارسون» حازت على مناقصة عرضتها الوكالة الأميركية (DTRA) وهي وكالة حكومية أميركية موكلة بتخفيف مخاطر الدفاع كما أورده الصحافي حسن علّيق، وذلك لتعزيز مراقبة الحدود اللبنانية السورية. تمّ ذلك دون علم الحكومة اللبنانية إلاّ قائد الجيش!
الهدف من الضغط على القطاع المصرفي في لبنان وصولاً إلى تجفيف السيولة هو خلق حالة من الفوضى تؤدّي إلى تأليب الرأي العام داخل البيئة الحاضنة للمقاومة للانتفاض عليها ونزع سلاحها. هذا فشل وبالتالي بعض العقول الأميركية حذرت من تلك المخاطرة كجيفري فيلتمان الذي نصح بالضغط على حلفاء المقاومة وتحميلهم المسؤولية لتردّي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية خاصة على ذلك الحليف المسيحي وهذا ما حصل بالفعل وهو ما نشهده في هذه الأيام. هناك تناس متعمّد لمسببّي الفساد والانهيار لأنّ الهدف الأساسي هو محور المقاومة عبر استهداف الحلقة الأضعف في ذلك المحور، البيئة الحاضنة لحلفاء المقاومة.
استجابة القطاع المصرفي للضغط الأميركي تلازم مع «فرصة» اقتناص الأموال المودعة عبر التحويل إلى الخارج لمستويات كبيرة من الودائع ما أدّى إلى انخفاض الاحتياط بالدولار. الأزمة السياسية المزمنة أعطت الفرصة للقطاع المصرفي لتحقيق أرباح سريعة وعلى حساب المودع كما أنّ عجز الدولة في تسديد التزاماتها تجاه حاملي السندات تلازم مع رفض المصارف في تسديد مطالب المودعين بحجة الوضع المالي الحكومي. طبقة سياسية فاسدة، وحكومة عاجزة، وقطاع مصرفي متوحّش في مناخ من التشجيع الأميركي للمزيد من التراجع وصولا للانهيار هو سمة المشهد الحالي.
لكن ما ينهار في لبنان هو أيضاً البيئة والقوى المؤيّدة للسياسة الأميركية. فانهيار قطاع المصارف في لبنان لا يخدم الولايات المتحدة بل العكس لأنها تفقد بذلك الانهيار أداة فاعلة للسيطرة على المواطن اللبناني والسياسة اللبنانية. لكن في المقابل فإذا كانت كلفة المواجهة مع سورية هي انهيار القطاع المصرفي في لبنان فليس هناك في الإدارة الأميركية من سيترحّم عليه، وهذا ما لا تستطيع أدراكه النخب المصرفية التي تصرّفت بشكل انتحاري وموهومة بانها ستنجح في سرقتها الموصوفة لودائع اللبنانيين دون أيّ مساءلة ومحاسبة. وهنا يكمن الخطأ الفادح في التقدير عند تلك النخب.
هذه القراءة الخاطئة لموازين القوّة عند النخب المصرفية والحاكمة في لبنان تفسّر «نجاح الضغوط» عبر التدخّل السافر الأميركي في الشأن الداخلي اللبناني. والبيئة الحاضنة لذلك التدخل ليس فقط ضمن المنظومة الحاكمة ولكن ضمن الثقافة والوعي لشرائح واسعة من المجتمع اللبناني التي تريد تحميل مسؤولية تراجعها وتهميشها إلى المقاومة ومن يدور في فلكها. ولكن من جهة أخرى هذه الشرائح ونخبها لا تشعر بالحدّ الأدنى من الكرامة الوطنية. فعندما يتجرّأ قاض لبناني على تصرّفات السفيرة الأميركية في لبنان تتمّ إقالة القاضي الشجاع الذي لا ينتمي إلى أيّ حزب ألاّ أنّ لديه فائضاً من الكرامة غير الموجودة عند هذه النخب. ويمكن أن نسترسل في ثقافة التغريب وجدوى التبعية المفرطة للقرار الخارجي واعتبار أنّ كلّ شيء غربي ممتاز بما فيه التحكّم بمصير الشعوب ولكن هذا حديث آخر.
ما يهمّنا التأكيد عليه أنّ الإجراءات والضغوط الأميركية لم تكن لتنجح لولا استعداد تلك البيئة لتقبلها دون أيّ مقاومة كي لا نقول بكلّ ترحيب. فما وصلنا من أخبار للوفود اللبنانية لواشنطن للتفاوض مع الخزينة الأميركية حول الإجراءات التي كانت تنوي اتخاذها بشأن بعض المصارف تفيد بأن بعض المصرفيين في لبنان كانوا يزايدون على الخزينة الأميركية للضغط على المقاومة وبيئتها.
الأزمة المالية ارتبطت الآن بالأزمة السياسية وتشكيل الحكومة. وما شهدناه من تبادل في الاتهامات يوحى أنّ الأزمة مستمرّة ومتفاقمة. فالتمويل الخارجي لن يأتي إلاّ بشروط تعجيزية ومن يطالب بتلك الشروط من اللبنانيين ليس معنياً بالمصلحة الوطنية بل فقط بالعودة إلى حالة ما قبل الانفجار الاقتصادي والمالي، وفي ما يتعلّق بتفجير مرفأ بيروت فحتى الساعة لا نعرف من هو المسؤول.
في الختام نقول إنّ مسؤولية الانهيار في لبنان تعود إلى العامل الداخلي وإلى العامل الخارجي وإنْ كنّنا نرجّح قوّامة العامل الداخلي وخاصة القطاع المصرفي على العامل الخارجي. فالتدخل الخارجي لم يكن لينجح لولا «استعداد» شريحة كبيرة من النخب الحاكمة لتقبّل ذلك التدخل إنْ لم تطلبه بشكل صريح. والدعوات الأخيرة لتدويل البلاد تدعم ما نقوله. فالوطنية عند هؤلاء هي آخر في المطاف وجهة نظر فقط!
*مداخلة في ندوة «كرامة وطن» في بيروت عبر «الزوم» في 18/3/2021
كاتب وباحث اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي
No comments:
Post a Comment