أردوغان الأطلسي وبشار العثماني
الأربعاء، 16 كانون الثاني، 2013
لا أجد التباساً وانقساماً في أذهان السوريين أكثر مما يرد في النظرة إلى المرحلة العثمانية من تاريخنا، وبالأخص لحظتها الفارقة، أي «الثورة العربية الكبرى». هذه الثورة التي أعلنها شريف مكة حسين بن علي بالتحالف مع الغرب، وجرى فيها شراء ذمم شيوخ قبائل ونخب رفيعة بالمال، بعد عقود من الاختراق الثقافي والسياسي، حيث وصل الانقسام ذروته بين من يعدون رجالات النخبة، الذين عُلّقوا على أعواد المشانق في 6 أيار 1916 في بيروت ودمشق خونة وعملاء ومأجورين، ومن يعدّهم شهداء الهوية العربية والاستقلال والحرية.
ولعل انتقادي للتيار القومي في مقاربة تلك المرحلة، وإحجامه عن نقدها، رغم جنونها الصارخ، جاء بوصفها تآمراً مع الاستعمار ضد الذات وخطيئة جيواستراتيجية لا تغتفر، تقارب الخيانة الموصوفة سياسياً. فلا ثورة ـــ لا عربية ولا كبرى ـــ إذ لم يلتحق بها سوى نخبة غربية الثقافة وقبائل بدوية شريت بالمال.
فأيّ أحمق سيصدق أن محتلي الجزء الأفريقي من الأمة العربية سيساعدون شطرها المشرقي على إقامة دولة قومية عربية في آسيا على طريق الهند درة تاج الاستعمار. ولعلّه مقدمة ضرورية لتذكير الإسلاميين اليوم بذلك الخيار المدمر، الذي ما انفكوا يذرفون دموعاً غزيرة على تبنيه، أحسبها صادقة، وهو الذي انتهى إلى تفتيت السلطنة العثمانية، وتقسيم البلدان العربية، وضياع فلسطين ووقوع العرب تحت الهيمنة الغربية.
هو خيار دفعنا ثمنه باهظاً، ورغم ذلك لم يقم بنقده سوى الإسلاميين، وإن كان نقداً قاصراً لم يبلغ درجة العمل على تجاوزه، بل كان مقدمة لنشوء جماعة الإخوان المسلمين. ولم تمرّ تلك الحقبة الخطيرة المؤسّسة لقرن من الهزيمة والضياع بمراجعة قومية، أو علمانية، أو ماركسية، أو ليبرالية، حتى ولو بالقليل من الحصافة والمنهجية والوعي الاستراتيجي. في وقت تضطرم فيه المنطقة بنذر «كارثة مؤسِّسة» ثانية.
بل ظهر تماماً، ويا للمفارقة، أنّ الإسلاميين اليوم يحثون الخطى نحو نفس الكارثة، كأسلافهم التنويريين العرب والأتراك، من رجالات الاتحاد والترقي وجمعيات الإحياء العربي، الذين ساروا على خطى الصهيوني لورنس العرب، كما يسير اليوم «علناً، ومتعمداً» الإسلاميون، والليبراليون، وفلول اليسار الماركسي في الربيع العربي على خطى الصهيوني برنار هنري ليفي، الذي لم يخفِ مهمته في دعم «الربيع» نصرة لإسرائيل أمام مريديه من الليبيين والسوريين، مثلما أخفى لورنس حقيقة مهمته في تفتيت العرب لإقامة محبوبته إسرائيل.
ولعل الخطيئة اليوم أكبر، لأنّ الإسلاميين الذين يكررون الخطأ، بنوا تاريخاً لهم يقوم على إدانة هذا الخطأ، وتخوين التنويريين والليبراليين الذين تآمروا على دولة الملة الإسلامية (دولة الخلافة)، التي لا يزال انهيارها جرحاً غائراً في قلوب وعقول العرب والمسلمين.
قبيل بدء العدوان الأطلسي ـــ النفطي على ليبيا العام الماضي، وقف السيد رجب طيب أردوغان في البرلمان التركي، وشنّ هجوماً لاذعاً على الغرب الذي سيقتل أطفال طرابلس في الغارات من أجل تأمين النفط. وقال «ما يحدث في ليبيا ليس إلا أمراً مرتبطاً بالبترول، والثروات الأرضية فقط». وحذر من التوترات المذهبية في المنطقة، بالأخص في البحرين، ودعا إلى التحاور بين القذافي والمعارضة. وأنهى أردوغان كلمته بالقول: «التاريخ تجري صياغته من جديد في المنطقة. وتركيا ستكتب التاريخ بحروف من ذهب».
وبعيد العدوان صرح بتطلعه إلى «وقف إطلاق النار»، وأضاف إنّ أنقرة «تحاول أن تؤدي دوراً بنّاء لإقرار المصالحة، وأنه ليست لديها أيّ نوايا خفية»، وأوضح أنّ «أية قطرة دم ليبية أثمن من أية قطرة نفط».
ما الذي كان يؤرق أردوغان حينها؟ أهي الاستثمارات التركية المهددة بالضياع وحلول استثمارات غربية محلها؟ أم هو رفع نسبة الحصة التركية من اقتصاد ليبيا ونفطها، بعد إحكام سيطرة «الأطلسي» عليها؟
أردوغان الأطلسي
اليوم يتابع أردوغان ـــ العلماني، الذي لا يتورع عن بثّ النعرات العنصرية، سيرة أجداده الحقيقيين من الاتحاديين، لا من العثمانيين (لا يفرق كثير من السوريين القوميين والوطنيين بين العثمانيين والاتحاديين)، فجماعة الاتحاد والترقي أهانوا العرب والقوميات الأخرى، وحاولوا تتريكهم. وتطوير السلطنة بلبوس حداثي زائف لم يفعل أكثر من تسريع تفتيتها، وهم من قادوها إلى حربين خاسرتين. ومن حقنا، ونحن لسنا من أصحاب نظرية المؤامرة، أن نشك مع الإسلاميين أنفسهم في أنّ ماسونيي الاتحاد والترقي قادوا الدولة إلى الانهيار، وفي أنّ بعض رجالاتهم المؤثرين لم يكونوا أكثر من حالات اختراق استخبارية غربية، كما يتهمهم الإسلاميون بالضبط .
ومن الجيد ذكره هنا حسرة ولوعة وخيبة السلطان عبد الحميد كما أورد في مذكراته، من واقع إدارته المخترقة، التي يصول ويجول في عاصمتها القناصل والسفراء الأجانب. وهو يروي بحزن وقهر أنّ صدره الأعظم، رئيس وزرائه، الإصلاحي مدحت باشا كان يقبض من الانكليز راتباً شهرياً!
فدولة علمانية يتزعمها شخص كأردوغان لا بدّ أن تكون في المكان الخطأ، إذ تستجلب مقاتلين من أربع جهات الأرض لمحاربة «ملة كفار» من العرب على الجانب الآخر من الحدود. وبين مواطنيها الأتراك ملايين من نفس الملة، وبعضهم عرب سوريون. وهؤلاء يقيمون على أرضهم التاريخية في كيليكيا، وفي إسكندرون، التي ضُمت قسراً إلى تركيا كرشوة لضمان موقفها في الحرب العالمية الثانية.
في عهد أردوغان، النموذج الإسلامي المعتدل، مسلحون يهددون مواطنين أتراك بسبب انتمائهم المذهبي. فالجهادي القادم ليقاتل كفاراً في سوريا لا يجد فرقاً بين سوري أو تركي على طرفي حدود مصطنعة، فرضها الاستعمار بتآمره وتحطيمه للدولة العثمانية.
بشار العثماني
في ذروة العلاقات بين سوريا وتركيا عام 2009، حظي الرئيس السوري بشار الأسد باستقبال اسطنبولي لافت. وفي زيارة، تخللها إفطار رمضاني، ألقى الأسد كلمة قدّم فيها مقاربة لعلها الأفضل لوريث مدرسة قومية في مقاربة التاريخ العربي – التركي في حقبته العثمانية.
يمكن تلخيص مقاربة الأسد، في كلمته تلك، للعلاقة مع تركيا تاريخياً بما يلي:
إعادة العلاقة إلى طبيعتها وإبعادها عن شذوذها لأنّ الأخطاء التي تتراكم على مدى العقود يصبح من الصعب رؤيتها وتصحيحها. ويصبح سهلاً لوم الآخرين وخاصة الاستعمار الأجنبي الذي يعتمد مبدأ «فرّق تسُد» للوصول إلى أهدافه.
لقد أخطأنا بحق أنفسنا عندما قبلنا أن نكون وقوداً للصراعات الدولية الكبرى، فأحرقتنا مراحلها.
بعد قرن ولتلافي الوقوع بذات الخطأ ولمحو آثاره، رأى الأسد أنّ المطلوب هو «بناء القرار الوطني المستقل، الذي يعني بديهياً التوافق في المصالح مع أبناء المنطقة الواحدة».
استراتيجية لعن الأرواح
العقل الشامي الذي حكم سوريا برؤية استراتيجية خلّاقة منذ حافظ الأسد، أعاد وصل ما انقطع مع إسطنبول، طارحاً فكرة ربط البحار الخمسة، (الأسود – المتوسط – الأحمر – الخليج العربي – قزوين) حيث تتشاطرها شعوب إسلامية تملك ثروات باطنية هائلة، وطاقات بشرية خلاقة، وتاريخاً مشتركاً، وسوقاً اقتصادية بقيت موحدة 1300 سنة، قبل الغزو والتدخل الغربييْن.
ولهذه الرؤية الاستراتيجية ما لا يمكن لثوار «لعن الأرواح»، ومعارضي الفضائيات الناعقين على القبور استيعابه، وهو المعبّر الأدق عن جذرهم الإسلامي التوحيدي الذي اختطفه الشيطان النفطي – الأردوغاني لحساب الغرب الاستعماري، الذي لم يجد أفضل من حنين الشعوب إلى ذلك الماضي وسيلة لإعادة تحطيمها مرة أخرى، عبر حقنها بمخدر يعيد إنتاج تبعيتها السياسية والاقتصادية للغرب، ويعيد تشكيل الجغرافيا والهويات القلقة.
أردوغان فوق الشجرة
لم يتورط الأسد بالانسياق في العداء لتركيا الكيان ـــ الشعب، ولا حتى الردّ على إهانات أردوغان، بل إنّه طالبه بالصدق فقط، وأبدى حرصاً وتفهماً للأتراك بغلوّهم القومي، كما بالغ على ما يبدو بالصبر على إساءة الجار العائد من مكر الغرب التاريخي. أردوغان عاد وشهر خنجر الغرب، ومرر سلاحاً ومقاتلين، وخرّب جسر الشغور لخلق أزمة نزوح إنساني تمكّن من تمرير قرار أممي تحت الفصل السابع حول سوريا، كما حصل في ليبيا.
ويلوّح اليوم بالحرب انتقاماً لخمسة قتلوا بقذيفة مجهولة على الحدود، التي فتحها للمسلحين من أربع جهات الأرض. وهو الذي اتخذ من ضحايا سفينة مرمرة، سلّماً لتسويق اسمه لدى العرب.
وها هو بشعبيته المتراجعة، يتنازعه حب الكرسي، واعتلاء الرئاسة التي حرم منها ذات يوم، بينما يقوم عرب وأميركيون بدفعه أكثر نحو حافة هاوية رهيبة.
ولا بدّ أنّ ذاكرته محشوة بسيرة رجالات التغريب والاتحاد والترقي، الذين دفعوا السلطنة نحو حربين مدمرتين.
ولا يبدو من قبيل نظرية المؤامرة القول إنّ الاتحاديين نفذوا دوراً مرسوماً لهم بدقة. فوثائق التاريخ ومنطقه، خلال قرنين من العلاقة الرهيبة مع الغرب، سيخلقان للعربي المتوازن العقل والعاطفة حاسة سادسة («أنتي ـــ استعمارية») بكلّ تأكيد، إلا أنّ الغفلة العربية تبدو أقوى حتى الآن، بفضل أساطيل إعلامية مدججة بالتقنية وخلاصة أبحاث الميديا وعلم النفس، والانثروبولوجيا، تستفيد من خلل في العقل العربي اسمه «الذاكرة».
نجح الغرب في تحطيم السلطنة، وحوّل الأتراك من لاحم أساسي للدولة، إلى أقلية محصورة في الأناضول، ليفسح المجال مجدداً لمصطفى كمال أتاتورك لاسترجاع أراض فقدتها مقابل القطيعة التامة مع الشرق والإسلام. وصُممت دولة تركية رخوة، تدين ببقائها للغرب، وتركع على أسواره مستجدية شراكة ذيلية.
ولئن كان القوميون الحداثيون الأتراك معول الهدم الأمضى قبل نظرائهم العرب والأرمن والأكراد، فإن الإسلاميين اليوم عرباً وأتراكاً يكرّرون ذات الغلطة التاريخية، ولعلّ الارتباط بالغرب ومشاريعه وثقافته ورعاية مصالحه، هو القاسم المشترك بين ثورات بدايتي القرنين الماضي والحالي.
لقد أسهم أردوغان بخياره المدمر للمنطقة في سفك دماء سورية بريئة، لقد صعد إلى أعلى شجرة، وإن كانت لم تهتز بشدة حتى الآن، إلّا أنه سيكون من الجيد لتركيا وسوريا والإسلام أن ينزل عنها، قبل أن يقع المحظور.
ولا يغرنّ الإسلاميين هذا الحلف مع الغرب و«تبادل المصلحة»، فهم لن يكونوا سوى رأس حربة للفتنة القذرة بين السنّة والشيعة، ولا مكان لدى الغرب سوى لليبرالية متهتكة، وإسلام تابع ذليل بلا محتوى محمّديّ. فلن تمرّ سنوات حتى تجري إزاحتهم عن المسرح بقوة الإعلام والمال النفطي اللذين جاءا بهم.
السؤال الشاق الذي يؤرقني اليوم كشاب تراجع مبكراً عن دعم ما سمّي «ثورة حرية شبابية مدنية» في سوريا، هو كيف ستتابع سوريا صمودها الأسطوري في وجه هذا الفجور المدمر للدولة والشعب والمستقبل، عبر تحطيم ثلاثية العقل ـــ الأخلاق ـــ الدين في ذواتنا، كنتيجة طبيعية لهذه الهستيريا الثورية الحالية التي ينفخ في قربتها إعلام دموي فاجر؟
الاخبار
River to Sea Uprooted Palestinian
The views expressed in this article are the sole responsibility of the author and do not necessarily reflect those of this Blog!
No comments:
Post a Comment