في كل تفجير ارهابي ينفرط عقد الكلام الجميل وتتبعثر حبات اللؤلؤ والزمرد على الأرض .. وتقع أيقونات اللغة على التراب في كل مكان .. فماذا يقال للدم .. غير كلام من دم؟؟ وهل احمرار الياقوت يساوي احمرار الدم؟؟
أحس أحيانا أن الكلام يمكن أن يتحول الى قمامة وانه يستحق أن نتعامل معه بالمكانس اذا لم يقل ماتريد قلوبنا بصدق أو اذا كان فقط صدى لما يريد الآخرون .. ولذلك فلن أقول صدى مايريد الآخرون بل مايريده قلبي ..وقلبي هو خيط العقد الذي سيحمل الياقوت الأحمر..ياقوت الدم..
أما كلام القمامة فقد انفردت فيه لغة المعارضة وثورات الربيع طوال سنتين .. فبعد كل بيان واجتماع وتصريح وتفجير كنت أقوم بكناسة الكلام المتساقط من الشاشات المعارضة والثورية والذي تراكم على الأرض كشظايا البلور المحطم .. كناسة كلام المعارضة كان دوما عملا ضروريا واسعافيا لأن من يسير حافيا على كلام الثوار سينزف من عقله لا من قدميه وستنغرز شظايا الزجاج في عينيه .. فلاتتعبوا أنفسكم في قراءة تفجير دمشق وتفسيراته ..لأن رسائل التفجير وصلت الى عناوينها دون أن تخطئ .. وقام بتسليمها سعاة بريد جبهة النصرة ..
ففي تفجير دمشق انتقلت القطعان الثورية الهائجة الى حالة فريدة وهي أنها لم تعد تعبأ بالرأي العام السوري ولابخداعه كما دأبت طوال سنتين .. فقد طاف بها الكيل .. بل صارت تغامر غير مكترثة بالمجاهرة بالحيوانية والعنف .. ولم تعد حريصة على ادخار آخر مالديها في ذخائرها الثورية من خطابات ظمئها للحرية والانعتاق .. نعم لقد قررت المعارضة التخلص من حالة الحرج والتمثيل التي امتهنتها طوال سنتين .. حيث كانت تقتل وتتهم النظام .. وتفجر الشوارع وتمسح أيديها المضرجة بالدم بجدران أجهزة الأمن السورية وتتهمها بأنها تريد اخافة الناس من الثورة السلمية وثورة الكرامة ..وتذبح الضحايا وتمسح سكاكينها باسم الرئيس وعائلته .. لكنها اليوم قررت الخروج من عباءة البراءة وصوف الخرفان الوديع وصمت الحملان دون وجل .. ولم تعد تعنيها آراء الناس ولاتعاطفهم معها ولااقتناعهم بطهارتها لأسباب كثيرة سنمر عليها ..
ومما يلفت النظر كثيرا هو أنه حتى المجلس الوطني والائتلاف قررا أن عملية خداع الناس لم تعد ضرورية خاصة بعد الأدلة الدامغة على أن ثورجيي الكرامة هم من ينسف الشوارع ويرسل الانتحاريين المجانين .. فتغطى الائتلاف بالأمس باعلانه التقية بأول ادانة لتفجير ارهابي .. ولم يتأخر في الادانة الا سنتين فقط !!.. أي بعد خراب البصرة كما يقال .. لكنه في اعلانه هذا فانه كان يقر بشكل غير مباشر ولأول مرة بأن الثورة هي من قامت بالتفجير لأنه لم يقم كما اعتاد باستعمال الأغطية والملاحف الكبيرة والشراشف في اخفاء الثورجيين عن مسرح الجريمة .. ولم يقم كعادته بمسح الدم عن سكاكين الثورة وانيابها .. ولم يتبرع كما اعتاد بالتبرع بارشاد الناس والسير في مقدمة العراضة الى حيث القاتل من أجهزة الأمن السورية.. بل اكتفى ببراءة باعلان الادانة .. وهذا يعني أنه يريد أن يقول : "نعم ليست الدولة من يقوم بالتفجير .. بل نحن من يقوم بالتفجير" .. وفي اعماق هذا الاعتراف غير المباشر حاجة ماسة لاعلان المسؤولية .. وغاية الاعتراف هي الدفاع عن الموقف العسكري للثورة وهي تتعرض للقضم اليومي.. فترد بالتفجير لتقول:
ان من يعتقد أن هناك ضعفا في "الثورة" أو أنها واهنة فهو واهم ..
ومن ينتظر سقوطها الوشيك فهو واهم ..
ومن ينتظر قبولنا الحوار فهو واهم ..
ومن ينتظر الحل السياسي فهو واهم لأن الحل هو عسكري .. وعسكري فقط ..
كتبت المعارضة رسالتها على أوراق من أجساد السوريين ووتركت الرسالة في بريد منطقة المزرعة على قارعة الطريق واختارت أهم نقطة التقاء لطرق في دمشق حيث يكاد كل سوري قد مر مرة واحدة على الأقل في حياته من تلك النقطة لأن تلك النقطة هي الطريق نحو جميع سورية .. فلا يوجد سوري مر في دمشق لم يدخل عبر تلك العقدة والطريق الشهير (شارع الثورة) .. أو مايسمى أبهر دمشق .. ان تلك النقطة هي الشريان الأبهر لدمشق ومنها تسافر ضخات الحياة نحو سورية كلها .
تقول الرسالة الثورية مايلي ودون مواربة: هانحن في الشريان الأبهر ..فاما نحن واما هو؟ .. أي اما أن تقبلوا بنا بالقوة حكاما قادمين والا فسنرسل كل يوم رجلا آليا مبرمجا يسمونه (انتحاري) .. يرسل ابناءكم الى الموت .. سلّموا أيها السوريون .. فتسلموا ..
في تكتيك التفجير يراد بث الرعب في نفوس السوريين فيقبلون بما لايقبلون به .. رغما عن أنوفهم ..للوصول الى معادلة جورج بوش الشهيرة: "من ليس معنا فهو ضدنا .. وغالبية السوريين ليست معنا .. فهم ضدنا ..ومن ضدنا يجب أن يموت"..
وفي هذه العقلية يكمن خطر مميت لأنها تضع نفسها لأول مرة في مواجهة الجميع علنا .. وتقرر بشكل مجنون استفزاز جميع الشرائح الشعبية حتى الرمادية منها..وهي التي ستضع عنق المعارضة تحت حد المقصلة ..
هذه الأوهام والقمامات الثورية هي مايستدعي أن نحمل مكانسنا وننظف الطرقات منها ثم نرمي بها الى الحاويات العفنة.. لاتسيروا فوق هذا الزجاج المهشم من الأوهام والحطام كيلا تصاب بالجراح عقولكم وعيونكم .. لأن رسالة القمامة الثورية تقول للسوريين بالحرف مايلي:
1- لم نقدر على الأسد ولا على جيشه بعد سنتين من دعم الدنيا كلها لنا .. ونعترف أننا فعلا لانقدر عليه .. ولن نقدر عليه وجها لوجه لافي ساعة الصفر ولا في البركان ولا في الملاحم .. وعليكم أن تعينونا عليه لأنه ثبت في مكانه بسببكم وخسرنا معركتنا بسببكم .. فكما نصرتموه وانتصر .. فان عليكم أن تخذلوه كي ننتصر ..
2- ومما تقوله الرسالة من تحت ركام الأوهام رسالة على نقيض مبدأ قديم يقول: اضرب الراعي تتشتت الأغنام .. ليصبح مبدأ الثوار هو (شتت الأغنام لتضرب الراعي) .. ان ضرب العائلة يوجع راعيها .. لذلك فلنضرب الأسد حيث يتوجع ..اضربوه في أكثر نقطة توجعه وتجبره على الأنين .. اي اضربوا الأسد في "عائلته الدمشقية" .. وعائلته هم الشعب الذي رفعه ووضعه في قصر الرئاسة .. وهي الشعب الذي ملأ الساحات دعما لبرنامجه السياسي ..وضرب العائلة سيوجع كبيرها وراعيها .. اضرب الأبناء يتراجع الوالد .. اضربوا الاخوة .. يتقهقر الأخ المحارب ويبتعد عنا ..
3- ومما تقوله الرسالة ان الضغط العسكري في الأرياف خانق على الثورة .. والثورة تريد أن تتنفس فالحذاء العسكري في فمها في الريف يضغط وهو يعصر رقبتها عصرا .. فتقرر المعارضة أن تضرب بذيلها في أي مكان مؤلم لتخفيف الضغط عنها .. وضرب المدنيين أشد ايلاما من ضرب العسكريين ..هذا الاستنتاج مبني على اعترافات ووثائق القي القبض عليها وفيها مراسلات واقتراحات سابقة من بعض صقور (الثورة) بأن تخفيف الضغط عن المقاتلين في الارياف لن يتم الا عبر الضغط على النظام عبر المدنيين .. وسيقوم طرف ثالث بتسليم رسالة تهديد للنظام بأن استمرار الضغط العسكري على عنق الثورة الريفي سيدفع ثمنه النظام في شوارع مدنه .. وهذا ماسيخلق حالة من النقمة لدى المدنيين من تردي الوضع الأمني اذا ماتتالت التفجيرات .. لأن الضغط الشعبي كفيل برفع حذاء الجيش عن أعناق الثورة..
4- هناك طرف لايزال يريد عصر المفاوضات بين الدولة السورية وخصومها الدوليين في المنطقة حتى آخر قطرة فكان تصريح العربي والابراهيمي عن ضرورة استبعاد الرئيس الأسد من الحلول بعد شيوع أجواء انفراج وتلا هذه التصريحات مباشرة تفجير دمشق (الذي كان يتنبأ به البعض بعد تلك التصريحات التي بدت موطئة له) ليزيد من الوزن النوعي لتصريحات العربي والابراهيمي ..
في التعامل مع العمليات الانتحارية لاتوجد هناك بطولة لأنها هي بحد ذاتها من أسهل أنواع العمليات تنفيذا .. فهذه العمليات يمكن ان تنفذ كل يوم في كل مدينة في العالم .. فأنت لاتريد الا حمقى يتصرفون كالروبوتات تتم برمجتها بعناية وفق برامج غسيل الدماغ .. وتحتاج الى متفجرات يمكن لأي شخص صناعتها من مواد كيماوية ..لم تنج منها لندن ونيويورك وتل أبيب
ولكن تعالوا نعرج على عباقرة الصهيونية عندما واجه الاسرائيليون سنوات الانتفاضة الفلسطينية وفوجئ الاسرائيليون بموجات من الاستشهاديين الفلسطينيين في مدنهم وشوارعهم لسنتين متتاليتين قتلت أربعة آلاف اسرائيلي .. فقرر الاسرائيليون الدخول في عملية سلام مع الفلسطينيين .. وعندما سئل رابين عن سبب قبوله للسلام بعد عناد ورفض قال: في الماضي كنا وعلى مدى عقود نخيف الفلسطيني بقتله .. لكننا اليوم أمام شخص يريد ان يموت .. فماذا يمكنني أن أفعل مع شخص لايريد أن يعيش بل أن يموت.. هل أقتله؟؟
لذلك دخلت عملية السلام ..
وتبين أن الاسرائيليين يراوغون ليكسبوا الوقت لأن رابين دخل عملية السلام مؤقتا ودوّخ الفلسطينيين بالمفاوضات ولم يعطهم أكثر من بلدية رام الله .. لكن في نفس الوقت كان الساسة الاسرائيليون يقومون بعملية دراسة واسعة للعقل الجهادي ويقومون بعمليات اختراق كثيفة أفقية وعمودية لجسم حماس من القاعدة حتى رأس الهرم .. فتم فهم سيكولوجيا العقل الجهادي .. واستعان الاسرائيليون بالعقل الوهابي لتدمير العقل الجهادي .. فكانت عمليات نيويورك تقريبا هي بداية نهاية موجات الانتحاريين الفلسطينيين .. وكأن من صمم عمليات 11 ايلول أراد منها احراج العمل الاستشهادي بأن حوله الى فعل جريمة وحشية حيوانية..
ومنذ ذلك التاريخ خرجت العمليات الاستشهادية من شوارع اسرائيل نهائيا وتنقلت في شوارع العالم لتستقر في شوارع بغداد والعراق .. وأخيرا لتحط في دمشق حيث ترقد دجاجة القاعدة على بيوض جبهة النصرة لتفقس تلك الثعابين .. في عش المعارضة السورية .. عش الحرية والديمقراطية ..
فهل يقدر الاسرائيليون على شيء لانقدر عليه؟؟؟ ما نعرفه حتى هذه اللحظة هو أننا نمسك بلجام المشكلة وأننا على ظهر الدابة .. وعلينا أن نشد اللجام .. حتى تتألم الدواب!! ..
هذه الأيام القاسيات ستمر .. شاءت المعارضة أم لم تشأ ..شاءت اسرائيل أم لم تشا .. شاءت تركيا والعرب أم لم يشاؤوا .. ونحن سنقبل التحدي .. وفي كل تفجير حقير نعرف أننا كنا على صواب في احتقارنا لهذه الثورة ولهؤلاء الثوار ولهذه المعارضة .. ونعرف أننا كنا على صواب في اختيارنا الوطني وفي رفضنا القطعي لمعارضة تقتل وتسرق وتبيع الوطن ..
وستغادر التفجيرات شوارعنا .. وسنسير في شوارعك يادمشق ولن نوقف دفق الحياة في شرايينها وشريانها الابهر .. لأن أجمل الموت هو أن يكون في دمشق وفي شرايينها وأوردتها .. ولأن أقوى الجذور هي التي تصنعها الشرايين في سفرها العميق في تراب الوطن .. وليس صحيحا أن طعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمر عظيم .. فاذا كنا نموت فلنمت في دمشق .. حيث طعم الموت العظيم .. من أجلك يادمشق..من أجلك يادمشق...
The views expressed in this article are the sole responsibility of the author and do not necessarily reflect those of this Blog!
No comments:
Post a Comment