بقلم نارام سرجون
دمي ليس قطعة قماش من مخمل أحمر يهدى لامرأة انكليزية أو فرنسية لتصنع منه وشاحا أحمر على كتفيها في الحفلات .. وقلب أمي ليس ريشة وردية كبيرة تضعها سيدة أوروبية على قبعتها ..
والأشجار التي زرعها أبي ليست أخشابا لتصنع منها أراجيح الأولاد في أوروبة والمشانق لأطفال الشرق .. ولكن هذا الغرب يصنع من دمنا مخملا أحمر وسجادا للحفلات الديبلوماسية والاستقبالات .. ويسحق مدننا ويصنع من جدران بيوتنا ومزق شوارعنا بطاقات انتخابية كي تكتمل الدورة الديمقراطية الغربية ..
الانتخابات الاميركية التي هي أيقونة الحرية وخلاصة التجرية الديمقراطية الغربية ومصدر فخرها انتخابات لاتجري في واشنطن أو نيويورك أو فلوريدا أو في أي مدينة أميريكية .. فالانتخابات الأميركية تخاض في مدن العالم قبل مدن أميريكا .. ويطحن المتنافسون المدن البائسة وبعجنونها بدم أبنائها ويصنعون من غبارها بطاقات الانتخاب للحزبين الجمهوري والديمقراطي .. فالصراع بين الديمقراطيين والجمهوريين كان يخاض في كوريا وكمبوديا .. ثم في فييتنام .. وفي السبعينات حط رحاله في الشرق الأوسط ولم يرحل عنه منذ ذلك الوقت .. فكل حزب أميريكي يعتبر الشرق الأوسط مصنعا للأوراق الانتخابية .. ولذلك يبدأ التصويت الاميريكي في تل أبيب قبل أي مدينة أخرى .. وفي عصر القاعدة خاض الاميريكون الانتخابات في أفغانستان وكابول .. ثم خاضوها في بغداد والفلوجة .. وكان كلا الحزبين يقدم عروضه المجانية بالقتل والمجازر على حساب العراقيين وحريتهم وحياتهم ..
اليوم في زمن داعش والنصرة والاسلاميين العرب شاءت الأقدار أن الانتخابات الامريكية حاول الاميركيون أن يخوضوها من حلب .. الا أن معركة حلب صارت في نهاياتها ولاأفق ولاأمل في انتصار غربي فيها .. والحزب الديمقراطي الاميريكي يرى في خروج الاميريكان من حلب هزيمة لمشروعهم وخطوطهم الحمر وانهيار الردع الاميريكي وسمعة أميريكا التي سيعكسها خصومهم في الدعاية الانتخابية.. وقد حاولوا التلاعب بالوقت والاعصاب عبر مسرحيات التلويح بالغضب وتزويد الارهابيين بالسلاح ولكنهم وجدوا أن المطرقة الروسية والسورية قد هوت على مقاتلي النصرة في حلب ولم يعد بالامكان ايقافها .. وهذا مايفسر الاسراع في اطلاق معركة الموصل .. وتسابق الاتراك مع الامريكان للقفز من حلب الى الموصل .. لأن حلب خرجت من السباق الرئاسي الاميريكي .. لأن الديمقراطيين سلّموا انهم لم يعد بمقدورهم الاحتفاظ بحلب وتحويلها الى أيقونة الردع الاميركية في وجه بوتين والاسد لتقول هيلاري كلينتون أمام ترامب الذي يوبخها: اننا لجمنا بوتين وأرغمنا الأسد على أن يتوقف عن ابادة السكان في حلب وأنقذنا مشروع الحرية في حلب .. وسنكمل المشروع في الرقة بعد وصول هيلاري الى السلطة ..
تقديرات العسكريين والخبراء الاميركيين ان خطة بوتين والأسد تسير وفق ايقاع ثابت في حلب بشكل دقيق وأن اذلال أميريكا في حلب سيكون له تأثير كبير على حملة هيلاري كلينتون التي سينظر اليها على أنها مرشحة البيت الديمقراطي الذي فشل في تحدي روسيا في مدينة تحولت في اعلام اميريكا والغرب الى مدينة تعهدت أميركيا برسم خطوط حمر حولها .. ولكن لم يتمكن كل الغرب الطيب من انقاذها وتراجع أوباما عن مواجهة أخلاقية أمام روسيا كانت ستقدم أميريكا على أنها أمة تنتصر للأخلاق وتمنع الجرائم وتعزز حقوق الانسان والحرية ..
التراجع في حلب يجب أن يعوضه انتصار معنوي أخلاقي من نوع آخر وهو التقدم في أرض داعش للرد على ترامب الذي يصر على أنها من دمى هيلاري كلينتون وصناعتها .. و الانتصار على داعش على الطريقة التركية سهل جدا ومضمون حيث تأتي أوامر غامضة للدواعش للانسحاب والتقهقر .. وكأن الانسحاب يأتي برسالة لاترد من السماء يحملها جبريل .. فيتحول الدواعش التواقون الى الموت والانتحار في سبيل الحوريات الى حملان وديعة تنسحب بهدوء دون أن تطلق رصاصة ودون الرغبة في رحلة الى السماء للعشاء مع النبي ولا لمضاجعة الحوريات ..
وربما تكون الرقة أفضل الخيارات لمثل هذه المسرحيات الأميركية الهزلية .. لكن تحرير الرقة يواجه مشكلة كبيرة وهي أنها تحتاج أيضا موافقة روسية سورية لأن الروس والسوريين لن يقبلوا بأن تضع أميريكا قدمها وثقلها في شرق سورية تحت اية ذريعة وخدعة ومسرحية .. وقد يتكرر مشهد حلب في الرقة حيث تذل أميريكا أمام تحد روسي سوري جديد ليست أميريكا في وارد تجربته .. ولذلك كانت الموصل هي البديل عن الهزيمة في حلب .. كما أن دفع داعش نحو شرق سورية سيجعل مهمة بوتين والأسد صعبة أكثر في قطف الانتصارات .. فالموصل عراقية وكلمة أميريكا في العراق أقوى من كلمة روسيا بحكم الاتفاقات الامنية والتواجد العسكري للخبراء والطيران .. اضافة الى أن جبريل سيهبط من السماء في الموصل كما هبط على جرابلس وأبلغ رسالة السماء الى الدواعش بأنه أذن للذين يقاتلون ألا يقاتلوا (تركيا) !! .. وستسقط الموصل سقوطا سينمائيا كالعادة ويحتفل العالم بمساعدة اميركيا للعراق لقهر داعش .. وتصل الاخبار الى أميريكا عن تحرير الموصل وهزيمة داعش وقطع أحد رأسيها في الموصل حيث سيعد الديمقراطيون بعملية بتر الرأس الثاني في الرقة بعد الانتخابات .. وهذه مسرحية ثانية منتظرة حيث تخرج داعش لتثبت أميريكا قوى أخرى موالية لها تنتشر على امتداد خط الفرات وتكمل عملية فصل سورية والعراق .. على مسار النهر .. وهذا مايفسر محاولة تكثيف داعش في الرقة واسقاط دير الزور .. حتى البوكمال..
وبدأنا نرى أن فصول هذه المسرحية تتكشف عبر انفلات أعصاب أردوغان حيث ان رائحة الطبخة الأميريكية قد وصلت الى أردوغان الذي تشممها بأنفه السلجوقي وتنبه الى سرعة رفع الفيتو الذي كان مفروضا على تحرير الموصل والزخم الذي تدفق فجأة في أعصاب السياسيين العراقيين بعد طول انتظار .. وعرف أن داعشه العثمانية القلب التي أحبها وأنفق عليها مشروع عمره العثماني ستصبح في وضع مختلف وأن الموصل ستصير ملكا للعراقيين بمساعدة الاميركيين وحلب ستعود للسوريين بمساعدة الروس .. وقد جن جنونه وهو يتحدى العراقيين أن يمنعوه من دخول الموصل لأنه يعرف ان النصر فيها محسوم ضمن اللعبة الاميركية التي لعبها باتقان مع الاميركيين في جرابلس ودابق السوريتين .. وهو يريد أن يشترك في مسرحية جرابلس الشهيرة في الموصل لا أن يكون بعيدا عنها .. أردوغان يبتز أصدقاءه الامريكان بأنه لن يقبل الا أن يحل محل داعش في الموصل أي يتم تغيير ثياب داعش الى ثياب ميليشيات أثيل النجيفي .. فقلبه يتحطم وهو يرى حلب تنزلق من بين يديه حيث لم يتمكن من دفع قواته الى حلب كما كان يخطط لسنوات .. وهو يريد أن يفعها اليوم الى الموصل اذا أخرج من حلب ..
معركة الموصل اذا في توقيتها هي في الغالب اعلان غير رسمي على أن معركة حلب في خواتيمها وأن الاميريكيين قرروا ألا تكون حلب حاضرة في الانتخابات الاميركية كهزيمة سياسية مجلجلة حيث يظهر بوتين العظيم كالقيصر الذي أخذ حلب عنوة من مخالب النسر الاميركي بعد كل المناورات واللقاءات والألاعيب والاستعراضات .. لكن ضجيج النصر السهل و(الممسرح) في الموصل سيخفي الهزيمة المنتظرة في حلب ويخفي حقيقة أن الاميركيين قد تبولوا في ثيابهم عندما أعلن الروس أن صواريخهم لن تنتظر لتعرف وجهة الصواريخ الأميركية اذا هاجمت أهدافا سورية وستعتبر الهجوم على الجيش السوري هجوما على القوات الروسية في سورية .. كما أن السلاح النوعي المضاد للطائرات سيكون خطا أحمر لن تغفره روسيا لمد يتجرأ عليه ..
للاسف تبدو معركة حلب تخاض في الموصل .. فيما معركة الموصل تخاض في واشنطن .. فنحن في المماحكات بين الأحزاب الغربية المتصارعة على الفوز بالسلطة أشبه مانكون بالطفل في دائرة الطباشير التي تحكي عن نزاع بين أم حقيقية ومزيفة تدعي كل واحدة أن الطفل في الدائرة طفلها وتريد شد ذراعه اليها .. الا أننا لسنا في دائرة الطباشير التي حكت عنها الحكايات بل نحن في دوائر الطباشير الانتخابية الغربية تحشر فيها مدننا كالأطفال بلا حول ولاقوة .. وفي دائرة الطياشير الانتخابية لسنا بين أمّ حقيقية وأمّ مزيفة تشد كل واحدة ذراع الطفل الى جهتها .. بل نحن بين امرأتين مزيفتين وقاض مزيف (هو ديمستورا) يشد بنفسه الطفل الى جهته .. وتشد كلتا المرأتين ذراع الطفل نحوها والقاضي المزيف يشده أيضا .. ولايعني أيا منهم ان تمزق الطفل أم لم يتمزق .. المهم أن تكسب الجولة السياسية وتصرفها في بضع بطاقات انتخابية ..
الموصل وحلب .. ذراعا الشرق المتمددتان بين سورية والعراق في دائرة الطباشير الانتخابية الاميركية .. والحزبان المتنافسان على الانتخابات الاميركية يتنازعان السيطرة عليهما لأن جدران حلب وشوارع الموصل تحولت الى بطاقات انتخابية بيد الشعب الاميركي .. ودماء السوريين والعراقيين وكل العرب تصنع منها وشاحات حمراء مخملية تناسب الأكتاف البيضاء .. وربطات عنق وسجاد أحمر يسير عليه الرئيس الاميريكي المنتخب ..
River to Sea Uprooted Palestinian
No comments:
Post a Comment