Thursday, 21 September 2017

من التحوّلات الميدانية إلى التحوّلات السياسية



سبتمبر 20, 2017

زياد حافظ

3

عرضنا في المقال السابق بعض التحوّلات الدولية والإقليمية الناتجة عن التحوّلات الميدانية في كلّ من سورية والعراق. وكما ذكرنا سابقاً فإنّ المشهد الدولي لا ينفصل عن المشهد الإقليمي والعربي. وكذلك الأمر بالنسبة للمشهد العربي. ففي السياق العربي نبدي الملاحظات التالية.

أولاً: كانت الإنجازات الميدانية في كلّ من العراق وسورية إضافات عزّزت الدور الإيراني وعلى حساب دور حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة وفي مقدّمتهم دولة الكيان الصهيوني وفي الجزيرة العربية حكومة الرياض ومجلس التعاون الخليجي. ففي هذا السياق، نعتبر أنّ فعالية مجلس التعاون ككتلة سياسية مهيمنة على المشهد السياسي العربي خلال العقد الماضي تراجعت بشكل ملحوظ بعد انفجار الأزمة بين حكومة الرياض وحكومة الدوحة.

ثانياً: إنّ قراءتنا لتلك التطوّرات تفيد بأنّ مصر لعبت دوراً مفصلياً في تحييد دور مجلس التعاون الذي كانت تقوده حكومة الرياض. لذلك أصبحت حكومة الرياض مكشوفة وأضعف بعد الإخفاق المدوّي في كلّ من اليمن والعراق وسورية، وحتى في لبنان، مع «تحرّر» نسبي لرموز لبنانية

موالية لها من توجهّات كادت تبعدها نهائياً عن السلطة. ونضيف إلى كلّ ذلك تراجع سعر برميل النفط الذي أثّر بشكل مباشر وكبير على قدرة حكومة الرياض في الاستمرار في سياسة الإنفاق الداخلي والخارجي العبثي في آن واحد. كما أنّ الابتزاز الأميركي لحكومة الرياض أفضى إلى شفط ما يقارب 450 مليار دولار من احتياطها المالي. وبغضّ النظر إذا ما تمّ دفع تلك المبالغ أو لا، فإنّ الانطباع في مجمل الأوساط المراقبة هي تراجع القدرة المالية لحكومة الرياض في التأثير على القرار العربي بشكل عام، وبالتالي على الصعيد الإقليمي والدولي.

دور مصر في إفشال قمّة ترامب ونتائجها السياسية المرتقبة لتشكيل حلف أطلسي عربي سني في مواجهة إيران، وتلقائياً محور المقاومة، كان عبر الخطاب الذي ألقاه الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي في قمة الرياض التي جمعت قادة من الدول العربية والإسلامية مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب. فمصر تستعيد تدريجياً وعلى خطى ثابتة استقلالية قرارها السياسي. فمن جهة حافظت على التواصل والتفاهم مع حكومة الرياض حتى في المغامرة غير المحسوبة في العدوان على اليمن، وعلى محاربة جماعات التعصّب والتوحّش والغلوّ التي دعمتها حكومة الرياض بشكل مباشر وغير مباشر. وبالتالي استطاعت أن تحيّد في الحدّ الأدنى حكومة الرياض تجاه توجّهات مصر وفي الحدّ الأقصى الاستفادة من المساعدات المالية. غير أنّ إصرار الرئيس المصري في خطابه في القمة على إدانة كلّ من يموّل الإرهاب فجّر العلاقة مع حكومة الدوحة، وبالتالي وحدة الموقف في مجلس التعاون. ومن المفارقات التي نتجت عن تلك القمة هي الانفصام في المواقف. فمن جهة كانت بعض قرارات تلك القمة إدانة لجماعة الإخوان المسلمين وحركة حماس وحزب الله، ومن جهة أخرى فتحت مصر صفحة جديدة من العلاقات مع حركة حماس. فترميم العلاقة بين مصر وحماس يقلق الكيان الصهيوني وينسف نتائج قمة الرياض في حلف سني يخدم أهداف الكيان.

من جهة أخرى وبعد خمسين سنة على خروج مصر من اليمن، تحت ضغط حكومة الرياض وما رافقها من شبهات بدور الأخيرة في العدوان الصهيوني على الجمهورية العربية المتحدة، أصبحت مصر مَن يستطيع إخراج بلاد الحرمين من التعثّر في اليمن عبر احتوائها وليس عبر احتواء حكومة الرياض لمصر. قد ينقلب المشهد كلّياً وذلك بسبب حكمة السياسة المصرية ودقّتها في الملفّات المعقّدة.

ثالثاً: أما على صعيد علاقة مصر بالكيان الصهيوني، فرغم كلّ التصريحات الرسمية بين الدولتين، فهناك أنباء مصدرها وسائل الإعلام في الكيان الصهيوني تفيد أنّ صفقة الأسلحة الأخيرة بين الولايات المتحدة والكيان الصهيوني والتي تشمل تسليم 17 طائرة من طراز «أف 35»، هي لمواجهة «العدو» المصري! كما أنّ المشروع الصهيوني لربط المتوسط بإيلات عبر قناة يمرّ بالأردن هو تهديد مباشر للأمن القومي المصري، لأنه تعدّ مباشر على قناة السويس.

رابعاً: إنّ قرار جامعة الدول العربية بالتنسيق مع السلطة الفلسطينية في إنشاء لجنة مهمّتها العمل على منع حصول الكيان الصهيوني على مقعد دائم في مجلس الأمن لم يكن ليحصل لولا مباركة مصر.

خامساً: إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ العقيدة القتالية للجيش في جمهورية مصر العربية هي أنّ العدو هو الكيان الصهيوني، وبما أنّ الكيان لم يعد يخفي نظرته العدائية لمصر، ففي رأينا فإنّ الخط البياني للعلاقة بين مصر والكيان سيصل إلى تفريغ اتفاقية كامب دافيد من مضمونها في فترة قد لا تكون بعيدة. عندئذ يكتمل دور مصر في التوازن الإقليمي والدولي وعلى الصعيد العربي. وما قد يسرّع في ذلك التحوّل العداء الأميركي لمصر المتمثّل بقرارات الكونغرس الأميركي بتخفيض ملموس للمساعدات الأميركية وربطها بقرارات تمسّ السيادة المصرية. هذا ما لا تقبله مصر وقد يحرّرها من الجنوح إلى الولايات المتحدة. لم تصل الأمور حتى الآن إلى القطيعة مع الولايات المتحدة غير أنّ الحكومة المصرية بادرت منذ فترة بتبنّي سياسة التوازن وتنويع مصادر تسليحها ونسج علاقات مع دول بريكس التي تُوّجت بدعوتها لحضور القمة الأخيرة لها.

4

التحوّلات الميدانية في كلّ من العراق وسورية ستشكّل قاعدة للتحوّلات السياسية في المشرق العربي بشكل مباشر. فالتلاقي الميداني بين قوات الجيش العربي السوري وحلفائه وفي طليعتهم المقاومة مع قوات الجيش العراقي وحلفائه على الحدود له دلالات عديدة.

أولاً: إنّ التلاقي هو الردّ القومي على تجاوز مفهوم الحدود الموروثة من الحقبة الاستعمارية والذي حاول تسويقه مشروع الدولة الإسلامية في العراق والشام، على حدّ زعمه. فالتلاقي على الحدود يكرّس وحدة الدم العربي في مواجهة المشاريع التقسيمية والتفتيتية التي يحاول الحلف

الصهيوأميركي فرضها على بلاد الشام وبلاد الرافدين. وهذا التلاقي يحاكي ويشفي غليل المواطن العربي الذي ينادي بوحدة الصف والموقف والتكامل تمهيداً عندما تسمح الظروف الموضوعية والذاتية لتحقيق الوحدة، حلم أبناء الأمة.

ثانياً: إنّ تصريح القائد الميداني لقوّات حزب الله على الحدود السورية العراقية وتأكيده على عروبة العراق، هو الردّ الميداني على ما حاول المحتلّ الأميركي تحقيقه في نزع عروبة العراق عن دستوره. كما هو تأكيد على إفشال تقسيم العراق إلى كيانات مذهبية متناحرة. فالعروبة تجمع أبناء الأمة بينما الطروحات الأخرى تفرّق بينهم.

ثالثاً: إنّ تأكيد أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله أنّ الرئيس السوري بشّار الأسد هو القائد لمحور المقاومة، يؤكّد أولاً على قومية المعركة في وجه جماعات التعصّب والغلوّ والتوحّش، وثانياً، أنها تنفي الادّعاءات المشكّكة في الدور العربي لمحور المقاومة. فالتحالف مع الجمهورية الإسلامية في إيران هو تحالف ندّي وليس تحالفاً تابعاً لأيّ جهة إقليمية أو دولية.

رابعاً: إنّ قرار الرئيس السوري بالتوجّه نحو «الشرق» على الصعيدين السياسي والاقتصادي يشكّل نقلة نوعية مفصلية قد تُخرج نهائياً الغرب من التأثير في الأقطار العربية في منطقة الشرق الأوسط. إنّ التلاقي الميداني السوري العراقي يواكب التلاقي السوري مع العمق الآسيوي أولاً مع إيران وثانياً مع دول بريكس. هذا التلاقي يربط بحر الصين ببحر المتوسط بشكل غير منقطع رغم محاولات الولايات المتحدة في قطعه بانتشاره المتعثّر في أفغانستان.

هذا الصمود ثم النصر التاريخي والأسطوري بدأت انعكاساته على المحور المناهض لمحور المقاومة. فالسجال المؤسف الذي شهدناه في اجتماع على مستوى المندوبين في الجامعة العربية يعيدنا إلى ما شهدناه منذ ست سنوات، عندما تمّت مخالفة ميثاق الجامعة بتعليق عضوية دولة مؤسّسة لها أيّ الجمهورية العربية السورية. إنّ السياسات العبثية التي اتبعتها بعض الدول الخليجية بدءاً من تغطية احتلال العراق إلى تغطية العدوان الأطلسي على ليبيا إلى العدوان الوحشي على اليمن والعدوان الكوني على سورية أتت أكلُها. فمن استثمر في احتلال العراق وفي الفتنة المذهبية يحصد ما زرعه من مآسٍ وخيبات أمل وتراجع في المصداقية والنفوذ. وهذا التراجع قد ينعكس سلباً في داخل هذه الدول التي استسهلت المراهنة على الخارج. هذا المشهد لا يُفرحنا بل يؤلمنا. والجامعة العربية مدعوّة اليوم قبل الغد أن تقوم بمراجعة جذرية وجريئة لسياساتها منذ تغطيتها احتلال العراق حتى الساعة. ولا تكتمل هذه المراجعة في المؤسّسة وفي الدول المؤثرة فيها إلاّ بعد الرجوع إلى مقاومة الغرب والكيان الصهيوني. كما أنّ المراجعة داخل الجامعة العربية يجب أن تترافق بمشاركة الشعوب، فجامعة الدولة العربية مقتصرة على الحكومات وتقصي الشعوب وهذا لم يعُد ممكناً.

إنّ التحوّلات في العراق وسورية ستكون حبلى بتطوّرات على الصعيد السياسي والاقتصادي في المشرق العربي. فعلى الصعيد السياسي فإنّ التلاقي الميداني بين القواّت العراقية وحلفائها مع الجيش العربي السوري والمقاومة وحلفائه يعني أنّ أيّ مغامرة قد يقدم عليها الكيان الصهيوني أو حتى الولايات المتحدة والحلف الأطلسي ستُواجه بطاقات بشرية ومادية من كلّ قطر عربي. هذا هو فحوى رسالة أمين عام حزب الله في أحد خطاباته الأخيرة محذّراً العدو وحلفائه من أيّ حماقة. فالجبهة الشرقية التي حاولت الدول العربية في الستينيات إيجادها أصبحت قائمة وهذا ما يقلق الكيان الصهيوني.

من التداعيات السياسية إنهاء حالة النفور بين الدولة اللبنانية والجمهورية العربية السورية، علماً أنّ شرائح وازنة في تكوين الكيان اللبناني لم تقطع علاقاتها مع سورية رغم سياسة «النأي بالنفس» العبثية. موازين القوة تغيّرت والمصلحة اللبنانية تقضي بالتفاهم مع الدولة السورية. وقد بدأت ملامح التغيير في المشهد السياسي اللبناني، حيث رموز التشدّد تجاه سورية بدأت بمراجعة مواقفها للحفاظ على مصالحها. كذلك الأمر بالنسبة لحكومة الأردن التي تسعى إلى فتح صفحة جديدة مع سورية.

ولا بدّ لنا من الإشارة إلى أنّ النصر الذي يتحقّق أمامنا ستكون له انعكاسات كبيرة على الصراع مع الكيان الصهيوني. فنهج المقاومة ينتصر في لبنان وسورية والعراق، وبطبيعة الحال في فلسطين. نتوقّع نقلات نوعية في نهج المقاومة في فلسطين بعد ترتيب البيت الداخلي وعودة بعض الفصائل إلى نهج المقاومة وليس التفاوض. فما زالت اللاءات الشهيرة في قمة الخرطوم منذ خمسين سنة صالحة اليوم.

وإذا ربطنا هذه التحوّلات مع التصدّع في مجلس التعاون الخليجي والعودة التدريجية لدور مصر فإنّ ملامح نظام عربي جديد باتت على الأبواب. غير أنّ التغيير المرتقب يحتاج إلى عمل دؤوب لتكريس استقلالية ذلك النظام وتحصينه من اختراقات التطبيع والتبعية. فما كان مستحيلاً منذ فترة وجيزة أصبح ممكناً بل واجباً. فهذه هي مسؤولية النخب العربية المسكونة بوحدة هذه الأمة ونهضتها.

أما على الصعيد الاقتصادي فورشة عملية إعادة إعمار، خاصة بلاد الشام، والتشبيك المرتقب مع بلاد الرافدين بالنسبة للبنى التحتية ستجعل المنطقة تشهد فورة اقتصادية لم تشهدها سابقاً. غير أنّ المشكّكين يثيرون مسألة التمويل الممسوك من المؤسسات المالية الغربية ما يعيد دخولها إلى المنطقة. نعتقد أنّ البدائل للمؤسسات المالية الغربية موجودة، وأنّ الإمكانيات متوافرة سواء من الصين أو الهند أو روسيا أو دول آسيوية أخرى تدور في فلك بريكس، خاصة أنّ كلاً من العراق وسورية تعومان على بحر من النفط والغاز.

في النهاية، فإنّ النصر في سورية والعراق أمام الهجمة الكونية عليهما تحت عناوين جماعات التعصّب والغلو والتوحّش غيّر في المعادلة العربية والإقليمية والدولية. يبقى استثمار هذا النصر لمصلحة شعوب المنطقة. ونختتم باقتباس ما جاء به الدكتور علي فخرو في مقال مثير قائلاً: «والآن، وبعد أن واجه القطران نفس المؤامرات، من نفس المصادر، بنفس أسلحة الغدر والخيانات من البعيد ومن الإخوة الأعداء القريبين، وبعد أن نجح كلّ ذلك في نشر الدمار والاقتلاع واضطرار الملايين للخروج إلى منافي الضياع وفي معاناة ستة ملايين من أطفال سورية وخمسة ملايين من أطفال العراق من المرض والجوع والحرمان من الدراسة والتشرّد في الشوارع، وبعد أن ضعفت الدولتان إلى حدود العجز أمام حركات الانفصال والتقسيم وإشعال الصراعات الطائفية والقبلية… الآن وكلتاهما تحصدان ما زرعه ضياع فرصة التوحيد التاريخية التي أشرنا إليها، فإنّ السؤال … لا بدّ أن يطرح نفسه ويستدعي الجواب الواضح الصريح. السؤال: هل تعلّم القطران الدرس؟ وهل سيستفيدان من عبر أوجاع وأهوال الجراح المتماثلة والمشتركة؟

بمعنى آخر هل سيحدثان زلزالاً استراتيجياً في الأرض العربية من خلال توجههما بخطى ثابتة، حتى ولو كانت تدريجية، نحو تبني وتنفيذ خطوات وحدوية في الاقتصاد والأمن الداخلي والخارجي والسياسة والعمالة والنظام المجتمعي المدني والتربية والتعليم وحقوق المواطنة، على سبيل المثال…؟

أمين عام المؤتمر القومي العربي

Related
River to Sea Uprooted Palestinian   
The views expressed in this article are the sole responsibility of the author and do not necessarily reflect those of the Blog!

No comments: