تدخل الأحداث التي تتفجّر عنفاً في الشوارع الأميركيّة وتشمل عدداً كبيراً من المدن والولايات طريق التعاظم، لأسبوع إضافي، وبمعزل عن حماسة الترحيب بهذه الأحداث أو الدعوات لعدم الاحتفال بها، فهي لا تبدو مجرد احتجاج عابر على مقتل الرجل الأسود على أيدي رجال الشرطة، بمقدار ما شكل الحادث الصادم بطريقته وظروفه، عنصر التفجير لمخزون غضب كان ينتظر فرصة التحوّل إلى شريك في المشهد الأميركي. ومخزون الغضب يتجمّع مع الخطاب العنصريّ للرئيس دونالد ترامب، وزادته تعاظماً بأضعاف مضاعفة الأزمات الاجتماعية الناجمة عن تداعيات وباء كورونا، وتشرد ملايين العاطلين عن العمل من وظائفهم، وانضمامهم إلى طالبي الإعانات، في ظل تراكم مجموعة أحداث سياسية دولية أصابت الهيبة الأميركية، خصوصاً في الجوار المباشر، الذي تمثله فنزويلا، بعدما قدّمها ترامب كثمرة ناضجة للقطاف العنصري لنظامه، وتحوّلت بعد وصول ناقلات النفط الإيرانيّة، إلى عنوان الفشل الأميركي، فيما لا تبدو الانتخابات الفرصة التي كان ينتظرها الشارع الغاضب على ترامب وإدارته لتغيير ديمقراطي، في ظل الصورة الباهتة التي يقدّمها الحزب الديمقراطي، والمشاكل التي تحيط بأهليّة مرشحه جو بايدن لمواصلة السابق الانتخابي، مع ظهور بوادر للتلاعب بالعملية الانتخابية برمّتها، وصولاً لفرضيات التأجيل حتى إشعار آخر.
الغضب وانعدام الأمل هما طريق النزول إلى الشارع، وهما عنصران متوافران بقوة في شارع أميركي ليس محصوراً بأصحاب البشرة السوداء. فضحايا العنصرية التي يضخها خطاب ترامب تتخطاهم لتطال ذوي الأصول اللاتينيّة، والمسلمين، والنساء، والأزمة الاقتصادية الاجتماعيّة تمسّ شرائح كانت تحسب حتى الأمس على الطبقة الوسطى من البيض المتنورين، وتحرك مجموعات الوسط الليبرالي واليساري الذين أظهرت حملة المرشح بيرني ساندرز أنهم شريحة وازنة في معظم الولايات الأميركية، وهذا الشارع المتنوع يبدو أنه ينضم تدريجاً للحركة الاحتجاجية التي تتسع بصورة لافتة على مستوى تنوّع مكوّناتها، وتعدد ولاياتها، لتصير أقرب نحو تشكيل شارع وطني أميركي يواجه سلطة حكم، متوحشة، اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وإعلامياً، يقودها وحش مالي عنصري هو دونالد ترامب، من دون وجود أفق راهن لتسوية في منتصف الطريق، في ظل أزمة اقتصادية مرشحة للمزيد من التفاقم، وشح متزايد في الموارد، مع تراجع عام تعانيه الشخصية الأميركية في العالم، في ظل فقدان السيطرة على الملفات السياسية الخارجية كحاكم منفرد للعالم، من جهة، وتراجع كبير في الصورة العلمية والأخلاقية التي حرص الأميركيون دائماً على إظهار تفوّق نموذجهم في تمثيلها. وكان ما شهدته الولايات الأميركية وخصوصاً نيويورك، في مواجهة وباء كورونا، التعبير الأقوى عن هذا السقوط العلمي والأخلاقي.
المخاض الأميركي يبدو مفتوحاً، بلا أفق واضح لخاتمة قريبة، والحديث هنا ليس عن ثورة ولا عن تغيير نظام بالتأكيد، هو الغضب الشعبي اليائس من قدرة النظام على احتواء الأزمات ضمن مؤسسات الديمقراطية. وهذا يجب أن يدركه الذين يرغبون بإجراء المقارنات مع ما شهده لبنان، ويحبّون بتسميته ثورة، فما يجري في أميركا يشبه ما جرى في لبنان، وليس تغيير النظام في كليهما أفقاً ممكناً، ولا صفة الثورة تصحّ فيه، لأنها بالضبط بلا قيادة وبلا برنامج، وما يجري في أميركا يقول للبنانيين الذين يتساءلون عن معنى احتفال الخصوم السياسيين للإدارة الأميركية بما يجري، بينما لم يفعلوا ذلك تجاه ما جرى في لبنان، الجواب بسيط، هو أنهم لا يرغبون لبلدهم ما يرغبونه لعدوهم، من فوضى ومخاطر أمنية، وضياع للأفق السياسي؛ أما الذين يقولون لماذا لا يطعن أحد بأهلية ما يجري في أميركا من الذين طعنوا بأهلية ما جرى في لبنان؟ فالجواب ببساطة هو أن “لا وجود لسفارة أميركية في أميركا”.
No comments:
Post a Comment