يأتي يوم 28 سبتمبر/ أيلول 2020، ليذكرنا بالذكرى الخمسين لرحيل الزعيم جمال عبد الناصر، أيّ نصف قرن من عمر الزمن والتاريخ، وذلك وسط متغيّرات وظروف بيئية في منتهى القسوة إقليمياً ودولياً، بل ومحلياً داخل الأقطار العربيّة. فنحن نعيش عصر التدهور العربي خاصة في محور الرجعية العربية، مقابل تصاعد محور المقاومة الذي يواجه ضغوطاً غير مسبوقة، ومع ذلك يحقق الانتصارات تباعاً.
ومن أهمّ المتغيّرات التي يواجهها الإقليم والقضية الفلسطينية، ما حدث من اختراق رسمي وعلني صهيوني لدول الخليج التي كانت عربية، لتسقط الدولة تلو الأخرى في براثن الكيان الصهيوني (إسرائيل)، بإعلان التطبيع وتأسيس العلاقات بينهم وبين “إسرائيل”. وفي المقدّمة رسمياً (الإمارات – البحرين)، والبقية في الطريق بقيادة رأس الرجعية العربية وهي المملكة السعودية، وذلك عدا دولة الكويت التي أعلنت رفضها القاطع للتطبيع مع الكيان الصهيوني.
تلك الإشارة هي التي تتعلق بالذكرى الخمسين لرحيل عبد الناصر الذي كان يمتلك رؤية كاملة وشاملة وواضحة إزاء العداء لهذا الكيان الصهيوني منذ بداية قيامه ورفاقه بثورة 23 يوليو 1952، ولعلّ السبب الرئيسي الذي ساهم في بناء رؤيته، هو مشاركته في حرب 1948، التي كانت بداية لتفتح ذهنه وعقله وإدراكه حقائق القضية، وعاد منها مكسوراً، حيث رأى أنّ الطريق لتحرير فلسطين هو تغيير الداخل في مصر والثورة عليه، لتكون البداية لقيادة مصر للصف العربي في مواجهة الاستعمار. فكيف نقضي على الاستعمار الصهيوني في فلسطين، والاستعمار الإنجليزي موجود في مصر، ورأس الحكم (الملك) يتحالف معه ضدّ الشعب والحركة الوطنية؟! فلا بد إذن من تحرير مصر أولاً، وهو ما حدث وقامت ثورة 23 يوليو/ تموز 1952، بقيادة جمال عبد الناصر.
فقد كان عبد الناصر، طبقاً لما هو وارد في “فلسفة الثورة”، وأكده في الكثير من خطبه، أنّ الأعداء السياسيين لمصر والوطن العربي كله، هم: (الاستعمار العالمي – الصهيونية – الرجعية العربية)، وأنّ الطريق للمواجهة الشاملة مع هؤلاء الأعداء تكون بتحقيق الاستقلال الوطني والتنمية المستقلة والشاملة لتحقيق النهضة الحقيقية بالاعتماد على الذات وتحقيق التقدم من خلال التعليم الواسع والصحة والثقافة والإعلام الجيد. فضلاً عن تبنّي مشروع تنموي حقيقي عموده الفقري “الصناعة والزراعة”. ولذلك أنجز بعد التمصير والتأميم، نهضة صناعية قوامها مشروع الـ (1400) مصنع، شاملاً الصناعات الاستراتيجية كالحديد والصلب والفوسفات والسيارات، وغيرها كما أنه في مواجهته للاستعمار خاض معركة بناء السدّ العالي الذي رفض تمويله البنك الدولي وصندوق النقد، فقرر الاعتماد على الذات ودعم الصديق الدولي (الاتحاد السوفياتي)، وتمّ بناء السدّ في (10) سنوات (1960 – 1970م).
حيث إنّ السدّ العالي، ساهم في توليد الكهرباء وهي أساس مشروع النهضة الحديثة في الصناعة والزراعة، وتوصيل الكهرباء للريف المصري وكلّ أنحاء مصر. كما أنّ كلّ ذلك – حسبما رأى وفعل – مهدّد إذا ما لم يتأسّس على تحقيق العدالة الاجتماعية وبناء طبقة وسطى، ودعم الكادحين، وعمودها الفقري العمال (صناعيين وزراعيين)، وموظفو الدولة والقطاع العام.
ولذلك، فقد أصدر جمال عبد الناصر، قانون الإصلاح الزراعي في 9 سبتمبر/ أيلول 1952، بوضع الحدّ الأقصى للملكية (200 فدان – صارت بعد ذلك إلى (50) فدانا، وقام بتوزيع الباقي على الفلاحين ليتحوّلوا من أجراء إلى ملاك، فيتم إصلاح حال البناء الطبقي في مصر في ضوء ذلك تدريجياً، وأعاد بذلك توزيع الدخل القومي والثروة لصالح الأغلبية.
ثم خاض معركة تأميم قناة السويس في 26 يوليو/ تموز 1952، ويستردّها للشعب، بعدما طرد الاستعمار الإنجليزي، وذلك بعقد اتفاقية الجلاء، وبعد رفض البنك الدولي والصندوق تمويل السدّ العالي، كعقبة أمام استقلال واستقرار مصر، فكان ردّه العاجل والمباشر هو تأميم قناة السويس، واستعادة ملكيتها للشعب المصري، فكان ردّ فعل الاستعمار هو العدوان الثلاثي (بريطانيا – وفرنسا – “إسرائيل”) على بور سعيد، والذي فشل، وانتصرت مصر التي أدركت ما وراء وجود هذا الكيان الصهيوني في المنطقة العربية كخنجر في ظهر الأمة العربية.
ولم يهدأ الاستعمار والصهيونية والرجعية، وذلك بافتعال أزمة، أسهمت في نكسة 1967، وكان عبد الناصر يتمتع بحسّ المسؤولية، حيث أعلن عن مسؤوليته وتنحى عن منصبه، إلا أنّ جماهير مصر الواعية أدركت عمق المؤامرة على مصر وفلسطين والعرب، وتمسكوا به، وأجبروه على التراجع فما كان منه إلا أن أعاد بناء القوات المسلحة بنفسه، وأدار حرب الاستنزاف على مدار (1000) يوم وأكثر من (1400) عملية عسكرية ضدّ “إسرائيل”، وأعدّ خطط الحرب النهائية (جرانيت1، جرانيت2، والخطة 200). ولكن القدر لم يمهله حتى يحقق النصر الكامل على الأعداء، ولكن ما حققه كان المقدمة لحرب أكتوبر 1973، بحسم.
وفي أعقاب النكسة، دعا عبد الناصر لعقد لقاء قمة عربية في الخرطوم، ليعلن اللاءات الثلاث وهي: (لا.. للصلح، لا.. للتفاوض، لا.. للاعتراف).
هذه هي مكونات الموقف العربي الشامل ضد الكيان الصهيوني ومن ورائه من استعمار ورجعية عربية متآمرة حذرنا جمال عبد الناصر، كثيراً، من خطورتها باعتبارها عميلة الاستعمار الأميركي.
فقد عرضت عليه مشروعات للتصالح مع “إسرائيل”، يستردّ بها كل سيناء مقابل الصلح، ورفض معلناً أنّ “فلسطين قبل سيناء”. إلا أنّ القوى المضادة لعبد الناصر ومشروعه، بدأت خطواتها من داخل مصر في عهد السادات. فلم يكن السادات ينوي الحرب لتحرير الأرض التي احتلتها “إسرائيل”، والدليل طرحه لمبادرة فتح جزئي لقناة السويس، في 4 فبراير/ شباط 1971، وفتح قنوات الاتصال بالمخابرات الأميركية وإدارتها، عبر المخابرات السعودية ومديرها آنذاك كمال أدهم، فضلاً عن قيامه بتأزيم العلاقات مع الاتحاد السوفياتي وطرد خبرائه في يوليو/ تموز 1972! لكن كان للقوات المسلحة المصرية بالتنسيق مع القوات المسلحة السورية (الجيش الأول)، والقيادة السورية، الكلمة الفصل وممارسة الضغوط عليه، حتى قبل الدخول في الحرب ووافق على قرار الحرب، وبعد العبور وتدمير خط بارليف في (6) ساعات، وفي اليوم نفسه (6) أكتوبر/ تشرين الأول بدأ فتح قناة الاتصال مع الأميركان للتراجع للأسف! وازدادت ضراوة القوة المضادة للناصرية بقيادة السادات، بعد حرب أكتوبر، إيذاناً بعصر الانفتاح، والرأسماليّة، وعودة الإقطاع، والتصالح مع الرجعية العربية، والتواصل مع أميركا.. لتصل الأمور لقمتها بالذهاب للقدس 1977، ثم كامب ديفيد 1978، ثم المعاهدة المصرية الإسرائيلية عام 1979! كمحاولة لطوي صفحة الصراع العربي الصهيوني، إلى صفحة “السلام الوهمي”! وكان الهدف هو تعبيد الأرض لسلامات وانكسارات باتفاقيات مشبوهة في وادي عربة وأوسلو، إلى أن تمّ مؤخراً مع الإمارات والبحرين، والبقية الخليجية في الطريق كما هو معلن للأسف مع الكيان الصهيوني، رسمياً، والداعم أو الراعي الرئيسي له وهو ترامب، الرئيس الأميركي، في محاولة لإنقاذه من الرسوب في الانتخابات المقرّر لها بعد شهر وأيام من الآن، وإنقاذ نتنياهو من السجن والعزل!
ختاماً: فإنه في ظلّ الذكرى الخمسين لرحيل الزعيم جمال عبد الناصر، مؤسّس فكر المقاومة الحقيقي، يمكن القول بأننا سنظلّ على الطريق مقاومين للتبعية، ومقاومين للكيان الصهيوني حتى الزوال وتحرير كلّ فلسطين من النهر إلى البحر.
وسنظلّ متمسكين باللاءات الثلاث، (لا صلح.. لا تفاوض.. لا اعتراف).
كما سنظلّ مقاومين لتحقيق الاستقلال الوطني والتقدم والحرية والاعتماد على الذات وتحقيق الديمقراطية، حتى بلوغ الوحدة العربية قريباً إنْ شاء الله…
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، والأمين العام المساعد للتجمع العربي الإسلامي لدعم خيار المقاومة، ورئيس الجمعية العربية للعلوم السياسية.
فيديوات متعلقة
مقالات متعلقة
No comments:
Post a Comment