شكراً لرفاق القوميين الاجتماعيين الذين بإحيائهم على مدى أعوام لذكرى رفيقهم شهيد الاستقلال في بشامون سعيد فخر الدين، يذكّرون اللبنانيين بأنّ استقلالهم لم يأت دون شهداء وتضحيات، وأنه لم يكن نتيجة ضغط بريطانيّ على الانتداب الفرنسي، كما يحلو للكثيرين تصويره..
ولكن كم من اللبنانيين يعرف أنّ البطل فخر الدين لم يكن الشهيد الوحيد في تلك الأيام العشرة الفاصلة بين اعتقال أركان حكومة الاستقلال 11 تشرين الثاني وإعلان الاستقلال في 22 تشرين الثاني 1943، بل كان هناك 14 شهيداً و 44 جريحاً في طرابلس تمّ إطلاق النار عليهم في ساحة السلطي في شارع المصارف، بعد اعتقال المغفور له عبد الحميد كرامي مع الرئيسين بشارة الخوري ورياض الصلح والوزراء كميل شمعون وعادل عسيران وسليم تقلا، بالإضافة الى شهداء أطفال المدارس في صيدا الذين تمّ قتلهم بالدم البارد أمام مقر الحاكم الفرنسي…
بل كمّ من اللبنانيين يذكر كيف اتّحد اللبنانيون، كما لم يتحدوا من قبل في معركة الاستقلال، فصنعوا في شوارع عاصمتهم وسائر المدن والأرياف، كما في برلمانهم والحكومة المؤقتة في بشامون وفي قلعة راشيا، ملحمة الاستقلال التي صنعت للبنانيين استقلالاً، ولكن لم تكن كافية لتصنع لاستقلالهم دولة الحق والقانون والعدالة الخالية من أمراض الطائفية والفساد والارتهان للقوى الخارجيّة..
لم يكن إهمال الرواية الكاملة لملحمة الاستقلال جزءاً من الإهمال المزمن الذي يعاني منه اللبنانيّون منذ أكثر من 77 عاماً، بقدر ما كان جزءاً من خطة خطيرة بعناوين متعدّدة.
أوّل العناوين ترسيخ القناعة لدى الشعب اللبناني أنّ لبنان قاصر تتقاذفه لعبة الأمم ولا يستطيع شعبه ان يحقق نصراً لا في الداخل ولا على الخارج إلا «بمعونة أجنبيّة»، وهو ما يتجلّى اليوم حين باتت المبادرة الفرنسيّة هي حبل نجاة اللبنانيين في مفارقة تاريخيّة تقول «إنّ من اجتمع اللبنانيون جميعاً بالأمس لإخراجه، من بلدهم أصبح اليوم محطّ إجماع الطبقة السياسيّة الحاكمة لإنقاذ البلد بعد 77 عاماً من الاستقلال.
ثاني العناوين تكريس الانطباع أنّ الاستقلال كان نتيجة جهود فوقيّة بين سياسيين وسفراء لا ثمرة كفاح شعبيّ دامٍ قدّم خلاله اللبنانيون العديد من الشهداء مباشرة في لبنان، أو من خلال انخراط العديد منهم في الثورة السورية الكبرى عام 1925 بقيادة سلطان باشا الأطرش والتي يجمع المؤرّخون وفي مقدمّهم المؤرخ الكبير الأستاذ شفيق جحا أنها كانت أحد أبرز الأسباب التي أدّت الى استعجال المندوب السامي الفرنسي منح لبنان دستوره عام 1926، وهو الدستور الذي ما زال معمولاً به بعد تعديلين أولهما يوم الاستقلال، وثانيهما بعد الطائف عام 1989.
ثالث العناوين هو انتهاج سياسة حرمان بعض المدن والمناطق اللبنانيّة من الإعلان شرف المشاركة بدماء أبنائها في ملحمة الاستقلال، وكأنّها ناقصة «اللبنانية» لتبرير حرمانها طيلة عهود الاستقلال من أبسط حقوقها ومن تشغيل أهمّ مرافقها، ولعلّ ما تعرّضت له مدن كطرابلس وصيدا وجبل عامل وأرياف الشمال والبقاع من حرمان هو أنصع دليل على هذه الخطة.
من هنا، وفي ظلّ إهمال الطبقة الحاكمة لشهداء تلك الملحمة الاستقلاليّة الرائعة، والذين لم يستحقوا حتى زيارة «بروتوكولية» لمدافنهم، كما هي زيارة أضرحة الرؤساء والوزراء والزعماء الذين شاركوا في تلك الملحمة، نشعر انه لا بدّ من أن نذكر أسماء أولئك الشهداء، خصوصاً في طرابلس وصيدا، مذكرّين أيضاً بلوحة في قلعة الاستقلال في راشيا تضمّ أسماء كلّ أبناء تلك المنطقة الذين استشهدوا في معارك ضدّ الاحتلال الفرنسي.
أما شهداء طرابلس فهم: سليم صابونه، أحمد صابر كلثوم، رشيد رمزي حجازي، فوزي قاسم شحود، عبد الغني أفيوني، عباس إبراهيم حبوشي، محمد علي حسين خضر، عبد القادر مصطفى الشهال، كمال عبد الرزاق ضناوي، وديع خاطر بركات، أحمد جوجو، محمد حسين الحمد وسليم الشامي.
وفي صيدا استشهد في انتفاضة 1936 ضدّ الانتداب، برصاص جنود الانتداب الذي أصاب ايضاً كتف المجاهد الشهيد معروف سعد وأدّى الى استشهاد كلّ من: عبد الحليم الحلاق، محمد مرعي النعماني، ناهيك عن كوكبة من طلبة المدارس في صيدا الذين استشهدوا او جرحوا برصاص الانتداب أمام مركز المندوب الفرنسي وهم الشهداء: سعد البزري، ثروت الصباغ وشفيقة ارقدان.
فكيف تكون احتفالاتنا في عيد الاستقلال في غياب أيّ ذكر لشهداء الاستقلال، بل في غياب أيّ محاسبة لمن أوصل لبنان الى ما هو عليه من حال مزرية على كلّ المستويات، ومن فساد ما زال أقوى من كلّ محاولات التصدّي له، حتى بات «استقلالنا» هذه الأيام هو «طرد» شركة تدقيق جنائي لمصرف لبنان وحساباته، ولوزارات الدولة ومؤسساتها، من بلادنا، حرصاً على «الصندوق الأسود» الذي بات أهمّ من استقلال الوطن وحقوق المواطن.
No comments:
Post a Comment