Sunday, 10 January 2021

السيرة الذاتيّة لأمين الجميّل: عندما يصبح الارتهان للخارج «مقاومة» [١]

 الأخبار


 أسعد أبو خليل السبت 9 كانون الثاني 2021

السيرة الذاتيّة لأمين الجميّل: عندما يصبح الارتهان للخارج «مقاومة»  [١]
(هيثم الموسوي)

يبدو أنّ السيرة الذاتية باتت موضة متّبعة عند الكثير من سياسيّي لبنان، والبعض يستعين بكتّاب – لكن من دون تسميتهم على الغلاف أو في مقدمة الكتاب (يُسمّونهم هنا “الكتّاب الأشباح”، لكنهم يحظون بتنويه في الكتاب، على الغلاف، أو في المقدمة، وذلك اعترافاً بجهودهم). لا ندري إذا كان أمين الجميّل قد كتبَ الكتاب (أمين الجميّل، “الرئاسة المقاوِمة، مذكرات”) بنفسه، أم انه كتبه بالفرنسيّة واستعان بمترجم، لأنّ الكتاب يبدو أنه مُوجّه للقارئ الغربي أكثر من العربي (هو يشرح لنا مثلاً أنّ رفيق الحريري كان رئيساً لحكومة لبنان أو أنّ “ياسر عرفات المعروف بـ”أبو عمّار”، ص، ٣٠). لكن إذا كان الجميّل يظنّ أنّ كتابه سيلقى صدًى في دول الغرب، فهذا يعني أنّ أمين الجميّل لم يتعلّم بعد من دروس تجربته الرئاسيّة الفاشلة والكارثيّة، والتي كلّفت شعب لبنان الآلاف من الضحايا، وفي زمن لم يعد هناك من مجال لتحميل الشعب الفلسطيني ومقاومته المسؤوليّة عن الحرب الأهليّة. إذا كان الجميّل يظنّ أنه سيكون لكتابه تأثير في الغرب، فهذا يعني أنه لم يفقْ بعد من سكرة تنصيبه رئيساً من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي (لا تعنيني موافقة نواب الرشوة، باستثناء نجاح واكيم وزاهر الخطيب). وأمين الجميّل مملٌّ جداً كمتحدّث، ومملّ أيضاً ككاتب. وهو ينقل أحياناً في سيرته مقاطع من مدوّنته الخاصة، والمقاطع كفيلة بعلاج مرض الأرق. كان عناء القراءة سيقلّ لو أنه لم يستشهد من مدوّناته (المكتوبة بالفرنسيّة).

الكتاب لم يعدّه مؤلّفه وناشره للقراءة. هذا كتاب علاقات عامّة. لا يمكن للمؤلّف الذي وافق على هذا الحجم الكبير للكتاب ووزنه (وهو يُصنَّف هنا بأنه «كتاب طاولة القهوة»، أي الكتب التي يعرضها الناس على طاولة كبيرة في الصالون بغرض الزهو وتكون عادة عن تاريخ الفنون أو الهندسة المعمارية) أن يتوقّع قراءة الكتاب. ووجدتني أجد صعوبة وأنا أحمل الكتاب مستلقياً على الأريكة، لأنّ وزن وحجم الكتاب كانا مزعجيْن جداً، وتقليب الصفحات لم يكن مريحاً البتّة. أراده الجميّل كتاباً يوزّعه على الأمراء والشيوخ والسفراء الذين يزهو بمعرفتهم في متن الكتاب.

المشكلة في الكتاب أننا نتعامل مع كاتب له تاريخ طويل في العمل السياسي وله سمعة غير عطرة في الحقل العام. ومن الصفات التي ارتبطت بالجميّل صفة انعدام المصداقيّة والتحايل والكذب. وبناءً عليه، فإنّ الكثير ممّا جاء في الكتاب يسهل دحضه وتكذيبه وتفنيده. أعطي مثالاً شخصيّاً: يستفيض المؤلّف في كتابه بالاستعانة بشفيق الوزّان للتدليل على أنّ قراراته لم تكن فرديّة أو صادرة فقط عن رئيس الجمهوريّة، كأنّ رئيس الجمهوريّة قبل «الطائف» لم يكن حاكماً مستبدّاً يفعل ما يشاء ولم يكن رئيس الوزراء – خصوصاً في حالة شفيق الوزان – إلا ديكوراً فقط. قابلتُ أمين الجميّل عندما كان رئيساً، في منتصف الثمانينيات، بمبادرة من والدي الذي كان على معرفة به (المحرّر: والد الزميل أسعد هو إحسان أبو خليل الذي شغل منصب الأمين العام لمجلس النواب سابقاً). وكنتُ أجري مقابلات مع سياسيّين في معرض كتابة الأطروحة، واقترح والدي أن أقابل شخصاً اعتبره عدوّاً، واصطحبني إلى قصر بعبدا لهذا الغرض. والذي علّقَ بذهني من مقابلته والحوار الذي جرى (واحتدّ) أنه كان يشيدُ بشفيق الوزان ويزعم أنه يُشركه في كلّ قراراته. وبعد اللقاء، قابلت الوزّان كي أسأله عن ذلك، فما كان من الأخير إلّا أن نفى ذلك بانكسار، وأذكر لهجته الحزينة وهو يقول لي: لم أكن أعلم بما يُدار ولم يتم إشراكي بأيّ من القرارات. طبعاً، الوزان لم يكن رجلاً نزيهاً أو بريئاً، لأنّ فريق الجميّل استماله بطرق لا تختلف عن طرق استمالة رفيق الحريري لأفراد الطبقة الحاكمة في لبنان. كما أذكر من هذا اللقاء لهجة الجميّل عن خصومه عندما قال لي: لا نبيه برّي ولا وليد جنبلاط «يغبّر على صباطي». وعندما تجادلتُ معه كان يقول لوالدي متبرّماً إنني متأثّر بالدعاية الأميركيّة ضدّه.

الكتاب يعتمد على محاضر ووثائق يصنّفها المؤلّف بـ«المحفوظات الشخصيّة»، وبعض هذه هي «مدوّنات خاصّة في سجل اليوميّات». لكنّ هذا التوثيق لا يكفي أو لا يُعوَّل عليه – خصوصاً في حالة الجميّل – إلا إذا فتح الجميّل أرشيفه أمام الباحثين وجعل هذه المحفوظات الشخصيّة متاحة للعموم كي يتسنّى لنا مقارنة الأصل (مثل محاضر اجتماعات) بالفرع، الذي يرد في الكتاب والذي يخضع حكماً لتفسيرات الجميّل المؤاتية له. وهذا ضروري في حالة الجميّل، لأنّه شخص يفتقر إلى الحدّ الأدنى من «التأمّل الداخلي» كي لا نقول إلى نقد الذات الذي هو أبعد ما يكون عنه. هذا رجل عمل في السياسة، أو ورثها مع منزل العائلة في بكفيا، من دون أن يعترف بخطأ واحد له، أو حتى هفوة. هذا رجل مُصاب بعقدة لوم العالم كلّه على أخطائه والكوارث التي تسبّبَ بها. لم يكن يمكن أن يرتكب رئيس جمهوريّة وأن يتسبّب بإراقة دماء كما ارتكب وتسبّب أمين الجميّل (الاستثناء الوحيد قد يكون أخاه بشير لو تسنّى له الحكم). العالم كلّه خذله، في الغرب والشرق، وكلّ الأطراف في لبنان خذلته، في المقلبَيْن، وهو وحده المحق. خذوا شعاره المُضحك: «أعطونا السلام وخذوا ما يدهش العالم» (والشعار وُضع بالإنكليزيّة – هناك تكملة للشعار وهي «مرّة أخرى»، أي أنّ لبنان أدهش العالم من قبل. والشعار هو ببساطة طلب الجميّل من دول الغرب أن تسلّم له لبنان على طبق من فضّة (أو ذهب إذ أنه يفضّل الأنفس)).

يبدأ نسج الأساطير في الكتاب مبكراً، فتصبح هجرة العائلة من لبنان إلى مصر مجرّد طلب للحريّة (المضرّجة، على قول أحمد شوقي). هذه كما يحب الأميركيّون أن يردّدوا مقولة إنّ الهجرة إلى أميركا هي دائماً طلبٌ للحريّة. أي أنّ الفقراء اللبنانيّين الذين توافدوا، قبل وبعد المجاعة، إلى «العالم الجديد» كانوا ينشدون الحريّة. تقرأ ذلك وتظنّ أنّ كلّ مهاجر لبناني وأفراد عائلة الجميّل، هم أمثال هادي العلوي أو غسان كنفاني أو جورج حجّار، كتّاب راديكاليون ثوريّون لا تتّسع البلدان لهم بسبب ثوريّتهم ومجاهرتهم بطلب التغيير الجذري. الهجرة اللبنانية هي بهدف تحسين الوضع المادي وطلب الرزق. يقول إنّ هجرة جدّه كانت بسبب مطالبته بالاستقلال، لكن ليس هناك من مصدر أو دليل على أنّ هجرة جدّ أمين وشقيق جدّه كانت بسبب نشاطات نضاليّة لهما (ص. ١٩). ثم إنّ سبب مطاردة السلطات العثمانيّة لبعض اللبنانيّين كانت أحياناً لأنّ هؤلاء كانوا من دعاة الاستعمار الأوروبي وليسوا من دعاة الحرّية والاستقلال الناجز.

يبدأ نسج الأساطير في الكتاب مبكراً فتصبح هجرة العائلة من لبنان إلى مصر مجرّد طلب للحريّة


ويبلغ الطموح بأمين حدّاً يجعله يحاول أن يُقنع القارئ أنّه أديب ومفكّر. لكن، يا أمين: أنتَ في العمل السياسي منذ السبعينيّات، والناس يعرفونك ويسمعونك وقد خبِروك عن كثب في النيابة وفي قصر بعبدا. فيقول لنا إنّه تأثّر بشيشرون قبل أن ينتقل إلى جبران وتيار دو شاردان (استشهاد كمال جنبلاط بالأخير جعله مُحبَّذاً من من متصنّعي الثقافة في لبنان). ويزيد أمين أنّه تأثّر بالأدب العربي من ابن الرومي إلى الجاحظ إلى وليّ الدين يكن. لكنّ الجميّل يسمّي الأخير – الذي أحبَّ فيه تمرّده وشجاعته – «نور الدين يكن» (ص. ٢٠). هذا كأن يقول المرء إنّه تأثّر بكتابات جبران سمير جبران. ويحشو الكاتب في نصّه استشهادات لمفكّرين بمناسبة وغير مناسبة: واضح أنّ المؤلّف اقتنى مجلّداً من مجلّدات «كتاب الاستشهادات»، وهو الكتاب الذي يستعمله رجال أعمال وسياسيون من أجل حشو خطبهم باستشهادات لمشاهير الكتاب والمفكّرين، لإضفاء طابعٍ عميق على أنفسهم. ثمّ، إذا كان أمين قد تأثّر بالأدب العربي وبالفلاسفة، فلماذا ليس هناك من أثر لذلك، لا في خطبه ولا في أحاديثه، وحتماً ليس في هذا الكتاب.
وفي روايته عن علاقة رياض الصلح بوالده، تخال أنّ المثياق الوطني – على شناعته كتركيبة نفاق وطني – لم يكن بين الصلح وبشارة الخوري، بقدر ما كان بين الصلح وبيار الجميّل، وهذا يتناقض مع المعروف عن الظروف التي أحاطت بالميثاق (راجع كتاب باسم الجسر عن الميثاق، مثلاً). يدخل تعظيم شأن بيار الجميّل في نطاق المبالغات التي يتّصف بها الكتاب. ويشيد بكميل وزلفا شمعون، لأنّهما «كأنهما ينتميان إلى طبقة النبلاء، وأنّهما خير من يمثّل بلدنا» ويعتزّ بـ«المظهر البريطاني» الذي ورثته زلفا عن جدّتها (ص. ٢٣). هذه معايير أمين. ويزعم في روايته الموجزة عن حرب ١٩٥٨ الأهليّة في لبنان، أنّ عبد الناصر كان يريد إلحاق لبنان بالجمهوريّة العربيّة المتحدة (ص. ٢٣). الحقيقة أنّه كان هناك قطاع كبير في لبنان يريد الوحدة مع الجمهورية الواعدة، لكنّ عبد الناصر رفض حتى مناقشة الموضوع وكان دائماً يصدّ الوحدويّين اللبنانيّين بالقول إنّ للبنان «وضعه الخاص». وهو يعترف في ما بعد في الكتاب بأنّ عبد الناصر رأى أنّه من ««الحكمة» إبعاد لبنان عن النزاع المسلّح» (ص. ٣٠)، وفي الحقيقة أنّ عبد الناصر كان يعلم أنّ نصف لبنان على الأقل (كما اليوم) أقرب إلى إسرائيل منه إلى أعداء إسرائيل، وكان يخشى أن تؤدّي مشاركة لبنان إلى تفجيره.

أطرف ما يمكن أن يمرّ على القارئ في هذا الكتاب هو هذا المقطع: «تضاعفت اتصالاتي ولا سيّما مع جامعة هارفرد التي أصبحت «مربط خيلي»، وما زلتُ أحتفظ معها بعلاقات ودّية» (ص. ٢٥). دعني أوضّح للقارئ: طبعاً، يحقّ للقارئ أن يتساءل عن سبب إقامة جامعة هارفرد علاقة مع أمين الجميّل، غير المعروف بالعلم والمعرفة والفكر. هناك في جامعة هارفرد، كما في بعض الجامعات، أقسام غير أكاديميّة: مثل «كليّة كنيدي» للسياسة أو «مركز العلاقات الدوليّة». و«كليّة كنيدي» مثلاً، تمنح وريقات (سيرتفيكيت) وليس شهادات أكاديميّة يُعتدّ بها، ويستطيع الذي يريد أن يدفع أقساطاً باهظة مقابل شهر أو فترة دراسيّة صيفيّة (كما فعل نجيب ميقاتي أو سامي الجميّل) أن يحصل على هذه الورقة كي يضعها على سيرته الذاتيّة ويوهم الناس أنه يحمل شهادة أكاديميّة من جامعة هارفرد وهذا تزوير طبعاً. أما «مركز العلاقات الدولية» الذي تحدّث عنه أمين هنا، فهو يستضيف دوريّاً مجرمي حرب وزعماء ميليشيات وحكّاماً بصفة «مسؤولين رفيعين» من العالم. وأذكر أنني في عام ١٩٨٩، عندما كنتُ أعمل في التدريس في مدينة بوسطن كنتَ أرى مجرم الحرب الإسرائيلي، أميرام ميتزنا (وكان الحاكم العسكري في الضفة زمن الانتفاضة الأولى) في مترو محطة جامعة هارفرد، وقد يكون أمين تزامن معه هناك. أما أن يقول إنّ جامعة هارفرد هي «مربط خيله»، فهذا يعطيكم فكرة عن عقليّة هذا الرجل. لا، ويزهو أنه تعرّف إلى الأكاديمي العنصري، صامويل هانتغتون، والذي أصبح اسمه منبوذاً في الأكاديميا الأميركيّة والعالميّة. لكن أمين صافحه، كما صافح ألان ديلون وخوليو إيغليسياس عندما زارا لبنان أثناء رئاسته عندما بشّرنا بنهاية الحرب الأهليّة.

سرديّة أمين عن الحرب الأهليّة هي النمط الكلاسيكي للرواية الانعزاليّة بحذافيرها. يُقال لنا إنّ الشعب اللبناني كان يعيش بوئام ومحبّة مع الشعب الفلسطيني، قبل أن تنطلق ثورته (ص. ٣٠). طبعاً، الحقيقة هي مغايرة لما يقوله آل الجميل عن تاريخ لبنان (المعاصر أو السحيق، لا فرق). التاريخ عند هؤلاء هو أسطورة لا تمتّ بصلة للعلم، كما أنّ إيمانهم بالسيادة لا يتعارض عندهم مع التحالف مع إسرائيل. الشعب الفلسطيني كان يعيش سجيناً في مخيّمات تحت وطأة النعل العكسري لـ«المكتب الثاني» الذي لم يمانع في تطبيق عقيدة فؤاد شهاب، والتي كان مفادها أن يتآمر لبنان سرّاً مع إسرائيل ضدّ عبد الناصر وضدّ المقاومة الفلسطينيّة في ما بعد. والشعب اللبناني لم يكن يكنّ التعاطف مع الشعب الفلسطيني لأنّ السخرية من المعاناة الفلسطينيّة والتشكيك في وجع النكبة كانا سائديْن (كانت البرامج الكوميدية التلفزيونيّة تسخر من البرنامج الإذاعي الذي كان يتبادل فيه أبناء الشعب الفلسطيني في مخيّمات لبنان مع الأقارب تحت الاحتلال التحيّات والتطمينات) وبين كلّ الدول العربيّة، كان لبنان هو الأقسى من دون استثناء في تعاطيه مع اللاجئين الفلسطينيّين (يمكن مراجعة كتاب لوري برند «الفلسطينيّون في العالم العربي»). بوقاحة شديدة، يقول عضو الحزب الذي كان منذ الخمسينيّات (على الأقل) يتلقّى الدفوعات من إسرائيل لتمويل حملاته الانتخابيّة إنّ الشعب اللبناني كان يشاطر الفلسطينيّين «أحلامهم باستعادة وطنهم السليب». هل كان الجميّل وصحبه يشاطرون شعب فلسطين هذه الأحلام وهم يتلقّون التمويل من العدوّ؟

ويستشهد أمين الجميّل بمقاله لجدّه أمين الجميّل في مجلّة «البشير»، في عام ١٩٣٠، كأنّ ذلك يشفع للتحالف الذي عقده حزب «الكتائب» مع العدو بعد سنوات. وفي غياب النص الكامل للمقالة لا يمكن إلّا التعليق على الاستشهاد الذي نشره أمين في الكتاب، وفيه يظهر حرصٌ على المستوطنين اليهود إذ يقول أمين (الجد) إنّ وعد بلفور يمكن أن يكون عثرة أمام «راحة اليهود وهناء جيرانهم العرب»، ويضيف: «لم نكتم اليهود خوفنا على مستقبلهم» (ص. ٣١). لكن يجب تعليق الحكم بانتظار قراءة النص الكامل. ويقول أمين (المؤلّف): «عندما بدأت المخيّمات الفلسطينيّة بالغليان، اعترانا الذهول والحيرة» (ص. ٣١). لماذا؟ لم يكن غليان المخيّمات متوقّعاً، على ضوء القمع الذي كان يتعرّض له شعب فلسطين والاعتداءات على نسوة المخيّمات من قبل زعران المكتب الثاني، أو التنكيل والاعتقال والتعذيب التي كان يتعرّض لها الشعب الفلسطيني عندما يتظاهر دعماً لحقوقه؟ ولا يخفي أمين نزعة الاستعلاء الطبقي على أهالي المخيّمات فيعبّر عن استفظاعه قائلاً: «إذا بمستخدم أو عامل فلسطيني عادي كنا نعرفه منذ فترة طويلة يتحوّل فجأة تحت أنظارنا إلى مغوار متغطرس يتقلّد رشاش كلاشينكوف» (ص. ٣١). كان يريد من الشعب الفلسطيني في المخيّمات أن يبقى عاملاً وأن تبقى النسوة عاملات في المنازل وأن يقبل اللاجئون بتواطؤ السلطة اللبنانية مع عدوّهم.

وتبلغ الوقاحة بالجميّل في تزويره لتاريخ الحرب الأهليّة حدّ اتهام ضحايا اعتداءات «الكتائب» بما كان أوغاده يقومون به على «كوع الكحّالة». ومن المعروف أنّ ميليشيا «الكتائب» كانت ظاهرة الوجود في الكحّالة ولها مآثر طويلة في التجاوزات والجرائم ضدّ المارّين في الطريق الذي لا مفرّ منه بين لبنان وسوريا. وتعرّضت قوافل وسيّارات فلسطينيّة إلى اعتداءات دوريّة كما تعرّضت شاحنة تحمل نسخاً من القرآن إلى الحرق. كان الكوع هو المنبر الذي أراد حزب «الكتائب» أن يُعلن فيه خروج ميليشياه السرّية إلى العلن. والحزب تخصّص في تاريخه في تجنّب مواجهة الفدائيّين وجهاً لوجه، وفي التركيز على الكمائن وعلى المجازر ضدّ المخيّمات الفلسطينيّة. لا، يزعم الجميّل في كذبة صفيقة بأنّ الفدائيّين كانوا يتوجّهون إلى الكحّالة – التي هي معقل أوغاد «الكتائب» – وذلك فقط من أجل استفزازهم (ص. ٣٤). هل يُعقل أن يصدِّق المرء ذلك؟ قد تسري هذه الكذبة على القارئ الفرنسي الفاشي من أصدقاء الجميّل عندما يقرأ الكتاب بنسخته الفرنسية، لكن أيّ قارئ عربي يمكن أن يصدّقه؟ هذه الكذبة لا تختلف عن الكذبة الانعزاليّة المألوفة التي يكرّرها الجميّل عن أن مخيّم تل الزعتر المُحاصر (من كلّ الجهات من قبل مناطق ذات نفوذ كتائبي وشمعوني) كان يقوم باستفزاز محيطه، لا العكس. والأكيد أنّ هذه الصيغة من البروباغندا كان العدوّ الإسرائيلي يزوّد «الكتائب» بها كي يستعين بها للتحضير للمجازر التي توالت ضدّ المخيّمات الفلسطينيّة – وكانت هذه المجازر تتزامن مع مجازر لسلاح الطيران الإسرائيلي الذي أحرق في مطلع الحرب الأهليّة مخيّم النبطيّة عن بكرة أبيه – لم يعد لهذا المخيم من وجود اليوم.

وعندما يتطرّق الجميّل إلى الحملة الوحشيّة التي شنّها الجيش اللبناني ضدّ المخيّمات الفلسطينيّة في أيّار / مايو ١٩٧٣ (وكان ذلك بالتأكيد بالتنسيق مع سلطات العدو وكانت رئاسة الجمهوريّة تنسّق مع العدو في حينه، كما اكتشفنا من وثائق أميركيّة أُفرجَ عنها – ثم إنّ الحملة أتت بعد أسابيع فقط من إنزال قوات العدو في قلب الرملة البيضاء والتوجّه نحو فردان من أجل اغتيال قادة في المقاومة، ثم المغادرة عن طريق البحر ومن دون إطلاق رصاصة واحدة من قبل الجيش اللبناني الذي كان يقوده إسكندر غانم، الذي كان قائد منطقة بيروت في عام ١٩٦٨ عندما أحرق العدو طائرات لبنانية مدنيّة بالرغم من ورود تحذيرات إلى لبنان حول هذا العدوان قبل حدوثه). وتلك الحملة (في عام ١٩٧٣) كانت محاولة لتكرار أيلول الأسود في لبنان، لكن الذي منع ذلك – بالإضافة إلى الكفاءة القتاليّة للمقاومة – هو الانشطار الطائفي اللبناني بالإضافة إلى تأييد واسع للمقاومة من قبل قطاعات كبيرة للشعب اللبناني (وليس المسلمون فقط كما توحي دعاية الفرق الانعزاليّة). ويهتم الجميّل في هذا الصدد بإيراد عدد «ضحايا» الجيش اللبناني (كيف يكون الجيش ضحيّة وهو كان المعتدي؟) من دون إيراد عدد ضحايا، ليس فقط المقاومة الفلسطينيّة، بل أيضاً المدنيّين العزّل في المخيّمات (ص. ٣٩). ويؤيّد الجميّل خيار الاستعانة بطيران الجيش اللبناني الذي لم يُستعمل يوماً ضدّ العدو الإسرائيلي. ويحرص (على عادة الفكر الطائفي للحزب الذي يمثّله) على ذكر اسم عزيز الأحدب في تلك الحملة ضدّ المخيّمات، فقط لأنّه سنّي وهو يريد أن يقول إنّ هذا المسلم السنّي كان مشاركاً. طبعاً، لم يكن الأحدب (ذو الفكر الانعزالي الفينيقي) يصنع القرار في ذلك الحين، ولكنّه كان حليفاً لليمين الانعزالي، لكن ذلك لم يمنعه في عام ١٩٧٦ من التعاون مع حركة «فتح» عندما أعلن انقلابه (التلفزيوني) الشهير.
(يتبع)

* كاتب عربي (حسابه على «تويتر» asadabukhalil@)


River to Sea Uprooted Palestinian   
The views expressed in this article are the sole responsibility of the author and do not necessarily reflect those of the Blog!

No comments: