–
بنى الكثير من اللبنانيين بنيات طيّبة أحلاماً على مشهد انتفاضة 17 تشرين 2019، معتقدين أن دخول لبنان في نفق الانهيار المالي والاقتصادي، سيؤدي إلى فتح الباب نحو تغيير جذري في الاصطفافات الشعبية، ويمنح الأمل بولادة دولة مدنية تفرضها حركة شعبية عابرة للطوائف، ورغم المسار التراجعي للحضور الشعبي وصولاً لنضوب موارد الحراك شعبياً، بقي البعض متمسكاً بهذا الأمل على قاعدة أن التردّدات الأشدّ قسوة للأزمة المالية والإقتصادية ستتكفل بإنتاج موجات أشدّ جذرية من الانتفاضة الشعبية بالاتجاه ذاته العابر للطوائف نحو دولة مدنية.
–
بغض النظر عن الاستثمار الذي مثلته بعض الجماعات القيادية الوازنة في الحراك ووسائل إعلام فاعلة سعت لقيادته، لأخذه بوجه المقاومة، أو لفرض عزلة على عهد الرئيس ميشال عون والتيار الوطني الحر، يبقى السؤال حول صدقيّة التحليل القائم على فرضية أن المزيد من الفقر سينتج مناخاً ثورياً مدنياً يدفع لبنان نحو التغيير هو المطروح، خصوصاً أن تجربة لبنان في السبعينيات قالت العكس تماماً، حيث يترتّب على المزيد من الفقر تراجعاً متصاعداً في وزن فكرة الدولة كفكرة لحساب الكيانات الطائفية كهويات كامنة تحت جلد الهوية الجامعة للكيان الوطني. ونهوض الجماعات الطائفية والعرقية بديلاً عن الدولة عندما تظهر عاجزة عن أداء مهمتها في الحماية والرعاية ليس حكراً على لبنان، فهو من ثوابت علم الاجتماع السياسي، كما هو حاصل مكرر في كل تجارب الدول الهشة القائمة على تراضي كيانات وجماعات تنتسب للهويات الكامنة. والحصيلة الثانية التي تقولها التجارب هي أن المكانة المميّزة للبنان في عيون الخارج، وهي مميّزة بعائداتها لمن يمتلك فيه وزناً مؤثراً، ومميزة بمخاطرها على من يترك تداعيات أزماته خارج السيطرة، ما يجعل كل التهاب في الوضع اللبناني مدخلاً لجذب التدخلات، التي تسارع لصناعة تسويات تعيد تركيب معادلة جديدة بين المكوّنات والكيانات الطائفية، كما كان اتفاق الطائف، وكما كان اتفاق الدوحة كملحق تنفيذي لبعض آليات الطائف بتوازنات جديدة، وتتحرّك هذه المداخلات والتدخلات في قلب المتغيرات الدولية والإقليمية التي ولدت في قلبها التسويات التي سبقت، وتلحظ التعديلات التي أصابت الموازين بين اللاعبين الخارجيين.
–
لا يمكن مراقبة الوضع خلال العام الماضي من دون ملاحظة أمرين واضحين، الأول أن الكيانات الطائفيّة التي أصابها الاهتزاز مع الانفجار الاجتماعيّ، والمتموضعة على ضفتين متقابلتين في المأزق الحكومي الراهن، أي فريقي رئيس الجمهورية والرئيس المكلف بتشكيل الحكومة، تسجلان تصعيداً في الخطاب الطائفيّ ونجاحاً في الإمساك المتنامي بشارع طائفي كان يبدو موضوع اهتزاز وتراجع ورهانات على التغيير في مرجعيّته السياسيّة وتسابق الوارثين المفترضين على لعب دور البديل، وربما نكون أمام صورة تتبلور يوماً بعد يوم، يظهر فيها تيار المستقبل أقوى في طائفته عمّا كان عشية 17 تشرين، وبالتوازي يظهر فيها التيار الوطنيّ الحر بصورة الممسك بالشارع المسيحيّ رغم كل الكلام عن تراجعه وتشتت مرجعيّاته، وتبدو الأزمة الحكوميّة وما تثيره من استقطاب وخطاب طائفيين، استثماراً مربحاً للفريقين، ما يفسر امتعاض البعض المتحمّس لإضعاف التيار الوطني الحر ورئيس الجمهورية من احتفاظ الرئيس المكلف بالتكليف من دون تأليف ومن دون اعتذار، لشعورهم بنتائج هذا الوضع لصالح التيار الوطني الحر والعهد، ويكشفون رغبتهم باعتذار الحريري ولو كان في ذلك خسارة كبرى لموقعه الطائفي الذي ينمو في ظل التجاذب القائم، ويقترحون بديلاً يقوم على ترك التيار والعهد يعودان بهما لصيغة تشبه حكومة الرئيس حسان دياب لإعتقادهم بأنها تنهي المناخ القائم على التجاذب والتصعيد الذي يرتاح إليه الفريقان المتقابلان، ولا يبدوان راغبين بإنهائه قريباً.
–
في الطوائف الأخرى لم يتعرّض التمركز الطائفي للاهتزاز بما يغير في اصطفافاته خلال الأزمة، وقد نجح من أصيب ببعض الشظايا بترميم الكثير من صدوعها، والخارج الذي دخل بعضه في رهانات على جعل الأزمة اللبنانية مدخلاً لتغيير جيواستراتيجي في توازنات المنطقة، كما كان الحال مع رهان أميركي معلن بألسنة كبار المسؤولين على إسقاط حزب الله والمقاومة، يعترف بالفشل منذ انطلاق المبادرة الفرنسية، ويعيد صياغة تموضعه الدولي والإقليمي بعد نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية، حيث تتراجع لغة التصعيد لحساب لغة السياسة، ويبدو التقارب الأميركي الأوروبي من البوابة الفرنسيّة عنواناً للمرحلة الجديدة، بمعزل عما سيحدث في ملف العلاقات الأميركية الإيرانية، وهو ليس مزيداً من التصعيد في أحسن الأحوال، بحيث يبدو المسار المقبل واضحاً نحو مزيد من التأزم اللبناني ومزيد من الزخم في المسعى الفرنسي، الذي لم يعد له من مركز نفوذ آخر غير لبنان، ويبدو المسعى الفرنسي مرشحاً ليحوز المزيد من الدعم الأميركي، وبالاستطراد تبدلاً في الكثير من المواقف الإقليمية، والطريق سيكون سالكاً باتجاه واحد، سبق وتحدّث عنه الرئيس الفرنسي، مشروع عقد سياسي جديد عبر حوار ترعاه باريس، يقع في منزلة بين اتفاق الطائف واتفاق الدوحة، ويعيد تعويم النظام الطائفي بقواه المتجذّرة، وفق صفقة تتضمن حكومة سياسية وتفاهماً على الرئاسة المقبلة، وقانون انتخابات جديد، والعديد من التطبيقات الإصلاحية، تحت عنوان تطبيق ما لم يطبق من اتفاق الطائف، ولكن بتوازنات ومعادلات تراعي ما سيثبته اللاعبون المحليّون وظهير كل منهم في الإقليم والعالم من وزن وحضور، وسيفرح المدنيّون اللبنانيون بقانون انتخابات يرجّح أن يكون قائماً على صيغة المجلسين، يفتح طريقاً نحو الخروج من الطائفية كما فرحوا بوعود اتفاق الطائف، لكن سيبقى الثابت أن الدولة المدنية لا يبنيها ممثلو الطوائف، وأن المدنيين الحقيقيين لا يزالون أقليّة وأقليّة ضئيلة.
No comments:
Post a Comment