نارام سرجون
الثلاثاء، 30 نيسان، 2013
أوقات الشام
ليس هناك كيمياء في الدنيا تتفوق على كيمياء اللغة .. كيمياء اللغة هي أخطر من كيمياء السلاح .. والدرس الذي تلقيناه في ربيع العرب يثبت أن العبث بكيمياء اللغة يحولها الى أخطر سلاح كيماوي في الوجود .. كلمة واحدة قد تسبح في دمنا وتسمم العقل وتمنعه من التنفس .. وعبارة واحدة قد ترمى على أهل مدينة هادئة فيخرج أهلها كما تخرج الدبابير الهائجة التي تنشقت المبيدات .. في ربيع العرب فتحت علينا ترسانة السلاح الكيماوي اللغوي وتنشقنا غاز الخردل والأعصاب والسارين .. قطرات مسكوبة على القرآن حولته من كتاب سماوي نزل رحمة وهدى الى كتاب للقتلة وكتاب للناتو .. وقطرات مسكوبة من محاليل الاسلاميين على الجهاد حولته من مشروع دفاع عن الذات الى مشروع انتحار ذاتي رهيب .. قوارير اللغة ملأها عطارو الحرية بالسلاح الكيماوي المصنوع من تفاعلات اللغة مع الغباء الاجتماعي أطلق شرارتها تفاعل احتراق صغير من جسد البوعزيزي في سيدي بوزيد .. فخرج العرب في الشوارع كمن مسّهم غاز الأعصاب .. هذا الجنون الذي ضرب المنطقة العربية هو مثال بسيط على أن لاحاجة لسلاح كيماوي تضربه بالقذائف المحشوة بغاز الخردل والسارين .. لأن كيمياء اللغة تتفجر في عروق الناس وتنتشر أبخرتها في رئاتهم ودهاليز عقولهم فيصابون بالجنون .. وأنت لاتحتاج الا بعض الأفواه المفوهة كقواذف .. وفضائيات بعيدة المدى .. ومساجد تصنع خطبا كيماوية ..وصلوات كيماوية مخرشة للأنفاس ..
تعرّفوا على كيمياء اللغة ..لتفسروا كيف هاج شباب العرب وفقدوا صوابهم .. وصاروا يقتلون بلادهم واخوتهم ويذبحون وكأنهم مخدرون .. ويهاجرون كسمك السلمون عكس تيار الحضارة من شمال افريقيا ليموتوا في مغاور ادلب وحلب وتطفو جثثهم على امتداد نهر الفرات كأسماك السلمون .. وتركوا تحرير النفط في السعودية وقطر المنهوب من الغرب وصاروا يبيعون نفط سورية للصوص الغرب أنفسهم .. يسرقون بلادهم قطعة قطعة ويبيعونها خردة وقطعا .. كمن يبيع أصابعه وعينيه وكليتيه على أرصفة المدن الثرية .. وكمن يبيع أولاده على نفس البسطة بحجة أنهم لاجئون من أجل أن حقنة هيرويين وليلة حمراء مع جسد السلطة الناعم ولحاف الديمقراطية المخملي .. يقصفون مآذن الأجداد في حلب ودرعا ليبيعوها كمشاهد احتفالية من أجل نظرة عطف سخيفة .. قتلوا ودمروا البلاد وأنفقوا ثروات بلادهم دون أي مقابل الا بضعة حقنات من هيرويين الدولة الاسلامية الموعودة .. ونشقات حكم الشورى والهيئات الشرعية التي خرشت خياشيم الأوطان ..
واليوم تتطور كيمياء اللغة المسمومة لتتحدث عن كيمياء السلاح السوري .. وصرنا كلما مررنا بالمنعطفات تمطر الدنيا علينا حكايات السلاح الكيماوي وتنتشر أبخرته وروائحه .. وكلما انقشعت بعض الغيوم خرجت حكايات السلاح الكيماوي من الحوجلات والأنابيب الديبلوماسية وقوارير السياسة الدولية .. وتنشغل وسائل الاعلام وتبدأ بالتبشير من أن العد التنازلي لتحرك الغرب قد بدأ مستغلة الذكريات المرة لحكاية أسلحة الدمار الشامل والأسلحة الكيماوية العراقية .. وهي جرح لايندمل في ذاكرة العرب وكرامة الشعوب ..والآلة الاعلامية الغربية تريد احياء نذر الشؤم والتطير من تحريك طين الذاكرة الكيماوية العربية المرتبط بمأساة العراق الكبرى .. لأن حكاية الاسلحة الكيماوية نسجت نهاية نظام الحكم الوطني العراقي..والغريب أن بعض الثورجيين يشربون المقلب من جديد ..ويكرعون المحاليل الكحولية التي يسقيها لهم اعلام الثورة واعلام العرب حتى الثمالة .. ومن اقترب من فم مذيعات الجزيرة والعربية وفم فيصل الفاسم لتشمم رائحة أبخرة غازات التفاعل النشادري .. والأمونيا (!!) .. بل وحتى غاز الميتان ..
لكن الباحث الكيني الكيميائي الأسمر باراك حسين اوباما حريص على نقاء التفاعلات الكيماوية السياسية فيخلط بعض القطرات بالمحاليل ليعدل من حموضتها أو ليزيد من قلويتها .. ويتلاعب بالالفاظ وبالجرعات والجزيئات الكلامية .. وأكثر المعادلات الصعبة لديه هي معادلة السلاح الكيماوي السوري.. لأن أكثر التفاعلات اطلاقا للغازات والدخان والأبخرة المحرجة هي حكاية السلاح الكيماوي بعد فضيحة أسلحة صدام حسين التي لم توجد .. والأكثر طرافة هو انضمام العلماء الكيميائيين الأتراك الى العمل في المخبر الدولي كما لو كان أردوغان هو مندلييف الروسي .. صاحب جدول مندلييف الشهير ..وأوغلو كما لو كان هو (غاي لوساك) ذاته ..وقد انخرط في العمل ملك الأردن وهو أحد السيميائيين الغشاشين المعروفين .. الذي سيلقى مصيرهم بلا شك ..
الكل انخرط في العمل الكيميائي حتى نتنياهو .. ثم طلب من صناع معارك الكيمياء من الجمهوريين الامريكيين الخروج للايحاء أن الكلام يتولاه كذابو وصقور الحزب الجمهوري مثل العجوز ماكين ..الذين ان تحدثوا عن السلاح الكيماوي فسينقلون تهديدهم الى فعل .. لكن كل هذه الثرثرات ماهي الا غازات من غازات الضحك لأنها تذكرنا بالسيميائيين الغشاشين الذين ظهروا في القرنين الرابع عشر والخامس عشر .. وكان هؤلاء الغشاشون يضفون الأبهة والغموض على أنفسهم وعملائهم .. وكان بعضهم يطلي مسمارا ذهبيا باللون الأسود ثم يضعه في المحاليل التي تذيب اللون بعد فترة ليبدو أنهم حولوا المعدن الخسيس الى ذهب .. وكان البارعون منهم يضعون النقود المسبوكة من ذهب وفضة (والتي تبدو بلون الفضة) في حمض النتريك الذي كان يذيب الفضة ويبقي الذهب الأصفر موحيا أن السيميائي العبقري قد نجح في تحويل الفضة الى ذهب حقيقي .. ولكن كان عقاب بعضهم الحرق على الخازوق كما حدث مع السيميائية الشهيرة ماري زجيلترين عام 1575 .. وكما سينتهي السيميائي الغشاش الهاشمي عبدالله الثاني..
ولكن سأقول لكم ان أكثر مايثير الابتسام والسخرية أثناء اجتماع القيادات السورية هو استعراض انفعال أوباما وماكين وكاميرون من حكاية السلاح الكيماوي السوري .. ويمكن للسياسيين السوريين أن يعرفوا درجة حموضة المشاعر الامريكية وقلوية الهياج الانكليزي من اختيار نوع الكلمات الدقيق وأخلاط الكلمات وأوزانها الدقيقة التي يختارها أوباما ومساعدوه في كل تصريح .. تصريح حامض .. يتلوه تصريح عليه قطرات قلوية مخففة .. تسليح ثم لاتسليح .. أيام معدودة ثم حل سلمي .. تنحي الأسد ثم ليس تنحيه شرطا .. تسحب كلمة (لابد) الخارقة .. وتضاف كلمة (ربما) اللطيفة .. وهكذا ..
وعندما سألت أحد القياديين السوريين عن الطريقة التي يمكن أن يفهم بها العالم الكيميائي الأسمر ومساعدوه الأتراك والعربان المشاعر السورية وهدوء الأعصاب الشديد ولامبالاة القيادة السورية بكل كيمياء اللغة السياسية الغربية .. وخاصة في خصوص السلاح الكيماوي التي تنهيها الديبلوماسية السورية دوما بعبارة (السلاح الكيماوي ان وجد) .. وهي تقطر سخرية ولامبالاة بلا توقف.. ضحك وقال لي: انها رسالة كتبها الراحل الكبير الفنان ياسين بقوش في أشهر مشهد له !!..
وقد ضحكت من قلبي عندما شرح لي قصده .. وبالفعل يبدو أنه اذا كان من مشهد يجب أن يهدى الى باراك أوباما كي يفهم الرسالة السورية من خطاباته (الكيماوية) فهو مشهد كوميدي شهير للفنان الراحل ياسين بقوش عندما أراد أن يخيف زوجته القوية فطوم حيص بيص بناء على نصيحة بدري ابو كلبشة الذي أوصاه بأن يحضر قطا صغيرا (ليمصع رقبته) أمام حرمه المصون فتخاف فطوم من جرأته وقوة وعنف مشهد "مصع الرقبة" .. ويسترد ياسينو رجولته ويتسلم "السلطة" بعد هذه الثورة والجهاد "بقطع الرؤوس" ..
وربما كان الجيش العربي السوري هو مفاجأة المعادلات الكيميائية العالمية التي حاولت تذويبه بكيمياء الكلام واختراع الأكاذيب والتهويل بالحروب عليه وباضافة الناتو الى تفاعلاته مع الأزمة وتمييعه بالحلمهة بالعثمانيين .. وصبت عليه كل مركبات التحلل والتفكك والانشقاقات والهزائم وسكبت عليه احماض لغوية لم تسكب على جيش في العالم .. والنتيجة النهائية جيش فولاذي لايتزحزح .. صار يزاحم جيوش العالم في المكانة والهيبة .. هذه التركيبة الكيماوية السرية المذهلة للجيش السوري صارت مصدرا للاعجاب من جميع الخبراء العسكريين الذين يتابعون التجربة العظيمة للجيش السوري وهي تجربة فريدة لم يمر بها جيش في العالم .. فهو لايخوض حربا تقليدية بل يخوض حربا لم يخضها جيش في العالم .. وعندما كنت أدخل في تفاصيل الحرب النفسية وحرب العصابات مع أحد الأصدقاء الغربيين قال لي بكل صراحة: ان مايتداوله العسكريون الغربيون عن ظاهرة تماسك الجيش السوري صار ملفتا للنظر وهي حقيقة لم يعد ممكنا تجاهلها وتجب دراستها بروية كتجربة عسكرية ذات مدلول أعمق بكثير مما نتصور .. ويكفي أنني سمعت في احدى المرات عسكريا غربيا يصف الأداء العسكري السوري المتماسك والانضباط الشديد لعناصره والولاء للقيادة بانه يشبه الأداء الألماني الصارم في المعارك .. ولما استوضحته وطلبت منه شرحا أكثر قال لي: الجيش الألماني والجندي الألماني تحولا الى أسطورة لاتنكر .. فالجيش الألماني عرف بصرامة التزامه بعقيدته العسكرية .. وشدة انضباطه .. وهذا ماجعل هذا الجيش يحظى باحترام العسكريين الأوروبيين دون استثناء ..
وبالفعل تذكرت في الحال لقاء جمعني بالصدفة في التسعينات مع محاربين من قدامى المحاربين واحد فرنسي والآخر انكليزي كان يزوره في باريس والذين رويا لي أهوال الحرب العالمية ومعاركها .. وقالا لي عبارة لاتزال تحتل ذاكرتي .. فقد قالا: لم نحارب في حياتنا جنديا أفضل من الجندي الألماني .. انه أفضل عسكري على الاطلاق .. لشدة انضباطه .. واندفاعه في التزام أوامر قادته الى حد يثير التعجب ..
No comments:
Post a Comment