الأحد 22 آب 2021
سعادة مصطفى أرشيد*
لا تزال المهمة الأفغانية المستحيلة تراوح في دائرة انعدام اليقين، حول مصير البلد الذي مثلت ثقافة الحرب والصراع مكوّنه النفسي ـ السياسي الأول من فجر تاريخه، ولا يزال من غير المعروف إذا كانت التحوّلات الأفغانية سوف تذهب باتجاه حداثي، أيّ أن تصبح إعادة بناء البلد على غرار الدولة العصرية الحديثة أم باتجاه أفغاني خاص مع الحفاظ على البلد وأمنه وشعبه وثرواته واعتبارها أولوية، أم باتجاه ارتباطات مع هذا المحور أو ذاك، دولياً وإقليمياً؟
من المؤكد أنّ السياسة الصينية تؤمن بالمثل القائل: السعيد من اتعظ بغيره، والشقي من اتعظ بنفسه، إذ أن الصين لن تجرّب حظها وتذهب بطريق إنجلترا وشركة الهند الشرقية في أربعينات القرن التاسع عشر، ولن تكرّر الخطأ السوفياتي عام 1979، ولن تتورّط كما تورّطت الولايات المتحدة عام 2002، وإنما ستعتمد على قوتها الناعمة، وعلى قدراتها التفاوضية في كسب أرباح الحرب التي لم ولن تخوضها، في الحصول على مواد أفغانستان الخام ـ الثمينة والقريبة مكانياً، وبأسعار تفضيلية، وسوف تجعل من بضائعها عماد السوق الأفغاني، المتعطش للبضائع والفقير مالياً والذي سيجد في بضائع الصين زهيدة الثمن ومستحيلة المنافسة، ما يشبع جوعه الاستهلاكي، لذلك لن تجد حاجة للتورّط في حروب هذا البلد فهي ستكون داخله دون مغامرات غيرها وحروبهم، الذي لا يزال لديه ما يكفيه من حروب مرشحة للاشتعال بين مكوّناته الداخلية.
حركة طالبان قاتلت طويلاً بالنار والدم، لكنها في النهاية انتصرت في هذه الحرب العالمية الطويلة دون قتال، ولم تضطر إلى استعمال النار والبارود في معركتها الأخيرة الحاسمة، إذ اكتفت بسلاح بالغ الخفة، ألا وهو الهاتف النقال، الذي كان كافياً لجعل الرئيس أشرف غني (آخر طبعة أميركية) يسارع إلى حمل كلّ ثمين خفيف، ويغادر البلاد دون إعلام من حوله من مستشارين ووزراء وقادة، وليلحق به هؤلاء، أو من تمكن. فيما تركوا جماعتهم من الصغار الذين أصبحوا من لزوم ما لا يلزم، وصاروا يتعلقون ويسحقون تحت عجلات الطائرات المغادرة، فيما يتولى الثائرون والغاضبون والرعاع التعامل بقسوة مع من بقي منهم. حركة طالبان، التي انطلقت من مدارس بيشاور الأفغانية، كحركة شباب يملؤهم الحماس ويشعلهم الإيمان قبل عقود، قد اختلفت اليوم بحكم الزمن وتراكم التجربة والنضج، أدخل بعض من قادتها ومنظروها إلى مدارس الحياة الجميلة والعصرية لسنوات في العاصمة القطرية ـ الدوحة، وعرفوا جنة الدنيا في فنادقها ومطاعمها ونواديها الرياضية (spa)، وخاضوا في نقاشات فكرية غنية وممتعة ولا بدّ، مع مفكرين وإعلاميين وأكاديميين من توجهات ومدارس مختلفة، وأدخل بعض آخر من قادتها ومناضليها قسراً إلى مدارس معتمة، بالغة القسوة، في غوانتانامو، فتعرّفوا على الصورة المناقضة تماماً، وعاينوا بين تلك الجدران والقضبان من عذابات الجحيم الأرضي، فيما بقي آخرون في الجبال والصحارى، وأصبح يفصل بينهم وبين رفقائهم على الأرض لا المسافة والجغرافية فحسب، وإنما خندق عميق من اختلاف التجربة، ففي حين عرف بعض منهم جنة الدنيا وذاقوا بعض فاكهتها في قطر، وعرف قسم آخر جحيم الدنيا وزقومها وسعيرها في غوانتانامو، لم ينل رفقاؤهم على الأرض مثل ذلك الحظ، ولا تلك القسوة، من أولئك الذين يعيشون في جليد الجبال وكهوفها، وقيظ الصحارى وشمسها، ويقتاتون من خبز الشعير ويتلقون السلاح وبعض القوت من إيران، إذ انه حصتهم ستكون في جنة الآخرة التي تدوم ولا تزول.
قد يكون جذر التفكير مشتركاً، ولكن ظروف الزمان والمكان لها دور في افتراق مذاهب العمل والتطبيق، فهذه الحركة الطلابية (طالبان)، قد فعلت بها التجارب أفاعيلها وأخذت مكانها في عقول قادتها، ومن هذه النقطة سوف تفترق طرائق العمل بين طالبان وطالبان، فقد أصبح لكلّ منهم جدليته، بعضهم سيعتمد على بناء أفغاني جديد، تخاطبه القوة الناعمة الجديدة، ومنظمات غير حكومية ستسارع لإيجاد دور لها، وعلى الوعود للشعب بحياة رغيدة وكماليات استهلاكية وافرة، واقتصاد سوق، ووسائل اتصال وتكنولوجيا عصرية، ولكن بعضاً آخر، لا يزال يحمل بإيمان ويتوارث ثقافة آلاف السنين ـ الثقافة الأفغانية، حيث يولد الطفل ليكون مقاتلاً، ويرى في القتال أسلوب حياة، وفي الجهاد فرض عين، وأنّ الله سوف يعطيهم ما يرضونه، وأنّ الآخرة خير لهم من الأولى.
خلاصة القول، إنّ حرباً قد انتهت في تلك البلاد، لتبدأ حرب أخرى، شيء يشابه العراق في مرحلة سيّئ السمعة بريمر ومن تلاه، سيكون في أفغانستان من ينفخ في نار الفتنة ويمارس فساداً في السياسة وفي الاقتصاد، والأهمّ أنّ الحزب المنتصر أيضاً سيكون عليه دفع ثمن السلطة وأعبائها، وثمن اختلاف وتباين الرؤى، ربما بما يؤثر على وحدته وتماسكه، ويعرّضه لحرب داخلية مع ذاته إضافة إلى حربه مع المكوّنات الأفغانية الأخرى.
الحرب الخارجية ـ العالمية انتهت في تلك البلاد، ولكن حروباً مقبلة على الطريق لن تجعل من أفغانستان بلداً مطمئناً في القريب، وها هو أحمد شاه مسعود الابن، قد أخذ يحشد ويعبّئ في وادي بنشير، معقل والده الشهير أثناء الحرب الأفغانية ـ السوفيتية، وهو ليس بقائد سهل وإنما لديه تجربته وخبرته وسلاحه ومصادر الدعم التي ورث بعض منها عن والده الراحل، وأستذكر هنا مقولة الجنرال حميد غول رئيس الاستخبارات العسكرية الباكستانية الأسبق: إنّ الشعب الأفغاني وخاصة البشتون لا يعيشون سلاماً داخلياً إلا في حالة الحرب الخارجية التي توحّدهم، ولكنهم فور انتهائها يعودون إلى قتالهم الداخلي.
تذكر الحالة الأفغانية الطالبانية، بملحمة الشاعر الإيطالي دانتي (الكوميديا الإلهية) إذ يتقاسم قادتها مراحل الملحمة الثلاث، منهم من كان نصيبه في الجحيم ومنهم من كانت له الجنة وأكثرهم من عاش في المطهر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
No comments:
Post a Comment