ناصر قنديل
–
بينما لا يزال المسؤولون اللبنانيون يضربون الأخماس بالأسداس عند كل خطوة بسيطة تستدعي تواصلاً مع سورية، تجري المياه الدولية في النهر السوري بصورة متسارعة، تحت عنوان ترجمة معادلات نهاية الحرب قبل الإعلان الرسمي عن نهايتها، وأولوية العودة بالمفرق إلى سورية على العودة بالجملة لما تتضمنه من إحراج إعلامي. ولعل ما قالته واشنطن بلسان وزارة خارجيتها تجاه عودة الرحلات الجوية بين دمشق وعمان يشكل مادة تحظى باهتمام المعنيين في لبنان، مثل حاجة اللبنانيين لفك شيفرة زيارة رئيس الحكومة الأردنية لبيروت، حيث صدر تصريح أميركي أول يرحب بخطوة إعادة الرحلات بين عمان ودمشق، ثم صدر تصحيح سريع يقول إن واشنطن تدرس الخطوة لتتخذ منها موقفاً، ثم بيان يتجاهل الخطوة ويتحدث عن عدم نية واشنطن تطبيع العلاقة مع دمشق أو تشجيع الآخرين على فعل ذلك، وأي قارئ مبتدئ في السياسة يعلم أن الموقف الأول لم يصدر على غفلة، وأن التصريح الثاني جاء بعد مراجعات لحلفاء في المنطقة في طليعتهم كيان الاحتلال، وأن التصريح الثالث إعلان اللاموقف، يقول إن من يريد الذهاب لعلاقة طبيعية مع سورية فواشنطن ليست عائقاً أمامه، ومن لا يريد فواشنطن لن تطلب منه فعل ذلك، وهذا يعني انتقال واشنطن من الضوء الأحمر إلى الضوء الأصفر. وفي السياسات الأميركية يقول التاريخ إن ملعب السياسة الواسع هو في مساحة الضوء الأصفر، الذي يحرر واشنطن من تبعات معنوية للضوء الأخضر، ومن تبعات سياسية وعسكرية للضوء الأحمر، وهو غالباً المؤشر الأهم للانسحاب.
–
تقول معارك درعا الأخيرة إن الدولة السورية بدأت تترجم قرارها بتحرير أراضيها مستفيدة من هذا الضوء الأصفر، ضمن خطة مدروسة أخذت في حسابها كل المتغيرات الدولية والإقليمية، سواء ما يتصل بسياق الانكفاء الأميركي انطلاقاً من مشهد أفغانستان، أو بالجاهزية الروسية للمساندة، وبعدما رسمت خرائطها بدقة وحددت أهدافها بوضوح تكتيكي يلبي وجهة حركتها لاستعادة أراضيها حتى الحدود التي كانت عليها الحالة عام 2011. ويقول التسارع الذي حسمت فيه منطقة درعا وما تلاه من تطورات في العلاقة مع الأردن الذي مثل خلال عشر سنوات، خط التماس السوري مع الحلف الدولي الإقليمي الذي كان يشجع ويمول ويغذي خطط استمرار الحرب، بدعم سياسي عسكري أميركي، وتمويل سعودي خليجي، إن الحسابات السورية كانت في غاية الدقة، وإن توقيت القطاف السوري للتضحيات قد آن أوانه، وها هو التأكيد يأتي عبر تسارع العودة المتعددة المجالات للعلاقات السورية- الأردنية ينتقل من التبريد إلى الحماوة، لكن الحرارة هذه المرة إيجابية تجسدت بترجمة قرار فك الحظر عن استجرار الكهرباء الأردنية والغاز المصري عبر سورية إلى لبنان، وتلته الدعوة الأردنية لوزير الدفاع السوري، ولقاء وزير الخارجية الأردني بوزير الخارجية السوري، وصولاً لفتح الحدود البرية وإعادة الرحلات الجوية بين دمشق وعمان.
–
خلال شهر تدحرج بسرعة حسم وضع الجنوب، وتبلورت ثماره السياسية، فبدأ التوجه شمالاً، سواء الشمال الشرقي حيث ثروات النفط والغاز المنهوبة من قبل الاحتلال الأميركي والميليشيات المنضوية تحت رايته، أو الشمال الغربي حيث الاحتلال التركي وتنظيمي «القاعدة» و»داعش» تحت راية هذا الاحتلال، وفي الملفين تبدو روسيا الحليف والشريك الذي رسمت معه خطط الشمال على أعلى المستويات التي جسدتها القمة التي جمعت الرئيسين فلاديمير بوتين وبشار الأسد، وما تلاها على مستوى التسخين للجبهات العسكرية، استبق لقاء الرئيس بوتين بالرئيس التركي رجب أردوغان، كان واضحاً أنها قمة الفرصة الأخيرة للرئيس التركي، وأولوية الانسحاب التركي ومعه الميليشيات التي يرعاها عن الطريق الدولي الذي يربط سورية بخط الترانزيت الدولي الذي يصل إلى أوروبا، وضمان سيطرة الجيش السوري على الطريق الدولي والعمق اللازم لتأمينه، وبدء فكفكة التشكيلات الإرهابية المسيطرة على الجغرافيا المحيطة بالطريق الدولي يميناً ويساراً، بالجمع بين الحسم العسكري من دون إعاقة تركية، وبالتعاون التركي على طريقة ما جرى في حلب.
–
إذا نظر المسؤولون اللبنانيون إلى المشهد بقليل من الروية سيجدون أن الخط الذي يعبر تركيا من أوروبا باتجاه الخليج وقد بات منفذه الجنوبي عبر الأردن سالكاً، لن ينتظرهم حتى امتلاك شجاعة التوجه نحو دمشق، وهم ينتظرون أن يأخذهم أحد بيدهم ليدقوا أبواب دمشق، وأن دمشق أيضاً ليست منافساً لبيروت، ففي المنافسة تقع الأمور بين خط بري يعبر تركيا نحو سورية فالخليج، أو خط بحري بري يصل إلى بيروت وينطلق براً عبر سورية إلى الخليج، فسورية محطة حكمية، لكن التسابق قائم بين تركيا ولبنان، ويبدو حتى الآن أن الرئيس التركي التقط الطابة التي تعثرت بين أيدي اللبنانيين، لكن الفرصة لم تفت بعد، مع الأخذ في الاعتبار أن الشهر المقبل سيشهد التطورات التي تبلور الصورة بوضوح أكبر، يبدأ لبنان معه بخسارة نقطة التفوق التي يمثلها غياب أي عائق أمني لتفعيل حركة الترانزيت من مرفأ بيروت عبر دمشق إلى الخليج، عندما تزول التعقيدات الأمنية في شمال سورية، ويصبح تفوق الخط التركي بالجاهزية اللوجستية التي يفتقدها مرفأ بيروت بعد إصابته البالغة والتباطؤ غير المبرر في خطة إعماره، على رغم كثرة العروض، علماً أن الميزة التفاضلية لمرفأ بيروت باتجاه الترانزيت نحو العراق لا يمكن تعويضها بالخط التركي البري.
–
كما في خط الترانزيت الدولي حال خط الإمداد النفطي، فسورية التي يمكن أن تتشارك مع لبنان بالسعي لتفعيل وتشغيل خط النفط الآتي من العراق عبر سورية إلى طرابلس، قد لا تبقى بذات الحماسة عندما تسترد حقول النفط والغاز المنهوبة من الأميركيين والميليشيات العاملة تحت رعايتهم، ولبنان المتعطش لنقطة نفط يتصرف كأن الوقت معه، وينتظر أن ينعقد ربما مجلس الأمن الدولي ليصدر قراراً وفق الفصل السابع يفرض اجتماعاً على أعلى المستويات بين الدولتين السورية واللبنانية، لتأمين خط النقل الترانزيت التجاري والنفطي، فكيف بملف النازحين؟
No comments:
Post a Comment