Monday, 14 November 2016

امتحان ترامب سوري أم إيراني أم فلسطيني؟

ناصر قنديل

– التغيبر حاصل في أميركا ولا نقاش في حدوثه مع حجم الزلزال الثقافي والاجتماعي والسياسي الذي يجتاح المجتمع ونخبه وحزبَيْه. والتغيير يجري على إيقاع تردّدات الأحداث التي عصفت وتعصف بمكانة أميركا في الخارج في ضوء الحروب التي خاضتها وتخوضها، والوعود التي رافقتها بانتصارات حاسمة وخاطفة تتناسب مع الصورة التي رسمتها أميركا لنفسها كدولة عظمى خلال عقود، وما رافق هذه الحروب من تداعيات في الداخل الأميركي من تراجعات خطيرة في الوضع الاقتصادي، والضمانات الاجتماعية، والاهتزازات التي أصابت تماسك النسيج الاجتماعي الهشّ الذي يربط الأعراق والألوان والديانات والولايات، التي تتشكل منها الفيسفساء الأميركية.

– لا يمكن لهذا التغيّر أن يكون لصالح صعود المشروع الإمبريالي وامتلاكه فرصاً جديدة للحرب والتصعيد، وفي الوقت نفسه أن يكون تعبيراً عن مأزق وتراجع المهابة الأميركية، وتضعضع مصادر قوتها، ومدخلاً للضعف والتراجع، والانكفاء نحو الداخل، بلغة عصبية تستعيد كلّ مفردات الانقسام وتعصف برياح التفكك في الداخل الأميركي من جهة، وتثير لغة التعصّب نحو الداخل والخارج من جهة أخرى. فالواجب العلمي في قراءة الظاهرة يقتضي قراءة غير عاطفية، بعيدة عن القوالب، والرغبات، والمخاوف، والإسقاطات الإيديولوجية، لحدث بحجم تغيير يعصف بالعاصمة التي صنعت خلال نصف قرن كلّ حروب العالم.

– حالة الصعود في المشروع الإمبريالي ليست رغبة ولا تغييراً رئاسياً من الديمقراطيين إلى الجمهوريين، بل هي تعبير عن مفصل تاريخي تملك فيه الإمبريالية فرص فرض مشروع الهيمنة، مرتكزة لانكسارات نوعية في موازين القوى السياسية والعسكرية والاقتصادية. وهذا ما حدث بعد الحرب العالمية الثانية، وانهيار الهيمنة البريطانية والفرنسية على المستعمرات، وصعود أميركا كوريث لها من جهة، ومقاسمتها للاتحاد السوفياتي عائدات النصر في الحرب من جهة مقابلة، وهذا ما حدث مع انهيار الاتحاد السوفياتي قبل ربع قرن، وخوض واشنطن حربَي الميمنة الأوروبية والميسَرة الآسيوية، الأولى عبر بوابة يوغوسلافيا عسكرياً وعبر ذراع الاتحاد الأوروبي سياسياً وخاضها الديمقراطيون بقيادة بيل كلينتون، والثانية عبر بوابة أفغانستان والعراق عسكرياً وعبر ذراع العثمانية والربيع العربي وتناوب تركي سعودي على قيادة حرب عنوانها إسقاط سورية، باسم الثورات الملونة، وخاض شقها العسكري الجمهوريون بقيادة جورج بوش وأتمّ نصفها الاستخباري والسياسي الديمقراطيون بقيادة باراك أوباما. وقد انتهى ربع القرن هذا بالفشل، بخروج إيران من الحصار وصعود روسيا وصمود سورية، والفشل الأميركي في حربَي أفغانستان والعراق.

– يصل دونالد ترامب إلى الرئاسة الأميركية على خلفية نقاش أميركي علني عنوانه الفشل، من سياق انهيار الاتحاد الأوروبي، وتوقيع التفاهم على الملف النووي الإيراني، والاعتراف بالصعود الروسي، والفشل في حربي العراق وأفغانستان، وصولاً إلى الفشل في حرب سورية. وفي قلب المعادلة كلها العجز المتمادي في وضع الحلفاء، من فشل «إسرائيل» في خوض الحروب، إلى فشل تركيا في استنهاض الذاكرة العثمانية بما يكفي لإسقاط سورية، وصولاً لفشل السعودية في استنهاض العصبيات المذهبية والرهان على الفتن والحروب الأهلية، وفشل الاحتياط الذي يمثله تنظيم القاعدة في إحداث التغيير المنشود في وجهة الحرب، وكلام ترامب لم يكن بعيداً عن محاكمة الحروب الفاشلة كفشل لصانعها في البيت الأبيض ودعوة للخروج منها، كما لم يكن بعيداً عن انتقاد المواجهة مع روسيا، والدعوة للشراكة معها، وفي سورية دعوة لمراجعة وتساؤلات عن مبرّر التورّط في إسقاط نظام حكم، تظهر التجارب المماثلة في العراق وليبيا أنها لم تجلب الأفضل رغم نجاحها. فكيف في حال الفشل، وصولاً للدعوة لجعل الحرب على الإرهاب، الذي يتّهم خصومه السياسيين بصناعته وتزخيمه، عنوان السياسات الأحادي.

– هذا السياق الواضح للتراجع الأميركي الذي يجلب ترامب للرئاسة، تقطعه بنظر البعض تصريحات، ومواقف ترامب من التفاهم النووي مع إيران ودعوته لإلغائه، ومثلها الإمعان في تأكيد العلاقة المميّزة مع «إسرائيل»، وإغداق المزيد من الوعود عليها بالمال والسلاح وصولاً للوعد بنقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة، ليقول هؤلاء إننا امام حفلة تصعيد يميني متطرف يبشر بالمزيد من التوترات وربما عروض القوة، بالاستناد إلى الطبيعة التقليدية للسياسات الجمهورية. وهنا يجب ألا تضيع علينا ثلاث حقائق، أولّها أنّ الغبي فقط يضع قياس التقدّم للقوة الأميركية وقدرتها على صناعة الحروب بمواقف إداراتها المتعاقبة من درجة دعم «إسرائيل»، بل بالمواقف من الحرب التي تعتبرها «إسرائيل» حرب وجودها. وهي هنا حرب سورية، وليست نقل السفارة، ولا تقديم المال والسلاح. والحقيقة الثانية هي أنّ الحرب الأميركية «الإسرائيلية» المشتركة للهيمنة على الشرق الأوسط التي كانت حروب أفغانستان والعراق ولبنان وغزة فصولاً منها، تخاض اليوم في سورية، وبعدما أسندت تلك الحروب للقوة العسكرية الأميركية و«الإسرائيلية» ومُنيت بالفشل، تسند الحرب الراهنة لإدارة سعودية وجيشها تنظيم القاعدة، بعدما أسند نصفها الأول لتركيا وقطر وأداتها الإخوان المسلمون وقناة «الجزيرة». والحقيقة الثالثة أنّ التنافس الانتخابي كان يدور بوجه منافس هو هيلاري كلينتون وأنه لا يمكن النظر لرهانات حلفاء واشنطن وشركائها في حروبها بالإجماع على كلينتون باعتباره بلا قيمة في فهم ما يجري وتقييم ما جرى، واستقراء ما سيجري. وبالمعايير الثلاثة تبدو سورية ساحة تختزن كلّ حروب أميركا و«إسرائيل» في المنطقة، ويبدو وصول ترامب علامة حاسمة على تراجع لغة الحرب.

– ستبقى العلاقة الأميركية الإيرانية محكومة بثنائية المواجهة والواقعية العقلانية. فالخلافات استراتيجية ويصعب التوفيق بينها، سواء بالموقف من «إسرائيل» أو بالنظرة للشرق الأوسط كله. لكن بالحساب الواقعي والعقلاني الذي تفرضه موازين القوى، لم يكن التفاهم على الملف النووي الإيراني معزولاً عن سياق الحروب الأميركية كلها، من مغزى حربَي العراق وأفغانستان كطوق حديدي يضرب على إيران، إلى الرهان على سحق حزب الله في حرب لبنان التي خاضتها «إسرائيل»، كمدخل لشرق أوسط جديد تضعف فيه إيران وسورية، وتهون إدارته، وصولاً إلى أنّ الحرب على سورية وفيها هي ساحة الحسم الراهنة لتوازنات العلاقة الأميركية الإيرانية، وليس مستقبل الملف النووي الذي جاء التفاهم حوله حصيلة مخاض جعل التفاهم ممراً إلزامياً، بعد صرف النظر عن خيار حرب بدت مستحيلة منذ نهاية عهد جورج بوش وطيلة عهد باراك أوباما، ففي سورية وحدَها يتقرّر حجم الاعتراف والإنكار الأميركيين لمكانة جديدة لإيران في الشرق الأوسط الجديد المخالف للتمنيات الأميركية.

– امتحان ترامب سوري، وليس إيرانياً ولا فلسطينياً، لا بل إنّ امتحان ترامب الإيراني والفلسطيني سوري أيضاً.


Related Videos
Related Articled

River to Sea Uprooted Palestinian   
The views expressed in this article are the sole responsibility of the author and do not necessarily reflect those of the Blog!

No comments: