من جانبٍ آخر، أظهر بعض مسؤولي المؤسسات الممولة أجنبياً «جسارةً» في الانتهازية السياسية، إذ سارعوا ــ بناء على جملة من العلاقات السابقة التي فعلوها في ذلك الوقت ــ إلى فتح خطوط اتصال مباشرة مع الحكومات الأجنبية، وذلك في تجاوز واضح للفصائل وللسلطة نفسها خلال الانتفاضة الثانية، ومن ثمَّ بدأ ضخ المال إلى مؤسسات فرّخت أضعاف عددها بسرعة. وتكفي الإشارة إلى البيان الذي نشره مجموعة من المطبّعين عبر صحيفة «القدس» المحلية في 20 حزيران 2002، وتحديداً في صفحة رقم 16 ــ وعبر وسائل إعلام أخرى ــ بتمويل من الاتحاد الأوروبي، وفحواه ترويجهم لمحاربة العمليات الاستشهادية، وكان ذلك تزامناً مع استمرار العمليات الفدائية في ظل انعقاد «مؤتمر شرم الشيخ للسلام» في مصر، في إشارة إلى القمة العربية المنعقدة هناك آنذاك.
مرحلة «التفريخ»
يوماً بعد يوم وكل مؤسسة تولّد أخرى تابعة لها، مرة بحجة «التشبيك والتنسيق»، وأخرى بحجة «خطط التنمية الشاملة»، ما أدى إلى زيادة عدد المشاريع الممولة خارجياً، ثم تضخمت الميزانيات، وهنا عمّت الفوضى حتى في هذه المؤسسات نفسها التي بدأ العاملون فيها يخوضون صراعات أسوأ من صراعات الفصائل، بل تعددت الاختصاصات بصورة كبيرة، ومن ذلك مثلاً وجود مؤسسة أو جمعية تختص بالمجال الصحي، وأخرى تابعة لها تنفذ دراساتٍ وبحوثاً في مسألة المرأة والجندر، فيما تكون هناك «مؤسسة أمّ» أوجدت الاثنتين.
بطريقة ما، تحولت الـNGOs إلى «وزارة» إضافية لا تملك السلطة حقيبتها، أو «لوبي لا يسيطر عليه أحد»، إذ يكدّ الشباب في تجهيز مقترحات مشاريعهم بما يوافق أهواء الممول، والأخير يمتلك القرار. ووفق كثيرين ممن عملوا في تلك المرحلة داخل هذه المؤسسات، كان «الراتب الشهري مربوطاً مباشرة بمدى قدرة الموظف على الاستجابة لشروط الممول أو رؤيته، وأي حيادٍ من الشباب عن الطريق المرسوم يعني حكمهم على ذاتهم بإنهاء خدماتهم وإيقاف رواتبهم إذا كانوا موظفين دائمين، أو يحصلون على مشاريع بين مدة وأخرى».
التوقيع على «وثيقة نبذ العنف»
«وثيقة نبذ العنف» هي المسمّى الأكثر تداولاً لما تشترطه كثيرٌ من الجهات الأجنبية المانحة. يوضح يوضح «أبو أحمد» (اسم مستعار)، الذي كان يعمل في مؤسسات تتلقى تمويلاً خارجياً، أن مؤسسات «ford» ،»Rockefeller»، «USAID» لا توافق على التمويل دون التوقيع على هذه الوثيقة التي يرد فيها نص يؤكد ضرورة عدم الدعوة إلى «أي مجموعة تدعو أو تولد التعصب أو العنف أو تمثل تهديداً لوجود وشرعية وجود دول شرعية وسيادية مثل إسرائيل». ويضيف «أبو أحمد» أن المؤسسات الفلسطينية الممولة تقدم كشوفاً دورية بأسماء العاملين فيها، وتخضع للرقابة المالية الأميركية، في حين أن «USAID» هي الجهة المانحة الأكثر نشاطاً في فلسطين، لكنها ليست وحدها التي تطلب توقيع وثيقة نبذ العنف (راجع «هكذا تقتل الـUSAID بذور المقاومة الشعبية لفلسطين»: العدد ٢١٠٦ في ١٧ أيلول ٢٠١٣).
أبو أحمد يقول إنه عمل متطوعاً في الأنشطة الاجتماعية وعدة مؤسسات على مدار نحو 15 عاماً، ويؤكد من خبرته أن «من يرفض توقيع وثيقة نبذ العنف، يحكم على مؤسسته غالباً بالتهميش والاندثار تدريجياً، وتقلص أنشطتها وخدماتها المقدمة إلى الجمهور، بسبب نقص التمويل وضعف الميزانية المرصودة». في المقابل، يعني التوقيع على الوثيقة أن «تحظى المؤسسة بدعمٍ كبير، وينال موظفوها رواتب عالية أو مقبولة نسبياً مقارنةً مع الوظائف والمشاريع والمؤسسات الأخرى».
ثمة أمرٍ لا يدركه كثيرون وهو غياب النتائج الملموسة على الأرض لغالبية المشاريع التي تقدمها بعض الدول المانحة، فمنها ما يدمره العدو الإسرائيلي ضمن حملة «الأرض المحروقة»، كما أن القسم الأكبر من أنشطة هذه المشاريع يبدو «تنظيرياً» ويعتمد على تنفيذ ورش العمل والمؤتمرات، وإجراء الأبحاث والدراسات رغم خطورتها على الوعي الفلسطيني. واللافت أن مديري هذه المؤسسات لا يقدمون التقارير المالية والإدارية الدورية إلّا إلى الممول حصراً، وبذلك من الصعب تشديد أي رقابة عليهم، إذ تتصرف هذه المؤسسات كأنها مستقلة ويمكنها أن تفعل ما تشاء لأن تمويلها أجنبي. أما ما يدور في الخفاء، بين الممول والشخصيات الفلسطينية، فهذا لا يبوح به أحد.
ساحة استرزاق وصراعات وفساد
كيف تُقدّم المشاريع إلى الممول؟ بداية يجب أن يكون المتقدم صاحب «ملف أمني نظيف»، وعلى خبرة بـ«لعبة التمويل» من أجل تحضير أوراق المقترح، وقد يستعين بمؤسسات وسيطة تؤدي هذا الدور بحرفية مقابل نسبة من التمويل المتوقع. وبعدما يشمل المقترح أسباب المشروع وأهدافه وخططه الزمانية والمكانية، ثم نقاط الضعف والقوة، وأخيراً الجدوى الاقتصادية، يُرفع إلى المموّل المطموح إليه، فيطلب تصحيحات أو إضافات، فيما قد يستثنى المشروع إذا رفضت المؤسسة أو الشخص التوقيع على «وثيقة نبذ العنف»، أو كان صاحبه يحمل «خلفياتٍ تعادي الاحتلال»، أو صاحب عمل وطني سابق.
رغم ثبوت الفساد في الـNGOs لا تتدخل السلطة والفصائل غالباً
هذه السلاسة في طرح المشاريع والحصول على التمويل، إضافة إلى عمر التمويل الأجنبي الذي بدأ يطول نسبياً، أدت إلى نقل التجربة إلى شبكاتٍ واسعة من الأفراد، كما عزّزت البطالة وضعف سوق العمل الزيادة في عدد المنتفعين منها، وصارت سوق عمل وحدها، بما تعنيه السوق من كلمة، إذ يتهم كثير من العاملين في الـ«NGOs» نظراءهم من بقية المؤسسات بالفساد وسوء الإدارة، وتصل الاتهامات حد «التباهي بقوة التمويل الأجنبي وحسن إداراته». لكن إفادات كثيرين من داخل هذه المؤسسات تشي بالعكس، لأن ما ينسحب على المؤسسات الفاسدة محلياً يطاول الكثير من المؤسسات الممولة أجنبياً، خاصة التي تم تأسيسها في ظروفٍ استثنائية مثل السنوات العشر الأخيرة، وهي تفاصيل غالباً تغيب عن العامة لأنها بعيدة عنهم، كما أنه مال «أجنبي» وسرقته لن تؤذي أحداً!
من الأمثلة البارزة على الفساد في هذا المجال أن الموظفين في المشاريع يتقاضون مبالغ أقل من المخصصة لهم على الأوراق، ويوقعون على الأخيرة جبراً، فضلاً عن سلسلة مصاريف مسجلة بفواتير وهمية بالاتفاق بين مصدّر الفاتورة والمنفذ المحلي، ليتقاسم الاثنان الزائد من المبلغ.
ويبدو أن بعض هذه المؤسسات تحوّلت إلى جهاتٍ محترفة في التحايل على القانون وحتى على الممول نفسه، فمثلاً باتفاق عدد من أصحاب الصلاحيات في مشروع ما قد يجري تقاسم مبالغ مقابل التغطية على سوء إدارة الجميع، وأيضاً استغلال الموظفين والمتطوعين في انتهاكٍ واضح لقانون العمل، إضافة إلى توظيف الأقرباء وأفراد العائلة والأصدقاء، رغم أن المادة 16 من «قانون الجمعيات والمؤسسات لسنة 2001» تنصّ على «أن يكون لكل جمعية أو هيئة مجلس إدارة يتكون من عدد لا يقل عن سبعة أعضاء، ولا يزيد على ثلاثة عشر عضواً، وتحدد طريقة تشكيله وكيفية اختيار أعضائه وإنهاء عضويتهم في النظام الأساسي للجمعية أو الهيئة… ولا يجوز أن يضم مجلس الإدارة عضوين أو أكثر يجمع بينهما صلة قرابة من الدرجتين الأولى والثانية».
كل هذه التجاوزات مثبتة رسمياً، وتذكرها بوضوح معطيات التقارير السنوية لـ«ديوان الرقابة المالية والإدارية»، إذ لم تتغير حال هذه المنظمات أو المؤسسات في التقرير الرقابية السنوية منذ عام 2013 حتى 2016. ويبيّن تقرير 2015 أن المبلغ الذي يمكن استرداده لخزينة الدولة من المؤسسات والمنظمات غير الحكومية تبلغ قيمته نحو مليون وثمانمئة ألف دولار على أقل تقدير. مع ذلك، لا تعمل السلطة أو الفصائل على تشكيل عوائق أمام التمويل الأجنبي، علماً أن الأرقام شبه الرسمية تفيد بأن نحو ثلثي الميزانية الإجمالية السنوية لهذه المؤسسسات تصرف على العاملين فيها كأجور ورواتب. ووفق أحدث الإحصاءات، ثمة منظمة واحدة لكل ألف فلسطيني، في حين أن عدد موظفي الرقابة الحكومية لا يتعدى عشرة موظفين لكل 5500 مؤسسة!
ديموقراطية وحرية في فلسطين!
رغم اختلاف الوضع السياسي في فلسطين عن غيرها من الدول العربية، نجحت المؤسسات الممولة أجنبياً في تكرار نماذج المناداة بـ«الحرية، الديموقراطية، حقوق الإنسان، الحرّيات، المساواة»، ومفاهيم أخرى شبيهة تتعلق بحقوق النساء والجندر وصولاً إلى الحديث عن «التعايش المشترك»، معرّجة أيضاً على مجالات أخرى مثل الرياضة والفنون، إذ صارت هذه المفاهيم كأنها البديل عن المقاومة دون اعتبار للسياق الفلسطيني ودور الاحتلال في تقويض الحريات.
وبينما كانت «حماس» تبادر في غزة إلى إغلاق أي مؤسسة تحمل عناوين «التعايش والسلام»، أو تجبر عدداً آخر على تقديم «كشف مفصل» عن حساباتها المالية، كان الوضع مختلفاً في الضفة، حيث كانت «الإدارة المدنية الإسرائيلية»، عندما تحاول تسويق نفسها كبديلٍ عن السلطة عبر التواصل مع الفلسطينيين مباشرة، تستعمل الـNGOs سبيلاً إلى ذلك، خاصة أن الطرفين يشتركان في أهداف منها تكوين صورة لدى الفلسطينيين عن أنهما يقدمان ما لا تقدمه السلطة.
أما عن الطرق، فكانت تتنوع بين الندوات وورش العمل، والمؤتمرات الداخلية والخارجية، والمخيمات الصيفية، ثم تطور الوضع إلى أن شارك عدد من هذه المؤسسات في تنفيذ مشاريع بالتعاون مع الإسرائيليين، أخطرها التي تستهدف الأطفال والفتية الفلسطينيين تحت عنوان «التعايش»، وذلك لكسر الحاجز النفسي بين العدو والشعب الواقع تحت الاحتلال، وخلق أجيالٍ جديدة بشخصية منفصمة تتخلى عن قضيتها الوطنية.
ومن أمثلة ذلك مشاركة أطفال من مستوطنة «سديروت» ومن بلدة يطا الفلسطينية جنوب الخليل، بعد حرب غزة الأخيرة عام 2014، في خوض مباراة كرة قدم مشتركة ضمن مشروع خاص بـ«مركز بيريس للسلام»، في أيلول من ذلك العام، وأقيمت المباراة في «كيبوتس دوروت» القريب من غزة.
وقبل ذلك، أُشرك وفد من أطفال شهداء حرب 2008 من غزة، كان عددهم 37، اختارتهم «منظمة بذور السلام» كعينة في معسكر مختلط مع أطفال إسرائيليين وجنود لمدة أسبوع في أواخر 2011، بغرض «التبادل الثقافي والتعايش المشترك والسلام»، علماً أن هذه المخيمات صارت تعقد سنوياً وأحياناً في الولايات المتحدة ودول أوروبية.
عناوين أخطر من التطبيع
وفق آخر الإحصاءات، ثمة مؤسسة مقابل كل 10 آلاف فلسطيني (أشرف أبو عمرة ــ آي بي ايه)
يدافع كثيرون من مديري المؤسسات الممولة أجنياً عن أنفسهم، تارةً بأن المشاريع لا تحمل أي أجندة سياسية ولا تتدخل في قضية الصراع، وأن خدماتهم المقدمة إلى المواطنين لا تقدم باشتراطات عليهم، وتارة أخرى يعرضون السلطة كمثالٍ على التنسيق مع الإسرائيليين أو كونها تتلقى منحاً أجنبية. شكلياً من الصعب إنكار أن هذه المؤسسات قدمت مشاريع مهمة خاصة في المناطق المهملة أو مناطق «ج» وفق تصنيف أوسلو، كما من الصعب اتهام الجميع بأنهم ينفذون أجندات مرسومة وبصورة مباشرة، لكن الصورة العامة لعمل هذه المؤسسات ككل تعطي نتيجة مغايرة.
ووفق التعريف العام لـ«المجتمع المدني»، يكون الأخير كل ما ليس دولة وليس قطاعاً خاصاً، لكن في الحالة الفلسطينية تُستثنى الفصائل لأنها تمتلك نية للوصول للسلطة والمشاركة السياسية، ويمكن أن ينسحب الأمر على بعض القواعد الشعبية للفصائل في الجامعات والمناطق الريفية. وبالتعريف نفسه، نستبعد البنوك والمؤسسات المالية كونها ضمن القطاع الخاص، لكن الأمر قد يكون مغايراً بشأن الغرف التجارية والمؤسسات والجمعيات الخاصة برجال البنوك والأعمال التي تتعلق بمصالح السوق.
أما المؤسسات الممولة أجنبياً، فتُركّز على القضايا الجزئية على حساب الكلّية، ونجدها تتحدث عن «الطفل، الشباب، البيئة…» كمسائل مستقلة عن المجتمع، ومثلاً تناقش موضوع المرأة انطلاقاً من المنظور الغربي إلى المرأة الشرقية، وتعزلها عن حيزها المجتمعي والثقافي، ولا تورد إجراءات الاحتلال بحق النساء الفلسطينيات سوى كعامل إضافي مقابل مشكلة «عنف الرجل» الفلسطيني! بذلك، يُفصل المشارك عن مجتمعه ووضعه الوطني بحجة تجنب التدخل في السياسة، وتصير مهمة هذه المؤسسات محصورة في إدارة المشكلات التي أفرزها الاحتلال، دون طرح المسبب الرئيسي لهذه المشكلات وللتبعية وللتفرقة، ودون التطرق حتى إلى الفساد في المؤسسات الفلسطينية.
بالمقارنة مع قضية «التطبيع» مع العدو، فإن الـ«NGOs» في فلسطين، التي لا يمكن أن تتعامل مع أي شخص على «اللائحة السوداء لإسرائيل»، لا تعمل غالباً إلا عبر تنسيق إسرائيلي، أو على الأقل رضا من العدو على أدائها، خاصة في حال وجود إدارة أجنبية قائمة على الإدارة المحلية، وذلك في ظل أن المبالغ التي تضخ عبر هذه المؤسسات كبيرة ومن غير المنطقي ألا تكون موجهة الأهداف.
No comments:
Post a Comment