د. وفيق إبراهيم
بعد أشهر من التفاؤل اللبناني بوساطة أميركية كانت تزعم أن «الكيان الإسرائيلي المحتل» موافقٌ على وجهة النظر اللبنانية بترسيم الحدود مع فلسطين المحتلة براً وبحراً، عاد الوسيط الأميركي ديفيد ساترفيلد في زيارته الأخيرة لرئيس مجلس النواب نبيه بري الى تبني وجهة نظر إسرائيلية معدّلة نسبياً وهو العارف مسبقاً بالرفض اللبناني للتسويات التي لا تنال إلا من حقوق لبنان في بحره وارضه.
فلماذا يعطّل الأميركيون ترسيماً سعوا إليه بإصرار قبل أشهر عدة؟ منقلبين عليه منذ أيام عدة فقط؟
توقفت اذاً وحتى إشعار آخر جولات ساترفيلد ما يدلّ على استنفاد الحاجة الأميركية اليها حالياً وتوجّههم لتلبية مواضيع أكثر إلحاحاً. وهذا لا يكون إلا بالتوافق مع الطرف الإسرائيلي الذي لا يمتلك حالياً إمكانية إصدار قرار بحجّة الترسيم، فالكيان الإسرائيلي في مرحلة انتخابات جديدة لا يريد أي من قواها المتنافسة ان يؤثر هذا الترسيم عليه عند الناخبين الذي ينتمي معظمهم الى فئات المتشددين.
وكان الأميركيون أوفدوا ساترفيلد في وساطة بين لبنان والكيان المحتل، تحت تأثير ما أسمي «حرب الغاز في شرقي المتوسط» وصفقة القرن التي كان صهر الرئيس الأميركي جاريد كوشنر يعمل على عقدها في المنامة عاصمة البحرين، لذلك اعتقد الأمن القومي الأميركي أن جذب لبنان الى محوره، يؤدي تلقائياً الى انضمام لبنان الى الحلف الأميركي في حرب الغاز وصفقة القرن ما دفع بالأميركيين الى الضغط على «إسرائيل» للتراجع عن ادعاءاتها الحدودية في آبار غاز ونقاط حدودية تثبت ترسيمات فرنسية وأخرى حديثة انها للبنان. وبالفعل استسلم الكيان الإسرائيلي لصمت كامل في مرحلة جولات ساترفيلد وحمّله موافقته على وجهة النظر اللبنانية مع شيء من التحفظ واللبس.
إلا أن محادثات الوسيط مع الرؤساء اللبنانيين لم تكن تستقر على خاتمة مفيدة، لأن ساترفيلد لم يكشف عن كل ما في جعبته.
فبدا ان هناك رهاناً أميركياً على حضور لبنان لقمة صفقة القرن ومفاوضات مباشرة لبنانية إسرائيلية برعاية أميركية مع جذبه نحو محور الغاز المتشكل من مصر و»إسرائيل» والاردن وقبرص واليونان، المراد منه أميركياً مجابهة الغاز الروسي عبر تركيا وبحر الباسفيك وتقليص حظوظ سورية بإيجاد منافذ لتصدير «غازها» والحدّ من حركة إيران في هذا الاتجاه.
هناك ايضاً رغبة أميركية جارفة في تأمين حصص وازنة لشركات نفط وغاز أميركية في آبار لبنان بما يحدّ من حركة الشركات الروسية والفرنسية والايطالية التي لديها حقوق تنقيب كبيرة فيها.
لقد ظهر مستجدّان اثنان أربكا مهمة ساترفيلد. وهما عودة «إسرائيل» الى انتخابات جديدة، وغياب لبنان عن حضور صفقة القرن في البحرين، مع إعلانه مواقف تصعيدية منها، اقلها رفضه المطلق لتوطين الفلسطينيين على أراضيه.
فظهر مشروع ساترفيلد على حقيقته وهو الغاز مقابل الاعتراف اللبناني بالكيان الإسرائيلي، وتطبيع العلاقة معه على كل المستويات وكان طبيعياً أن يؤكد الرئيس بري على لبنانية الآبار والنقاط الحدودية المختلف عليها ورفض كامل لأي اعتراف او لقاءات ثنائية مباشرة لا تجري بوساطة ورعاية الأمم المتحدة، وسط إجماع كامل القوى السياسية اللبنانية على هذا الموقف ورفض تقديم أي تنازلات مهما كانت بسيطة.
عند هذا الحد توقف دور ساترفيلد وبدأ دور جاريد كوشنر صهر الرئيس ترامب وعراب صفقة القرن، بمعنى أنه انتقال من خلافات حدودية مع الكيان الإسرائيلي الى مستوى إدراج لبنان في المشروع الأميركي الأكبر وهو تصفية القضية الفلسطينية وهذا يدفع بلبنان الى الحلف السعودي الإسرائيلي بشكل مباشر.
فجاء تصريح كوشنر الجديد حول ضرورة قبول لبنان بتوطين الفلسطينيين على أراضيه مثابة شرط أساسي للسماح بحل الخلافات الحدودية، وبالتالي التنقيب عن الغاز في الآبار الحدودية – يجري ذلك على وقع تسريب معلومات من مصادر أميركية عن احتواء الآبار اللبنانية المتنازع عليها مع «إسرائيل» على كميات يصل ثمنها الى 600 مليار دولار. وهذا إغراء اضافي للبنان الذي ينوء بديون تزيدُ عن المئة مليار دولار ووصل اقتصاده الى مرحلة إعلان الافلاس كما أن العلاقات بين قواه السياسية تتهاوى وتصل الى حدود الاشتباكات المسلحة والاغتيالات.
فيصبح المشهد كالآتي: كوشنر يريد تصفية قضية فلسطين وسط انهيار الأوضاع الوطنية والسياسية والاقتصادية في لبنان وإعلان ولادة حلف سعودي إسرائيلي أميركي يرعى هذه التصفية بقيادة مباشرة من كوشنر ويحضّر في الوقت لعمليات اعتداء واسعة على أعالي اليمن في صعدة الجبلية والساحل الغربي عند مدينة الحديدة باستعمال مكثف للطيران الحربي الإسرائيلي.
وهناك معلومات أن مناطق السعودية المطلة على البحر الاحمر تستعد لإعداد مدارج لطائرات إسرائيلية تتحضّر للإغارة على اليمن.
فهل يستدرج كوشنر لبنان الى مشروعه؟
لا شك في أنه قادر على نسف التسوية الحدودية مع لبنان وبوسعه المراهنة على حلف إسرائيلي – سعودي إماراتي مصري أردني، ولكن تطويع لبنان مسألة متعذرة لارتباطها بتوازنه الداخلي المرتكز على العداء لـ»إسرائيل» ولبنانية الآبار والمتحالف مع مد إقليمي كبير يُعِينهُ على مقاومة كل انواع الضغوط.
هذا الى جانب أن حزب الله لن يتسامح مع اي عدوان إسرائيلي عسكري أو تحريض أميركي سياسي في الداخل، والكل يعرف أن مثل هذه الأمور، تستنفر حزب الله نحو حرب مفتوحة تضع كامل الكيان المحتل تحت مرمى صواريخه، وتصبحُ مناطق لبنان كمائن لمجابهة أي تقدم للجيش الإسرائيلي بطريقة أكثر احترافاً من ذي قبل.
كوشنر إلى أين؟ يسقط مشروعَه لبنانياً وفلسطينياً وسورياً متلقياً ضربة مميتة فيعود ساترفيلد في مراحل لاحقة وتحت وطأة المنافسة الأميركية للغاز الروسي لعرض تسوية تشبه الموقف اللبناني المصرّ على الثروة والسيادة من دون استرهان وشروط مسبقة.
No comments:
Post a Comment