ديسمبر 12, 2019
د. وفيق إبراهيم
الضغوط الاميركية والاوروبية على لبنان لا تعمل إلا من اجل تمكين نفوذها العام في السياسة والاقتصاد الى الاستراتيجية، لكنها تحتاج في هذا العملية الى واجهات ترفع شعارات داخلية للتمويه، فيستفيد الخارج منها مفسحاً المجال لقوى لبنانية، تصعد في السلطة الى حدود الإمساك بها.
واحدة من هذه القوى هي الحريرية السياسية التي استطاعت بدعم خارجي سياسي تشكل في 1982 من تقاطعات أميركية سعودية وسورية، من الإمساك بالدولة على قاعدة ان صاحب المعادلة هو المرحوم رفيق الحريري الذي كان يشرف على تحاصص داخلي، وعملية إنماء أديا بعد 27 عاماً الى افلاس بانهيار اقتصادي لا مثيل له منذ تأسيس لبنان الحديث في 1943.
حتى أن البلاد تقبع حالياً في قلب ازمة اقتصادية بنيوية سببها طبيعة الدولة غير المنتجة، الفساد السياسي وإنفاق مصرف لبنان المركزي وكامل الإيداعات المصرفية لديه وذلك على حاجات الطبقة السياسية وفسادها وأرباح المصارف وصولاً الى أموال التقاعد والضمان، هذا يكشف مدى عمق الانهيار وتجذّر الفساد.
إن هذه الطبقة نفسها تنتظر حالياً معونات اوروبية وغربية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، بمعنى أنها تمارس لعبة الانتظار لإعادة إنتاج دورها السياسي من خلال الأموال الخارجية.
لكن الراصد لحركة التاريخ يعرف أن لا أموال أجنبية يجري توزيعها كحسنات على بلدان منهارة، بقدر ما تمثل هذه الانهيارات كمائن وفخاخاً لاعتقال بلدانها وأسرها ضمن النفوذ الاقليمي والدولي والممارسات لإحسان مشبوه له خلفياته الاستراتيجية المختبئ خلف بلاغة اللغة.
هناك اذاً حراك شعبي يطالب بإسقاط الطبقة السياسية بكاملها وعلى رأسها الحريرية السياسية، وهناك ضغط اميركي اوروبي لتشكيل حكومة تكنوقراط برئاسة سعد الحريري، ما يضع هذا الحراك في مواجهة النفوذ الغربي والحريرية في آن معاً، فهل هذا يكفي؟
الواضح أن اصحاب النفوذ الخارجيين لم يجدوا في حريرية سياسية متهمة بتدمير لبنان وحريرية إدارية رعت عملية إفلاس إداراته، لم يجدوا فيها الأداة الداخلية الملائمة لإحداث انقلاب كبير يستطيع تدمير معادلة تحالفية راسخة بين التيار الوطني الحر وحزب الله وحركة امل.
ولهذا أسبابه التي تبدأ بتراجع هذه الحريرية وطنياً وضمن مداها المذهبي السني، فقام الاستاذ الخارجي بنسج تقاطعات بين الحريري وحزبي القوات لجعجع والاشتراكي لجنبلاط. محركاً احزاباً صغيرة وجمعيات تعمل داخله وخارجه.
كان المطلوب إعادة ضخ عيارات جديدة من القوة في جسد حريرية متداعية الى ان توصل مهندسو إعادة إنعاشها الى ضرورة عودتها الى الإمساك بطائفتها من خلال أهم مركز ممسك بالدين والغيب في بلد مزدحم بالطوائف والمذاهب والملل.
فكان سماحة المفتي دريان جاهزاً لإصدار حظر ديني يمنع على كل مسلم سني ان يصبح رئيساً لمجلس الوزراء باستثناء «السعد». فجاءت الفتوى لصالح احتكاره الفردي لهذا الموقع، ومنع أي قوة أخرى منافسة من طرح اي اسم آخر، وإلا فإن غضباً ربانياً قد يرسل خصمه وبسرعة البرق الى جهنم وجوارها.
بهذه الطريق أصيبت الحريرية بورم غير صحي في الحجم، لا يرقى الى مرتبة الإنعاش، لان قوتها الظاهرة حالياً تستمد من اللعب بالسلب وليس بالإيجاب، اي باستعمال التحريض المذهبي الطائفي وليس بالإقناع السياسي الوطني.
هناك إضافات أقوى خدمت عودة الروح الى الحريرية السياسية، وتتجسّد بإصرار حزب الله وحركة أمل على إعادة تكليف السعد لتشكيل الحكومة لأسباب داخلية وخارجية، وأولها أنها تخدم تنفيس الاحتقان المذهبي والطائفي وتلبي تأييداً أميركياً أوروبياً خليجياً له لثقة هذه القوى في الولاء الغربي للحريرية منذ تأسيسها على يد المرحوم رفيق الحريري وعلاقاته الحميمة بآل سعود.
بذلك يجمع رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري بين التأييد الاميركي الاوروبي والطائفة السنية وولاء حلف جنبلاط جعجع والموافقة القسرية لأمل وحزب الله إنما بشروط. فهل تكفي هذه العناصر لعودة السعد الى رئاسة الحكومة وعودة الروح الى الحريرية السياسية؟
لقد منحت هذه العناصر قوة لسعد الحريري كي يتمسّك بحكومة تكنوقراط، مستنداً إلى معادلة خطيرة جداً وهي «إما أن أكون أنا أو لا يكون البلد» فيبدو بالمواربة أنه ملتزم سراً بإصرار أميركي على ابعاد حزب الله ووزير الخارجية باسيل، عن الحكومة مُشرعاً الابواب لحكومة متأمركة قد لا تتأخر بعد تشكيلها عن المطالبة بتجريد حزب الله من سلاحه حين تتأمن ظروف إقليمية او داخلية ملائمة لها.
ألم يفعل المطران عودة الأمر نفسه في عظته في الكنيسة بمناسبة دينية؟ متجاهلاً الأهمية الوطنية لحزب الله في مجابهة «إسرائيل» والارهاب، فلو لم يقف حزب الله في وجه إرهاب كوني مدعوم من قوى غربية وخليجية وتركية، أكان يمكن لأي مطران أو مفتٍ أن يلقي خطباً عصماء أو يرعى صلوات جامعة؟
الحريري اذاً قاب قوسين أو أدنى من تكليفه بتشكيل حكومة جديدة لا بدّ أن يراعي فيها تمثيل حزب الله والتيار الوطني الحر ولو كره الكارهون، مستفيداً من دعم أوروبي له بحكومة تكنوقراط فيها سياسيون بأعداد لا تزيد عن الأربعة وزراء بمقاسات معتدلة.
وبذلك يستفيد من إسناد مجموعة الدعم الدولي للبنان، المنعقدة في باريس التي قررت إرسال دعم اقتصادي جديد لإنقاذ لبنان من الانهيار الاقتصادي.
فهل تعود الروح الى الحريرية السياسية؟هذا ما يأمله الحريري، لكن معادلات القوة التي يمسك بها ثلاثة أطراف هي التيار الوطني الحر وحزب الله والحراك الشعبي تؤكد أن مرحلة الانتفاخات الطائفية ذاهبة الى ضمور وسط صعود للقوى الوطنية التي تقاتل كل أنواع السرطانات الداخلية في النظام الطائفي اللبناني والخارجية في «إسرائيل» والنفوذ الغربي الذي يلوح بالإنقاذ المالي لتطبيق اهداف سياسية متهالكة.
River to Sea Uprooted Palestinian
No comments:
Post a Comment