الخميس 27 شباط 2020
متواصلة بعناد، وبلا هوادة، عدوانية الغرب على الشرق. طاقة عدوانية غريبة باستمراريتها، وثباتها، وجبروتها، لا تلبث أن تتعدّى وتدمّر وتقتل وتخرّب، وإن خسرت فببعض ردّ فعل مقاوم من شعوب الشرق، الذي لم يغب عن لسانه طعم هذه العدوانية الشرسة على مراحل تاريخية مختلفة.
والاستعمار ليس أماً حنوناً، كما صوّره كاتبو التاريخ الحديث، ولا الإمبريالية أباً للشعوب. الأم وابنتها دمرتا الكرة الأضية، وحياة الشعوب عليها. جاء الاستعمار الفرنسي، ودخل دمشق، وأوّل ما قام به قائد القوات الفرنسية، الجنرال غورو، خلال الحرب العالمية الأولى، أنه قصد قبر صلاح الدين الأيوبي، أحد أبرز رموز هزيمة الصليبيين من الشرق، ورفسه بقدمه قائلاً: «يا صلاح الدين أنت قلت لنا إبان الحروب الصليبية: إنكم خرجتم من الشرق ولن تعودوا إليه. وها نحن عدنا فانهض لترانا في سوريا».
كرّس غورو النزعة الاستعمارية لبلاده، وللغرب برمّته؛ فالصليبية كانت أوروبية الطابع، ولم تنتمِ إلى دولة محدّدة، وقومية معيّنة. لم تكن جرمانية، تحديداً، ولا إفرنجية تحديداً، ولا أنكلو ساكسونية تحديداً. كانت كل ذلك، مع غيرها من مختلف القوميات الأوروبية. زرعت لمام شعوب من مختلف دول العالم مكان شعبٍ آخر في فلسطين، فكان الكيان الصهيوني. ثمّ تنبعث اتحاداً أوروبياً، بعد قرون طويلة على حدود الألفيتين الثانية والثالثة.
وتتجدّد العدوانية بصلافة وإصرار مع الوريث الأشرس، الإمبريالية الأميركية، فتستبيح العالم وتقتل وتدمر، ولا تكلّ عدوانيتها، كما لا يضعف إصرارها على العدوان. تغزو أفغانستان، ثم العراق، تستبيح أميركا اللاتينية بمؤامراتها، ولا تكلّ أمام هزيمة من هنا، أو ضربة من هناك، فتستعيد قوّتها، وتعيد هجومها العدواني، مستفيدة ممّا يشبه وحدانية سيطرتها وبطشها في العالم. تكرّس حضورها المباشر، وغير المباشر في سوريا والعراق ولبنان، مستهدفة تكريس سيطرتها، وكذلك محاولة مجابهة أي نهوض آسيوي، فتضع إيران في أول استهدافاتها، وتخطّط للصين منعاً لنهوض يقضّ مضاجعها.
جملة تحوّلات وانتصارات تكتيكية تُعزّز من حضور محور المقاومة في كل الساحات وتضع المنطقة في مرحلة التحرير المباشرة
لكنّ حركة التاريخ لا تعود إلى الوراء، بل تتقدم مهما كان ببطء، وفي ظل نهوض آسيوي غير منضبط، تعجز الإمبريالية الأميركية عن مجابهته، يتقدّم المحور الشرقي بتؤدة، خطوة خطوة، لا يريد للمجابهة أن تصل إلى ذروة عنفوانها، لأنه لا يريد أن ينجرّ وراء نزعة الإمبريالية الأميركية إلى تدمير الحياة البشرية على الأرض بمجابهة شاملة. وبقدر ما هي غريبة النزعة العدوانية بصلفها واستمراريتها، مستوى الرد الشرقي منضبط في الحدود المرسومة له: تقدم من دون تراجع، ولا تسرّع. يتضمن الرد في طياته قراراً نهائياً بالمجابهة حتى نهايتها، التي قد تطول تحت مؤثرات الضبط المرسومة لعملياتها على المستويات الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية. لذلك، تطول المجابهات العسكرية المباشرة الشرسة في سوريا، واليمن، وتتخذ في العراق ولبنان منحى الحراك الشعبي.
في هذه الأجواء، نلاحظ تطورات ميدانية في سياق التحولات الاستراتيجية الواقعة في سياق مواجهة المشروع الأميركي في المنطقة. ولا بدّ من التوقف عند التطوّر العسكري على جبهتي اليمن وسوريا؛ هجومان يعبّران ضمناً عن الهجوم الشامل الذي تقوده جبهة المقاومة لدفع أميركا وحلفائها إلى مزيد من التراجع؛ فالجيش السوري دخل مرحلة متقدمة لحسم معركة إدلب. وفي اليمن، سجّل الجيش اليمني و«أنصار الله» تقدماً استراتيجياً على جبهة مأرب، والجوف، بعد النجاحات الكبيرة على جبهات نهم، وكتاف، ما يعني دخول الجيش السعودي مرحلة حرجة في اليمن.
في لبنان، قال فلتمان إذا لم تضعوا حداً لحزب الله، فسيعود لبنان إلى العصر الحجري. هي لغة الأم المزعومة بالحنون. «إما لبنان لنا، أو… لا لبنان». هكذا يريد الغرب لبنان الذي رسمه على قياس مصالحه، ومن أجل مخططاته، وواهم من لا يزال يعتمده وطناً قائماً بحدّ ذاته، موئلاً دائماً لأبنائه المقيمين فيه. وعندما حاول الحكم اللبناني التوجّه نحو الشرق، انطلقت الحركة التي يعتمدها فلتمان في استراتيجيته، إما لإعادة لبنان إلى أحضانه بالتمام والكمال، خالياً من المقاومة، أو لإعادته إلى العصر الحجري كما هدّد فلتمان، ابتداءً منذ السابع عشر من تشرين الأول / أوكتوبر المنصرم. وفي العراق، تتخذ الحركة منحًى أكثر تجذّراً، حيث تجمعت كل القوى الوطنية في المجابهة، يعزّزها الحضور الإيراني المقاوم الذي حسم قراره بإخراج الأميركي من المنطقة.
جملة تحوّلات، وانتصارات تكتيكية، تعزّز من حضور محور المقاومة في كل الساحات، عسكرياً وسياسياً، وتضع المنطقة في مرحلة التحرير المباشرة، كما تقرّبنا من الهزيمة النهائية لغورو الاستعماري، وفلتمان الإمبريالي، بانتظار تحقيق النصر الاستراتيجي، إن على المستوى العسكري أو الاقتصادي ــ وهو من أهم عناصر المجابهة ــ أو السياسي، مهما امتدت المجابهة، وطال أمدها.
*كاتب وباحث في الشؤون الاستراتيجية
Related Articles
No comments:
Post a Comment