يذهب الكثيرون بعيداً في تصنيف القوة الروسيّة الصاعدة بأنها حليف استراتيجيّ لمحور المقاومة ولديهم الكثير مما يخدم تصنيفهم هذا.
فيما يذهب آخرون وهم ليسوا قلة، بتصنيف الروس بأنهم بقايا سياسة قيصريّة تبحث عن مصالح تاريخيّة في منطقتنا من المياه الدافئة، الى مصادر الطاقة الواعدة، وهؤلاء أيضاً لديهم الكثير مما قد يؤكد تصنيفهم هذا.
غير أنّ الجغرافيا السياسية وموازين القوى المتحركة على أرضنا والتحوّلات الدولية المحيطة ببلادنا العربية والإسلامية والتحوّلات الروسية الداخلية ما بعد الحرب الباردة قد تعزز تصنيفاً آخر، فلنرَ ماذا تقول تلك الوقائع:
أولاً: إنّ صعود فلاديمير بوتين لسدة الحكم في موسكو على أنقاض البيروسترويكا والحرب الباردة جعل روسيا الحديثة تظهر بمثابة خليط من القيصرية والسوفياتيّة، ذلك انّ حاكم روسيا الجديد قام ببناء سياسته الخارجية الجديدة على 3 أركان هي:
1
ـ إحياء القومية الروسية.
2
ـ إحياء الكنيسة الأرثوذكسية.
3
ـ إحياء سياسة الاتحاد السوفياتيّ الخارجية تجاه الحلفاء التقليديين (أو ما يسمّونها في موسكو بمحاسن الاتحاد السوفياتي).
وقد شكلت هذه في ما بات يُعرَف بعقيدة بوتين.
ثانياً: برز نجم بوتين ودور روسيا الجديد بالترافق مع تحوّلات دوليّة مهمّة يمكن تلخيصها بأنها نهاية «حرب عالمية» ضدّ الإرهاب كان بطلها محور المقاومة بقيادة الجمهورية الإسلامية ما جعل الحاكم الروسي الجديد الباحث عن إحياء دور بلاده السوفياتية القديمة بحاجة ماسة ليكون المظلة الحامية لهذا النصر التاريخيّ حتى يتمكّن من اقتطاف كلّ ثمار النصر هذا لصالح بلاده مرة واحدة.
ثالثاً: ولأنّ زعيم روسيا القومية الصاعدة يعرف تماماً أنّ بلاده «القارية» في جغرافيّتها السياسية ستكون بحاجة للخروج إلى أعالي البحار إذا ما أرادت أن تلعب دور المنافس الجديد للقوى البحرية الكبرى، لذلك رأى انّ تحقيق حلم استعادة الدور الروسي العالمي يتطلب منه أن يحيي السلوك القيصري التاريخي في التعامل مع كلّ اللاعبين الصغار كما الكبار على حدّ سواء، المنتصرين منهم كما المهزومين في الحرب على الإرهاب.
وهنا تماماً يمكن فهم سلوك موسكو البراغماتي والنفعي المحض تجاه تركيا وأخيراً السعودية والإمارات وقطر، ما جعلها (أيّ موسكو) تظهر على غير توافق مع قوى محور المقاومة وأحياناً على تضادّ، ولو في الشكل.
رابعاً: ثمة عامل رابع شديد التعقيد يدخل في تحديد السياسة الروسية البوتينية إذا جاز التعبير وهو:
علاقة الروس باليهود تاريخياً وحاضراً والتي يمكن تلخيصها كما يلي:
١– كانت روسيا القيصريّة أول مَن شنّت الحملة المناهضة لليهود في ثمانينيات القرن التاسع عشر، فيما عرف بسياسة «البوغروم» باعتبارهم المافيا أو القوة الخفية المسيطرة على المال والاقتصاد الروسي والتي اعتبرت بمثابة التهديد للأمن القومي الروسي القيصري آنذاك.
٢– كانت روسيا أول دولة أو من بين أولى الدول التي اعترفت بالكيان الصهيوني بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة.
٣– لدى روسيا نحو مليون ونصف مليون مواطن روسي داخل الكيان يحملون الجنسيّة المزدوجة، يقضي الدستور الروسي بواجب الدفاع عن أمنهم كمواطنين مثلهم مثل المواطنين داخل الاتحاد الروسي.
ولما كان الرئيس فلاديمير بوتين قومياً وقيصرياً في عقله الباطني السياسي، فهو مرة كان مضطراً لمهاجمة المافيا الماليّة اليهودية الموجودة في تلابيب الاتحاد الروسي وقمعها بشدّة وهو في حال صعود وتعزيز موقع قيادته الجديد تحت عنوان الدفاع عن أمن الدولة، فيما هو الآن مضطر كثيراً وكثيراً جداً، لمداراة من تبقى من هذه المافيا التي لا تزال متحكّمة في كثير من دوائر الاقتصاد والإعلام الروسيّين، من أجل توظيف ذلك في سياسته الخارجية التي باتت تتطلب كسب جميع من في الداخل ومن في الخارج من قوى مؤثرة، في إطار مواجهة سياسة الحصار والبطش الأميركي ضدّه.
عقيدة بوتين المشار إليها آنفاً ومجموعة العوامل المؤثرة التي لعبت دوراً في تسلّمه مقاليد الاتحاد الروسي أولاً ومن ثم الجغرافيا السياسية المتغيرة التي رفعته من مجرد حاكم روسيّ قويّ الى لاعب دولي كبير، هي التي تفسّر اليوم وجهَي التناقض في الظاهرة البوتينية تجاه بلادنا العربية والإسلامية، بين مَن يعتبره مقاولاً شريفاً مدافعاً عن حقوقنا في المعركة المناهضة للإرهاب وللامبريالية، وبين من يضعه في صف المقاول المتعارضة مصالحه مع سياساتنا المقاومة ضدّ الامبريالية والصهيونية.
خلاصة القول، فإنه وفي ظلّ التحوّلات الاقليمية والدولية المتسارعة فإنّ موسكو بقيادة بوتين قوة صديقة لنا بقدر ما نحن أقوياء وثابتون ونعرف ماذا نريد وقادرين على توظيف قوّتها باتجاه ما نريد، تماماً كما فعلت ايران وسورية حتى الآن.
وفي غير ذلك فقد لا نستطيع الاستفادة منها، بل وربما خسرانها، في حال فكرنا بطريقة المقاول بدلاً من المقاوم.
بعدنا طيّبين قولوا الله…
No comments:
Post a Comment