الجمعة 30 تموز 2021
تأتي زيارة وزير الأمن الصهيوني، بيني غانتس، واجتماعه مع نظيرته الفرنسية فلورانس بارلي، ضمن مساعي حكومة الاحتلال إلى احتواء التداعيات السلبية لفضيحة برنامج «بيغاسوس» الذي أنتجته شركة «إن إس أو» الإسرائيلية، والذي استُخدم من قِبَل المغرب للتجسّس على هاتف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيس وزرائه السابق إدوارد فيليب، و15 وزيراً ونائباً ومسؤولاً سياسيّاً. البيان الصادر عن وزارة الدفاع الفرنسية بعد الاجتماع، يشي برغبة في تجاوز التداعيات السلبية المذكورة، إذ يشدّد على ضرورة تقديم إسرائيل «التوضيحات التي تطلبها فرنسا، والأساسية بالنسبة إلى الثقة والاحترام المتبادل بين البلدين»، وإطلاع المسؤولين في هذا البلد «على مدى معرفة الحكومة الإسرائيلية بأنشطة زبائن إن إس أو». الارتباط العضوي بين الشركة المشار إليها والأجهزة الأمنية والعسكرية الصهيونية، لم يكن خافياً على العديد من الخبراء والصحافيين الفرنسيين، في السنوات الماضية، أي قبل «الفضيحة» الأخيرة. فهذا لوي إمبير في «لوموند»، يشير في مقالة بعنوان «برنامج بيغاسوس: مجموعة إن إس أو في قلب القوة الناعمة الإسرائيلية»، إلى أن «الشركة المنتِجة للبرنامج والحكومة الإسرائيلية تعملان يداً بيد لبناء تحالفات جديدة، وخدمة مصالحهما على المستوى الدولي». لم تكن الأجهزة الأمنية الفرنسية غافلة عن هذه الحقيقة، وطلب «توضيحات» من قِبَل رسميين فرنسيين يعكس حرصاً على الحفاظ على التعاون المتعاظم في الميادين التكنولوجية والأمنية مع الكيان الصهيوني، باعتباره مصدر إلهام في كيفية خوض «الحروب الجديدة»، الموجّهة أساساً ضدّ السكان والحركات الشعبية، نتيجة لخبراته المتراكمة في هذا المضمار في فلسطين المحتلّة ولبنان. هو «نموذج» يُحتذى بنظر قطاعات وازنة من النُّخب السياسية الفرنسية والغربية، وكذلك بالنسبة إلى زبائنه التقليديين من أنظمة فاسدة ومستبدّة في جنوب العالم، ومنه العالم العربي. لكن، وفي مقابل هذا الحرص على العلاقات مع «الدولة – النموذج»، فإن اللافت هو أن الأخيرة لا تقيم اعتباراً فعلياً للدول الأعضاء في «نادي معجبيها»، باستثناء الولايات المتحدة وروسيا والصين، كونها دولاً قادرة على ردّ الصاع صاعين في حال تجرّأت إسرائيل على استخدام منتجاتها التكنولوجية للتجسّس عليها.
حبٌّ من طرفٍ واحد
قيام إسرائيل ببيع برنامج «بيغاسوس» للمغرب لكي يستخدمه الأخير للتجسّس على المسؤولين الفرنسيين، يُعدّ تطوّراً يستحقّ التأمّل فيه، لأنه يكشف تحوّلاً في طبيعة التحالفات التي تنسجها تل أبيب وفي نظرتها الفعلية لِمَن تعتبرهم حلفاء من «الدرجة الثانية». محاولات إسرائيل للتجسّس حتى على أهمّ حلفائها، ليس بالأمر الجديد. جميعنا يذكر قضيّة الأميركي جوناثان بولارد الذي اعتُقل سنة 1985 بتهمة التجسّس على بلاده لحسابها. الجديد هو بيعها برامج تجسّس لدول أخرى تعمل على تطوير علاقاتها معها، كالمغرب مثلاً، دون التأكُّد من عدم استخدامها ضدّ حلفاء آخرين، كفرنسا مثلاً. يعزو فردريك مورو، الخبير الفرنسي في شؤون الدفاع، في مقابلة مع «لوموند»، عدم اكتراث إسرائيل لردّ الفعل الفرنسي أو الأوروبي تجاهها، إلى قناعتها بأنه سيكون في غاية الضعف. ولا شكّ في أن هذا الرأي يتضمّن الكثير من الوجاهة لأن التحوّلات البنيوية، السياسية والاجتماعية، التي شهدها الكيان الصهيوني في العقود الماضية، وطغيان التيارات الفاشية القومية والدينية على المشهد السياسي فيه، كان لها أيضاً أثر كبير على الفهم السائد للوضع الدولي وللتحالفات. العالم من منظور هذه القوى، بات غائباً أكثر من أيّ حقبة سابقة، وموازين القوى الفجّة هي التي تحكم تعامل أطرافه بعضها مع بعض، صراعاً وتقاطعاً وتحالفاً. إسرائيل لا تحترم إلّا الأقوياء، وهم في حالتنا الولايات المتحدة وروسيا والصين، وتتجنّب استفزازهم. أمّا الآخرون، فهي تتعاطى معهم، وكما أظهرت «الفضيحة»، وفقاً لأولوياتها الظرفيّة.
لم تَعُد قوّة إسرائيل «الناعمة» تستند إلى ادّعاءاتها بكونها «واحة ديمقراطية» في محيط من البرابرة
وما فعلته مع فرنسا، لن تتردّد في تكراره في المستقبل مع دول كالمغرب والإمارات والسعودية إذا اقتضت مصالحها المتغيّرة ذلك. لا تحالفات ثابتة، أو على الأقلّ تجنّباً للتأزيم، إلّا مع الأقوياء. هي لم تراعِ الاندفاعة الفرنسية غير المسبوقة حيالها في السنوات الماضية، والتي فصّلها الباحث والصحافي الفرنسي، جان ستيرن، في سلسلة مقالات على موقع «شرق 21» عن اللوبي الإسرائيلي في بلاده. فشركة «إلبيت» الإسرائيلية تساهم في إنتاج نظام «العقرب»، وهو في قلب استراتيجية القوات البرية الفرنسية في العقود القادمة، و»يسمح بتطوير قيادة رقمية واحدة تعتمد على وصلة مشتركة تسمح للجنود المنتشرين في الميدان وكذلك للأدوات العسكرية الجديدة، مثل الطائرات من دون طيار والروبوتات، بأن تكون متّصلة في وقت واحد لتستبق بالتالي ردود فعل العدو». أمّا الشركات الفرنسية العاملة في حقل التكنولوجيا الرقمية، فـ»جميعها تريد الموساد عندها»، بحسب العنوان الحرفي لإحدى مقالاته في السلسلة المشار إليها آنفاً، والتي يتحدّث فيها عن مدى إعجاب الشركات الخاصّة وصناعات الدفاع الفرنسية، بإنجازاته في المجالات التكنولوجية، خاصّة برنامج «بيغاسوس». وهذه المقالة نُشرت في 26 نيسان الماضي، أي قبل «الفضيحة»، ما يضعنا أمام هُيام من طرف واحد يقابله عدم اكتراث، إن لم يكن ازدراء من الطرف الآخر.
جاذبية نموذج السيطرة والتنكيل والقتل
لم تَعُد قوّة إسرائيل «الناعمة»، أي جاذبيتها، تستند إلى ادّعاءاتها بكونها «واحة ديمقراطية» في محيط من البرابرة و/أو الأنظمة المستبدة. فقدت هذه السردية الحدود الدنيا من الصدقيّة على نطاق الكوكب. جاذبيتها اليوم تستند إلى خبراتها ومعارفها في ميدان القوّة الخشنة، والتي اكتسبتها من خلال حربها المستمرّة على الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة وقواها المقاومة. وحتى كاتب صهيوني «معتدل» كيوفال هراري يعترف بذلك في مقالة كتبها بعنوان: «سنستطيع قرصنة البشر قريباً»، يعتبر فيها أن «الضفة المحتلّة هي حقل تجارب بالنسبة إلى الإسرائيليين حول كيفية بناء ديكتاتورية رقميّة. كيف نستطيع التحكُّم بـ2,5 مليون من السكان عبر استخدام الذكاء الاصطناعي والبيغ داتا والطائرات المسيّرة والكاميرات؟ إسرائيل رائدة في مجال الرقابة والسيطرة: تقوم باختبارات ميدانية، ومن ثم تصدّرها نحو بقية العالم». وعلى الغالب، فإن هذه الخبرات وما تتيحه من قدرات أمنية وعسكرية وتكنولوجية، لأطراف تعتبر الشعوب أو قطاعات معتبرة منها، مصدراً رئيساً للتهديد، هي بين أبرز الاعتبارات التي تُفسّر هيامها بالنموذج الإسرائيلي.
مقالات مرتبطة
No comments:
Post a Comment