فبعد الربيع العربي عرفنا أن الطرق كلها تؤدي الى تل أبيب سواء كان السائرون على الدرب ملوكا فاسدين أو رؤساء الواقعية السياسية أو اسلاميي الناتو .. ولم يعد أهل مكة أدرى بشعابها بل أهل تل أبيب أدرى بشعاب مكة وسكان مكة وشعاب الدوحة سكانها وشعاب الرياض وسكانها وشعاب أنقرة وسكانها وشعاب غزة وحمساوييها..وشعاب تونس وغنوشييها ..وشعاب مصر واخوانييها..
ما ذكرني بمقولة طريق روما وشعاب مكة برنامج سخيف يقدمه المعارض الغامض والمشبوه أيمن عبد النور ويسمى (الطريق الى دمشق) وهو على نسق الطريق الى كابول وغيره من الطرق التي يخوض فيها التائهون والضائعون والهائمون على وجوههم منذ عدة عقود .. ولكن الحقيقة هي أنه برنامج يدل على (الطريق من تل أبيب الى دمشق) وفحواه هو (تعلم الطريق الى تل أبيب من دون معلم في خمسة أيام).. ويقدمه أيمن بشخصيته القلقة التي تسعى جاهدة لاقناعك بالهدوء وتنظر نظرات مريبة غريبة الى الشاشة قبل أن تحط على وجوه الضيوف بطريقة تدل على معرفة كل ماسيقوله الضيف سلفا ..والضيوف هم دوما شخصيات متعبة يقوم أيمن بالتقديم لها كما يقدم مذيعو العالم الثوري لغيفارا أو تروتسكي أو فيديل كاسترو ..
وفي محاولة لتصنيع عبوات ثورية يعدد لنا كتبهم ومؤلفاتهم العظيمة وكأنها كتب كارل ماركس وفريدريك أنكلز أو ماو تسي تونغ .. لكنها في الحقيقة تذكرني بمؤلفات كانت تصلني من مؤسسات نشر لكتاب سعوديين وخليجيين يعتقدون أن الطبعات الأنيقة الفاخرة ترخّم الشعر وتفرش الأدب بالبلاغة والسياسة بالدهاء .. لكن أكثر توصيف يليق بها هي أنها مؤلفات لمحو الأمية .. فأرض الحجاز لم تعد أرض المعلقات حيث ولدت أشعار عنترة وتسابق النابغة مع اللغة وراقص زهير بن أبي سلمى القوافي وداعب الشنفرى وعروة بن الورد شفاه الموت بالسيف والقصائد .. ماتت اللغة في جزيرة العرب منذ أن وصل اليها مفكرو السلاطين و”ملوك السيفيلس” والسيلان .. ولايمكن لهذه الأرض المروية بالجهل بعد الجهل بعد الجهل أن تنبت الا فكرا مهيضا محوره القتل والجنس المكبوت ..
ولم أحس بالحرج عندما دفعت بعض الكتب الأنيقة الطباعة والمكلفة في طباعتها الى مقبرة في مكتبتي التي تستضيف بعضا من كتب الثورجية ومن بينها كتب برهان غليون .. وأنا أدفن هذه الكتب والأسماء من دون مراسم دفن ولاعزاء حيث رفوف النسيان في مكتبتي اذ تنتصب عليها الكتب كلوحات المقابر وتصطف مومياءاتها بلا حراك منذ سنوات.. بل لم اتردد في أن أدفع بعضها الى سلة المهملات لأنها لاتستحق حتى قبرا في مكتبة ولم أجد حلا معها الا المحرقة بعد أن قرأ ت أسطرها الاولى لشدة تفاهتها بالرغم من أن من قدم لها كتاب عرب مرموقون يبدو أنهم قبضوا المعلوم لالباس هذه الكتب المشوهة وشاح الادب المقدس .. فالأدب المقدس ياسادة لابد له من أن يمر بدمشق أو بغداد أو القاهرة أو بيروت ..أما من الرياض فلا يمر الا الجهل والأدب المغطس بالجهل الأسود .. ومن الدوحة فلا يمر الا أدب الجواسيس وبيع الذمم ..ومن أميريكا فلن يصل الا منشورات السي آي ايه .. ولن يصل من تلك الأرض الى سورية الا من يقطع رأس الفكر والتفكير والذي تمثّل في قطع رأس تمثال الثائر المفكر أبي العلاء المعري .. وقطع رأس المعري نتيجة منطقية في هذا العصر لأنه عصر لايقبل فيه رأس المعري أن يجتمع مع رأس فارغ مثل رأس حمد ورؤوس قطعانه وأبقاره .. ولايقبل فيه صاحب شعر الحماسة ورسالة الغفران أن يسير في الطريق الى تل أبيب على خطى أيمن عبد النور ومعارضته .. وبدلا من عبارة المعري الشهيرة الثائرة (هذا ماجناه أبي عليّ، وماجنيت على أحد) فسنكتب منذ اليوم على تمثاله:
هذا ماجنته عليّ الجاهلية .. وعصر الثورجية .. وأبناء موزة وبغلها حمد
وبالطبع برنامج الطريق الى دمشق هو برنامج يستضيف شخصيات بائسة من نماذج أولئك الكتاب السعوديين ولكن بنسخة سورية ثورية يتحدثون في السياسة .. ويقوم أيمن بدور المحقق الطيب حيث يرغم مضيفه على السير ببلاهة وفق اشارات مرور يقف عليها أيمن الذي يسأل أسئلة يفهم منها الضيف أن عليه السير في ذلك الاتجاه .. وبالطبع فان أكثر الشخصيات التي تثير السخرية هي ثورجيو أميريكا لأن هؤلاء المساكين مصابون بداء جنون العظمة لأنهم يعتقدون أن مجرد كونهم يعيشون في بلاد العم سام أو يحظون بجنسيتها أو وظيفة فيها فان لهم الحق في الوعظ والاستعلاء والنصيحة لشعوب أدنى منهم لأن هؤلاء تشربوا الحضارة والفكر ونور الحرية .. ولولا أنني أعرف ماهو الحال في الغرب والولايات المتحدة جيدا لانطلت علي هذه التمثيليات ..
ولذلك فان الكثير من هذه المقابلات أقضيه في تأمل الغرور الأجوف والنظريات الخرقاء المثقوبة وعقد النقص وهم ينصحون ويسترسلون في تقريع النظام وتذكيرنا أنهم الراسخون في العلم .. ولكم أن تتخيلوا بأن أسهل شيء في الدنيا هو اسقاط هذه البالونات المهاجرة وسماع انفجاراتها بعد وخزها بابر المنطق والبرهان .. وأسهل شيء هو السخرية من مؤلفات هؤلاء ونظرياتهم السياسية التي توزعها لهم وكالة المخابرات المركزية الأمريكية .. وأتحداكم أن تجدوا أمريكيا عاقلا يشتري كتابا من كتبهم الفاشلة.. وبالطبع لن تتفاجؤوا ان علمتم أنه حتى أيمن عبد النور ليس لديه حتى هذه اللحظة كتاب واحد من كتبهم التي يطنب في ذكرها .. وهو لم يكن مهتما يوما بشراء كتاب من كتبهم لأنه كان مشغولا بصفقات ومشاريع الفساد الكبرى في عهود الفساد الأكبر في سورية .. ولايزال منظره لاينسى عندما طرد بطريقة مهينة ودون حياء أو اعتبار له من مكتب رئيس الوزراء السوري مع صديقه مأمون الحمصي عندما حاولا فرض صفقة هائلة لبناء صوامع الحبوب على الدولة والتي كانت تفوح منها رائحة فاسدة للغاية دون أي حياء من وطن .. ولذلك فان ثوار اليوم ربما يستولون على الصوامع أو يدمرونها كنوع من الثأر الشخصي الذي يوجهه أيمن لذلك اليوم الذي انهارت فيه مشاريع صوامعه الفاسدة..
الطريق الى دمشق في نظر الثورجيين لابد له من أن يمر بتل أبيب ولذلك كانت كل زواريب الثورة ومجارير صرفها تنتهي الى تل ابيب من رفع علم اسرائيل في حمص الى استقبال المراسلين الاسرائيليين في ادلب الى تطمينات الشقفة ومعاذ وغليون وكل الثوار لخاطر اسرائيل وسياسييها وتطييب اسمها بالياسمين والعطور .. الى مسح كل جرائم اسرائيل ونقل صور جرائمها على الانترنت ولصقها بالجيش السوري بكل خسة ونذالة .. الى التنسيق العملياتي لتنفيذ غارة جمرايا واسعاف المصابين من الثورجيين في مشافي اسرائيل .. ناهيك عن استهداف الدفاع الجوي والطيارين السوريين وأخيرا التحرش بالعدو اللدود لاسرائيل .. السيد حسن نصر الله وحزب الله..فالطريق الى دمشق قد يقتضي الموت على طريق تل ابيب والموت من أجل اسرائيل..
لكن لن يطول انتظارنا حتى نعرف ماذا يعني تعبير الأوساط السياسية الغربية في الكواليس بأن الثوار السوريين يركبون الآن في قوارب النجاة .. ولن يطول انتظارنا حتى نعرف المعنى الحرفي لعبارة الانفصال عن الواقع .. ولكن لن يطول الوقت حتى نعرف كيف أن هذه الأزمة قد حررت السياسة السورية من تقاليدها .. ونقلتها نقلة نوعية أعادت سورية الى ذلك المكان الراقي كرمز للأحرار في العالم .. وأننا في حالة ولادة جديدة..فبعد أن سيطرت الواقعية السياسية والبراغماتية وخيار (المقاومة الناعمة) المتمثلة بدعم حركات المقاومة في المنطقة دون الانخراط المباشر والاكتفاء بدور الظهير القوي فان سورية ستتحول الى أحد أكبر نقاط الحرية الثورية في العالم .. وستكون سورية بعد الربيع أشد فتكا وخطرا من سورية ماقبل الربيع .. انه عهد سورية الخشنة..التي ستستهل رحلة الطريق الى تل أبيب كما كانت رحلة صلاح الدين الى حطين لأن الجيل السوري القادم الى العمل السياسي والتنفيذي سيكون هو الجيل الذي أدار بنجاح أكبر أزمة ألمت بالبلاد منذ وجود سورية على الاطلاق..وهو جيل أثبت أنه الجيل الأفضل الذي يواجه قاع الجيل الأسوأ من الرجعية في الزمن الأسوأ بكل حنكة ومهارة ودراية ..وهو الجيل الأفضل للوصول الى تل أبيب عسكريا ومقاوماتيا..
لاشيء يدل على ورطة المعارضة الا الاستماع الى بياناتها العسكرية وانتصاراتها وتكبيراتها .. لأن المبالغة في تصوير الانتصارات والانجازات الصغيرة عبء كبير تتورط فيه المعارضة كل يوم .. وسأسمح لنفسي بالقول بأن المعركة القادمة ان تجرأ عليها الثورجيون في دمشق فستكون معركة سيبتلع فيها بلعوم الجيش السوري القطعان الثورية المهاجمة كما يبتلع بلعوم البحر الواسع سفن القراصنة المحترقة .. وأستطيع الاسترخاء وأنا أنقل بأمانة أن بلعوم الجيش مفتوح حتى أقصى مدى حول دمشق لابتلاع القادمين كما أن مايصل الجيش من معلومات من داخل المعارضة صار كثيرا جدا وهناك حالة تسابق بين بعض المسلحين لابراز الولاء للدولة ومظاهر التوبة النصوح .. وليس هناك اي أمل الا في الانتحار .. فالضجيج الاعلامي للعربية والجزيرة والتنسيقيات يثير الغبار والضباب على مناصري الثورة فلايرون أين وصلت الرحلة الثورية .. ولايعلمون كيف تم تفكيك الثورة السورية ..
لاشك أن مايسمى بالثورة السورية قد تفككت وبقي ذيلها العسكري يتلوى كما ذيل الأفعى بعد ان تم فصل رؤوس الميدوسا الثورية بهدوء عندما قام العقل السياسي المحنك السوري بفصل مسارات (مايسمى بالثورة) الداخلية والاقليمية والدولية .. وكان التركيز على فصل تلازم هذه المسارات وتفكيك تماسكها لأن الخطة كانت تقتضي اندفاع المسارات الثلاثة (رؤوس الميدوسا) في نفس الوقت .. واليوم تتخبط هذه المسارات والرؤوس وتتصادم بين تذبذبات اوباما وهولاند وتأرجح أردوغان ومرسي وصراعات الائتلاف الداخلية العنيفة..
ومما صار يتردد عن سياسة تفكيك المؤامرة انه بعد اجتماعات كثيرة كانت تتواصل حتى بعد منتصف الليل في الأسابيع الاولى للاحداث كانت القيادة السورية تتلقى تقارير تفصيلية ومتابعات ديبلوماسية وعشرات التقارير الداخلية ومن عدة عواصم صديقة نتيجة جهد ديبلوماسي واستخباري دولي وتوصلت القيادة السياسية الى وضع تصور قريب جدا من واقع الأحداث وتحديد مراكز القوى الرئيسية .. وكانت خارطة القوى المؤثرة في الحدث مكونة من ثلاث محاور 1- المحور الاول: الداخل السوري 2- الثاني: المحور العربي والاقليمي 3 – الثالث: المحور الدولي ..
وقد اتفق على أن المحور الدولي ليس جاهزا للعمل لأن التركيز الشديد كان على أن يكون على اسقاط الدولة من الداخل عبر اطلاق قناعات التغيير وتفتيت الجيش أو دفعه للانقسام والتصارع ..وكان دور المحور الاقليمي (تركيا ولبنان والأردن) أساسيا في دفع الداخل السوري لتصديق الشعارات والانفجار تحت جاذبية الشعار والكلمة والهدف والمشاعر الجياشة فيما سمي سلمية الحراك السوري..
القوى المتآمرة راهنت على أن الدولة الامنية السورية ستصاب بالهياج وسترد بعصبية كافية لاطلاق دومينو الانهيار خلال أسابيع ..وكان القرار السوري أن تتجاهل العامل الدولي الذي تكفلت روسيا والصين وايران بفرملته فيما أظهرت الدولة تراجعا أمام موجة المظاهرات في الحارات وبدا انه انحناء امام ريح خفيفة لتجنب العاصفة الصناعية .. فالشارع السوري لم يكن مشحونا ضد دولته لكن استدراج الدولة الى المواجهة كان من الممكن أن يقلب مزاج الجمهور الرمادي ..وقدرت هذه المرحلة الأخطر على الاطلاق بالأشهر الستة الاولى .. والتي ان تم تجاوزها فقد نجا النظام ..
الفرق بين السياسي المحترف والسياسي الطارئ على العمل السياسي هائل جدا .. الفارق بينهما هو بالضبط كالفارق بين قياس الزمن بالسنة الضوئية وقياسه بمقاييس الدقيقة والساعة الأرضية .. السياسات الكبرى القوية لاتقاس بوحدات اللحظة الراهنة الا في مقاييس الوهم .. والسياسة لا تقاس بالكيلوغرام ولابالمتر بل تقاس بمقاييس سرعة الضوء .. فما يحدث الآن هو أن الثورجيين يقيسون الزمن بالأشبار والأمتار .. ويزنون انتصاراتهم بالكيلو والأوقية ..في زمن السنة الضوئية السياسية ..
لذلك لن تكون قدور اللغة كافية لتحمل هموم الثورجيين وخيباتهم قريبا .. وسيحتاج الثورجيون الى كل ذخائر القواميس من الكلام والمفردات لتحمل ماسيحسون به من مرارة وقلق من الغد القادم حيث لاثورة ولاثوار بل تشرد في المنافي بلا نهاية ..
الثوار يطهون أخبارهم في قدور كبيرة من المبالغات والاستعراضات .. وينفخون في النار التي تمطر عليها أجواء الصفقات زخات بعد زخات .. والشغل الشاغل لبعض الثوار في كواليسهم (بعد أن هربوا وانشقوا وهم يعتقدون أنهم عائدون على متن الدبابات الأمريكية ليحكموا دمشق) صار هو كيف يبقون في منافيهم بلا ثورة .. وكل رأس يفكر في أن يحمل رأس ثورجي آخر هدية الى دمشق عربون ندم ووفاء .. سيحتار سيبويه وابن خلكان والثعالبي في نحت مفردات جديدة لهذه الحالة الغريبة بعدما فشلت كل المفردات في أن تكون على مقاس خيبة الثوار وبعد أن فشلت المصطلحات في أن تطفو على سطح مياه الكلام .. كلام الثوار الآن وانتصاراتهم وثورتهم يركبون قوارب النجاة ..ويمسكون أطواق النجاة فيما حيتان السياسة تحوم وتسبح بهدوء حول الغرقى .. أما سفن أحلامهم فلم يعد يرى منها الا أخشاب المراكب المتحطمة ..
الطريق الثورجي عبر تل أبيب للوصول الى دمشق معادلة مهزومة .. والمعادلة المنتصرة هي الطريق الى تل أبيب انطلاقا من دمشق على طريقة حسن نصر الله .. فاستعدوا .. فعصر المقاومة الناعمة يجب أن ينتهي .. وسيبدأ عصر المقاومة الخشنة..لذلك تبدو اسرائيل متلهفة لتوريط الثورجيين أكثر لابعاد حسن نصر الله عن حدودها قبل فوات الأوات ..وقبل أن يصل الى تل أبيب مع جيل الرئيس الأسد ..
وهذا هو باعتقادي البرنامج الانتخابي للرئيس بشار الأسد في حملته الانتخابية عام 2014 .. الطريق الى تل أبيب بالقوة والمقاومة الخشنة .. فكل الطرق التي تخرج من دمشق تمر بالقدس وتصل الى تل أبيب .. كما خرج الدماشقة يوما مع صلاح الدين… فهل سنصوت لبرنامج انتخابي عنوانه (الطريق الى تل أبيب .. بالقوة)؟؟
No comments:
Post a Comment